إرتدادات “الطوفان” في غرب آسيا.. قواعد إقليمية جديدة

قاربت حرب الإبادة على فلسطينيي غزة التي تخوضها الولايات المتحدة من خلال "إسرائيل" بلوغ الشهر الخامس، في أطول حرب يخوضها "جيش" الكيان منذ 1948 عام النكبة.

وبرغم أنها الحرب الأكثر وضوحاً للعالم أجمع بفعل التفاعل غير الرسمي لناشطي وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية، بكسر واضح لسيطرة وسائل الإعلام المملوكة بغالبيتها العظمى للدولة العميقة المهيمنة على الولايات المتحدة، فإن العجز عن إيقاف حرب الإبادة حتى الآن يطرح التساؤل عن مدى قدرة القوى الآسيوية الناهضة على مواجهة السياسات الأميركية في حرب الإبادة على أهل غزة؟

مع انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، سقط النظام العالمي المتعدد الأقطاب الذي كانت تغلب عليه الثنائية في أكثر المراحل التاريخية، لينفرد النظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة جاعلاً من نفسه نظاماً قطبياً وحيداً في العالم، مخالفاً بذلك السنن التاريخية التي حكمت مسارات الجماعات والدول والإمبراطوريات القائمة على توازن القوى ضمن مصطلح “التدافع” الذي يتيح هامشاً أكبر للجماعات والدول الأضعف في خياراتها السياسية والاقتصادية.

دفعت البشرية جمعاء وبشكل متفاوت ثمناً باهظاً من جراء انحراف المسار التاريخي عن السنن الحاكمة له بغياب مظلة التعددية القطبية، فعانت من تفاقم الحروب في أصقاع الأرض وخاصةً حروب الجيل الرابع المدمرة للمجتمعات، وتزايدت حدة التفاوت الطبقي مما وسَّع من ظاهرة الفقر والعوز في الشرائح الاجتماعية الأكبر مع ازدياد تمركز الثروة بين عدد قليل من الأفراد على حساب الطبقة الوسطى التي بدأت بالتقلص ضمن الدول الخاضعة لهذا النظام القطبي الوحيد.

بدأت العودة إلى المسار الطبيعي لسنن التاريخ مع بروز القوى الآسيوية الناهضة في القرن 21 وخاصة الصين وروسيا وإيران، وتشكُّل تجمعات عالمية جديدة مثل دول “البريكس” و”منظمة شانغهاي” و”منظومة أوراسيا”، وتوسع الهامش للدول المنخرطة في النظام الغربي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة من خلال محاولات اتباع سياسات التوازن التي تقيمها مع الصين وروسيا مقابل الولايات المتحدة (دول الخليج وأفريقيا وأميركا الجنوبية) مع تأرجح واضح لهذه الدول في سياساتها غير المحسومة بعد بين القوى الناهضة وبين الولايات المتحدة.

النظام الغربي يخوض مواجهاته وهو يمسك بقواعد الصراع، من خلال هيمنته على النظام المالي العالمي والمؤسسات الدولية وقاعدة البيانات التبادلية، مع الأسبقية في المجال التكنولوجي، بينما تخوض قوى النظام البديل صراعها معه ضمن القواعد التي وضعها الغرب نفسه منذ أكثر من مئة عام بعد الحرب العالمية الأولى

على الرغم من المواجهات المتنقلة بين القوى الآسيوية الناهضة في سوريا وأوكرانيا، فإن حرب المواجهة الثالثة التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي في إثر عملية “طوفان الأقصى”، كشفت عن جملة من الملاحظات الأساسية على بنية الصراع الدولي وآفاقه في المرحلة القادمة:

الملاحظة الأولى؛ التباين في تماسك القوى فيما بينها فالنظام الغربي يخوض حروبه الوجودية في الساحات الثلاث موحّداً خلف الولايات المتحدة التي تهيمن على قراراته ومساراته وأهدافه، على العكس من بقية التجمعات التي تخوض مواجهاتها بصيغة أقرب إلى تحالف المتضررين من جراء استفراد الولايات المتحدة بسدة القرار العالمي، مع تفاوت في الاندفاع في مواجهتهم لهذا النظام العالمي، إذ سبقت إيران بقية الدول بأشواط في خوضها المواجهة شبه المباشرة منذ نجاح ثورتها عام 1979، بينما بدأت روسيا بالالتحاق من الحرب الجورجية عام 2008.

الملاحظة الثانية؛ أن الأنكلوسكسون بعقيدتهم المسيحية الإنجيليّة المتحالفة مع اليهودية من خلال اعتبار التوراة بمنزلة العهد القديم هم القوى المهيمنة على لب النظام الغربي، وهم بطبيعة الحال لا ينفصلون عن الصهيونية من حيث الأهداف والنتائج، بينما قوى النظام البديل تختلف فيما بينها بطبيعة القوى الداخلية التي تقودها.

الملاحظة الثالثة؛ أن الصراع يدور تحت مظلة النظام الاقتصادي الرأسمالي، فأغلب دول العالم انزاحت لاتجاه تبني هذا النظام الاقتصادي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المنظومة الاشتراكية، التي أثبتت فشلها وعجزها عن اللحاق بالتقدم العلمي والتكنولوجي للنظام الرأسمالي، مع الأخذ بتباين التجارب الاقتصادية الرأسمالية للدول، بين الرأسمالية الوطنية لروسيا والرأسمالية الاجتماعية للصين وإيران والرأسمالية المتوحشة للولايات المتحدة.

الملاحظة الرابعة؛ أن النظام الغربي يخوض مواجهاته وهو يمسك بقواعد الصراع، من خلال هيمنته على النظام المالي العالمي والمؤسسات الدولية وقاعدة البيانات التبادلية، مع الأسبقية في المجال التكنولوجي، بينما تخوض قوى النظام البديل صراعها معه ضمن القواعد التي وضعها الغرب نفسه منذ أكثر من مئة عام بعد الحرب العالمية الأولى.

الملاحظة الخامسة؛ أن النظام الغربي يخوض صراعه وهو موحّد بالمحتوى الثقافي والفكري والأيديولوجي ضمن إطار الليبرالية المتوحشة بنسختها الأخيرة، بينما تخوض بقية قوى النظام البديل صراعها معه وهي متنوعة الثقافات والرؤى والأهداف، مع تأثر متباين بين أطرافه بالثقافة الليبرالية على مستوى بناء الدول وأكثر ما تبرز ضمن التحولات المجتمعية، وهذا هو الأمر الطبيعي لكنه ينعكس على سياسات هذه الدول فيما بينها برؤيتها لكل ساحة من ساحات الصراع من مبدأ الفرصة والتهديد.

إقرأ على موقع 180  من تل أبيب إلى نيويورك.. أين يقف بن سلمان؟

على الرغم من الملاحظات الخمس السابقة على الصراع الواضح بين النظام الغربي وبين القوى البديلة، فإن ذلك لا ينفي حجم المتغيرات العالمية، واستمرار انكفاء النظام الغربي لأسباب ذاتية أو لبروز قوى استطاعت أن تدفعه إلى الانكفاء واستيقاظ شعوب أفريقيا وأميركا الجنوبية، وأن المسار العام في العقود القادمة هو باتجاه تغيير بنية النظام الدولي لصالح مستقبل أقل وطأة على البشرية.

لقد كشفت حرب الإبادة على غزة عن تفاوت واضح بين أهداف محور المقاومة من جهة وأهداف حلفائه من جهة ثانية، في صراع هؤلاء جميعاً مع النظام الدولي المهيمن، فقد ذهب “المحور” بعيداً من بقية قوى النظام البديل في تحديه للنظام الغربي، بالعمل على تدمير جوهر هذا النظام الغربي ورمزية وجوده واستمراره المتمثل بالكيان الصهيوني، وهو المعوّل عليه في إحداث تغيير حقيقي في منطقة غرب آسيا بأكملها لتثبيت قواعد جديدة للعمل على مستوى الإقليم بما ينعكس على القضية الفلسطينية بطبيعة الحال وكل شعوب المنطقة.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  ميلونشون: غزة هي “غرنيكا” القرن العشرين