كانت تلك المرّة الأولى التي أتعرّف فيها، عن بُعد، على طلال سلمان. أمّا المرّة الأولى التي التقيتُ فيها، عن قُرب، بـ”الأستاذ طلال” (كما كان يحلو للجميع مناداته) فحصلت بعد قرابة ثلاثة عقود على “ذاك اللقاء” في دارة الرئيس حسين الحسيني. كان ذلك في مقابلة تلفزيونيّة جمعتني به، في 2016، مع الصحافي الراحل إدمون صعب. وكان “أبو أحمد”، يومها، محور الحلقة. إذْ كان موضوعها يدور حول سؤالٍ لطالما أزعج طلال سلمان وأحرجه: لماذا أقفلتَ “السفير”؟ ولكن، ما لم يقله الراحل على الهواء. أفضى به إلينا تحت الهواء. أي، عندما كنّا بصدد التحضير للحوار.
تحدّثنا طويلاً. في السياسة. كما في أحوال البلاد التي كانت قد باشرت رحلة الصعود إلى الهاوية بخطى حثيثة. تكلّمنا، أيضاً، في شؤون وشجون العمل النقابي وبدعة “امتيازات الصحف”. وعن انتخابات “النقابة” واقتراع ورثة أصحاب الصحف فيها. لكن، بطبيعة الحال، دار أكثرُ الكلام حول “السفير” التي كانت تحتضر. “لقد انتهى عصر الصحافة المكتوبة في لبنان”، قال لي بنبرته الخافتة المعهودة. موقف عاد ونشره طلال سلمان في مقالةٍ له، بعد عاميْن على إقفال “السفير”. وما زالت ترنّ في ذاكرتي تعابيره القاسية عن “تبعيّة صحافة الحُكّام في الخارج، وتدجين صحافة الطوائف في الداخل”.
فجأة، غيّر مسار الحديث 180 درجة ليسألني: “إنتِ من وَيْن من الشوف؟”. أجبتُه واستغربت في سرّي ذاك السؤال (من خارج السياق)! فبدأ يروي لي ذكرياته في “منطقتي” التي “نُقِل” إليها والده الدركي إبراهيم سلمان. عاش الفتى طلال في الشوف بضع سنوات. وتتلمذ في مدرسة المختارة على يد الأستاذ فوزي عابد. الشخص الذي كان أوّل مَن تنبّأ له بمستقبله “كصحافي كبير”. ولم يتسنّ للأستاذ عابد، أن يعاين “تحقّق” نبوءته بعد عشرين عاماً. أي، عندما أصبح طلال سلمان رئيساً لتحرير واحدةٍ من أبرز الصحف العربيّة. والحديث عن “سفير” طلال سلمان، قد يكون أهمّ رثاءٍ للراحل الكبير، والذي كان موت “السفير”، بلا ريب، أوّل حجر في شاهد قبره! كيف وُلِدَت “السفير”؟
“سفيره” متمايزة
قرأتُ في إحدى المرّات جملةً جميلة جداً كتبها صحافي في “النهار” عن “السفير”. فلقد كتب: “كانت السفير مفاعلاً إعلاميّاً وزّع إشعاعاتٍ فكريّة؛ بحيث غطّت صفحاتُه وإنتاجُه، في مختلف الحقول، مساحةَ لبنان والعالم العربي”. نشأت “السفير” بعد تجربة صحفيّة طويلة لطلال سلمان في أكثر من مؤسّسة إعلاميّة. واتُّخِذ قرار إصدارها، بعد تلقّي الأخير مساعداتٍ ماليّة من الزعيم الليبي “الصاعد” معمّر القذّافي الذي كان لديه توجّه لإصدار صحيفةٍ في بيروت تنافس صحيفة “النهار”.
نشأت علاقة خاصّة بين القذّافي وبين “واحدٍ من متخرّجي بيروت عاصمة العروبة” (كما يصف طلال سلمان نفسه في مؤلّفه “كتابة على جدار الصحافة” الصادر في 2012). وبدأت رحلة التأسيس من مصر، بلقاءاتٍ مع محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومجموعة من الكتّاب والفنّانين والرسّامين. ووضعت الرحلة أوزارها في نهاية الـ 1973، باستئجار مكتب صغير في شارع الحمراء (بيروت) والبدء بإعداد فريق العمل.
استطاعت “السفير” فرض حضورها على المشهد الإعلامي اللبناني من الأسبوع الأوّل على تاريخ صدورها (في 26 آذار/مارس 1974). لتقف، مباشرةً، بعد “النهار” الجريدة الأعرق في لبنان. كما وتخطّت أرقام توزيعها كلّ صحف البلد. بدت “السفير”، ومنذ البدايات، تجربة نادرة في الصحافة العربيّة. تجربة مغايرة لكلّ التجارب الصحفيّة التي سبقتها. صحيحٌ أنّ تأسيس “السفير” كان أحد ترجمات الفكرة العربيّة الأمّ التي أطلقها جمال عبد الناصر. لكن مع الوقت (ولا سيّما في السنوات الأولى)، شكّلت تلك الصحيفة اللبنانيّة “مختبراً” للأفكار والآراء المتعدّدة المشارب والمآرب. ولطالما شهدت مكاتبها جدالاتٍ فكريّة وسياسيّة وثقافيّة. تبدأ ولا تنتهي.
كصحافي، قد تختلف معه حول العديد من “المفاهيم” التي تحكم مهنتنا. لكن كصحافي، أيضاً وأيضاً، لا يمكنك إلاّ أن تكتب اسمه، بالخطّ العريض، كعَلَمٍ من أعلام الصحافة اللبنانيّة
أراد طلال سلمان أن تكون “سفيره” متمايزة حتّى في شعارها. وفي طبيعة الجمهور الذي تنطق باسمه وتتوجّه إليه. نَذَرَها لكي تكون “صوت الذين لا صوت لهم”. و”جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”. وكان له ما أراد. إذْ عبّرت صفحات “السفير”، عن اتجاهاتٍ إيديولوجيّة وسياسيّة متقاربة أو متباعدة. فحملت الحمامة البرتقاليّة إلى القرّاء، رسائل الناصريّين والبعثيّين والقوميّين العرب والسوريّين القوميّين والعلمانيّين والشيوعيّين بمختلف اتجاهاتهم (السوفياتيّة والماويّة والتروتسكيّة).
من أعلام الصحافة
فرض توقيت ولادة “السفير”، أي قبل عامٍ واحد على اشتعال الحرب الأهليّة، واقعاً خاصّاً. جعلها تولد كـ”صحيفةٍ مقاتلة”. لكنّها لم تحمل، يوماً، طابعاً حزبيّاً محدّداً. بل كانت دائماً أقوى من كلّ الأحزاب السياسيّة. فطوال 43 عاماً، استقطبت “السفير” نُخبة من الكتّاب اللبنانيّين والعرب الآتين من تجارب عدّة. وحملت صفحاتها، منذ الأعداد الأولى، أسماءً لامعة في الفكر العربي المعاصر. حاكت أجيالاً من الصحافيّين. حتّى صارت حلماً لطلاب الصحافة للعمل فيها.
وثّقت “السفير” لأبرز المفاصل التي صنعت تاريخ البلد. المُرّ منها والبهيّ. من خبر “المانشيت” إلى سائر الأخبار البسيطة والتقارير والتحقيقات والمقالات وزاوية طلال سلمان الثابتة “على الطريق”. كان للـ”سفير”، كذلك الأمر، حكايات أليمة مع الإرهاب والترهيب. ونقل حبرها وأعمدتها هموم الناس، على الدوام. حتّى في أحلك الظروف والمحن. وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، كانت “السفير” الصحيفة اللبنانيّة الوحيدة التي لم تتوقّف عن الصدور. وكانت تُكتَب عناوينها اليوميّة على جدران بيروت، كإحدى وسائل الصمود أمام المحتلّ.
كلمة أخيرة. غابت “السفير” قبل غياب صاحبها بسبع سنوات. وهو الذي نجا من أكثر من اعتداءٍ ومحاولة اغتيال، لم ينجُ من المرض الذي أذاب جسده في السنوات الثلاث الأخيرة. لطلال سلمان، الذي وقف على طريق موته المعلن السنة الفائتة، محبّون كُثر. وله، أيضاً، خصوم وأعداء كُثر. كصحافي، قد تختلف معه حول العديد من “المفاهيم” التي تحكم مهنتنا. لكن كصحافي، أيضاً وأيضاً، لا يمكنك إلاّ أن تكتب اسمه، بالخطّ العريض، كعَلَمٍ من أعلام الصحافة اللبنانيّة. إقتضى الحزن الكبير والتأسّف الأكبر على “الأستاذ طلال“. لروحه الرحمة والراحة والسلام ووردة حمراء.