تحدثت الراهبة مايا زيادة عن كيفية بناء الوطن، فقالت إن الوطن لا يُبنى بغير الحُب، ودعت طلابها للصلاة لأهل الجنوب ورجال مقاومتهم لأنهم لبنانيون، وهي بذلك نطقت بما جاءت به الأناجيل المقدسة، ففي “انجيل متى” قال السيد المسيح “أحب قريبك مثلما تحب نفسك” وفي “متى” أيضا “علم الفريسيون أن يسوع أسكت الصدوقيين، فاجتمعوا معاً وسأله واحد منهم: يا معلم ما هي أعظم وصية في الشريعة؟ فأجابه يسوع: أحب الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك وبكل عقلك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، أحب قريبك مثلما تحب نفسك، على هاتين الوصيتين تقوم الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء”.
وهذا الفائض من الحُب الصافي يذكره “انجيل مرقص” حين يعرض كيف دنا أحد معلمي الشريعة من السيد المسيح وسأله “ما هي أولى الوصايا كلها؟ فأجاب يسوع: الوصية الأولى هي: الرب إلهنا هو الرب الأحد، فأحب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل فكرك وكل قدرتك، والوصية الثانية: أحب قريبك مثلما تحب نفسك، وما من وصية أعظم من هاتين الوصيتين”.
وفي “انجيل يوحنا” أوصى السيد المسيح تلاميذه فقال “أعطيكم وصية جديدة، أحبوا بعضكم بعضاً، ومثلما انا أحببتكم، أحبوا أنتم بعضكم بعضاً، فإذا أحببتم بعضكم بعضاً يعرف الناس أنكم تلاميذي”.
لماذا أوصى السيد المسيح بالحب والمحبة؟
عن هذا السؤال يجيب إبن السيدة العذراء كما ورد في “متى” فيقول “كل مملكة تنقسم تخرب، وكل مدينة أو عائلة تنقسم لا تثبت”، وفي “لوقا” أيضاً “كل مملكة تنقسم تخرب وتنهار بيوتها بيتاً على بيت”.
على هذا الحُب أرادت الراهبة مايا زيادة أن تُوحّد لبنان واللبنانيين، متوجهة إلى طلابها ليصلوا لأهالي الجنوب، والجنوب هو الأرض التي زارها السيد المسيح بعدما قاسى الويلات في المدن التي وطأها قبل أن يأتي إلى الجنوب، فيفتح له أهالي صور والصرفند وصيدا وغيرها قلوبهم فيحتشدون حوله ويُقيم في أرض الجنوب أعظم معجزاته، إلى أن قيلَ إن أولى الكنائس بُنيت في مدينة صور.
وحتى لا يُصار إلى الإستعانة بشواهد عدة حول علاقة السيد المسيح بجنوب لبنان، هذان شاهدان على تفسيرات كنسية:
ـ الأول: يذهب أحد أهم علماء الكتاب المقدس، الأب الفرد دوران اليسوعي في دراسة نشرتها مجلة “المشرق” البيروتية (شباط/فبراير 1908) إلى القول بأن السيد المسيح جاء إلى الجنوب ليحتمي بأهله “يخبرنا الإنجيل الشريف بصريح العبارة بأن السيد المسيح ذهب إلى تخوم صور وصيدا، ولم تكن تلك الرحلة فقط إلى جهات الجليل المتاخمة لفينيقية، بل دخل فينيقية وتجوّل فيها كما يظهر في كلام القديس متى حيث يقول إنه رحل إلى جهات صور وصيدا، والنص اليوناني يدل على توغله في أصقاع فينيقية وتجوله في أنحائها، وقد صدّر هذا الإنجيلي (متى) هذه الآية بلفظة تدل على أنه لم يزر فقط تلك الجهات بل تردّد فيها مدة من الزمن معتزلا فيها حتى ينجو من دسائس أعدائه”.
وفي هذه الدراسة المعنونة بـ”رحلة السيد المسيح إلى فينيقية والمدن العشر” يخلص الأب دوران إلى القول “المرجّح عندنا أن السيد المسيح وتلاميذه اتجهوا إلى صور على خط مستقيم، فقطعوا بلاد الجليل العُليا على سكة كان الرومان اصطنعوها هناك، وكانت تدعى بجليل الأمم وهي المعروفة اليوم ببلاد بشارة”.
لعل الراهبة مايا زيادة في عزلتها الآن، تصلي صلاتها المسيحية مستندة إلى “أنشودة مريم” كما أوردها “انجيل لوقا” وفيها: “تُعظم نفسي الرب لأنه نظر إليّ.. أنا خادمته الوضيعة/ جميع الأجيال ستُقدّرني، لأن القدير صنع لي العظائم/ قدوسٌ إسمه”
ـ الثاني: في سياق مشروع “على خطى المسيح في جنوب لبنان” الذي رعته جامعة الكسليك عام 2018 “تبدأ رحلة السيد المسيح، وفقا لبعض علماء الكتاب المقدس من نقطة تقع في المثلث الجغرافي الواقع بين يارون ورميش وعين ابل، على الطريق الرومانية الممتدة من بحيرة طبريا الى قانا فصور بطول 97 كلم تقريباً، والصرفند وصيدا، ومن هناك إلى جبل حرمون، ويتفق معظم الباحثين على أن يسوع في رحلته من كفرناحوم على شاطىء طبرية الشمالي إلى صور سلك الطريق التي تمر بصفد وقانا وتنتهي في صور”.
ماذا في الأناجيل عن المدن الجنوبية؟
في “إنجيل متى” يتبدى خُلق السيد المسيح بأبهى صوره حين عمل على شفاء إبنة إمراة كنعانية من نواحي مدينة صور، ولم تكن تلك المرأة ولا ابنتها من أتباعه، ولكن يسوع وصف إيمان المرأة بالعظيم، وفي تفاصيل القصة:
“انصرف يسوع إلى نواحي صور وصيدا وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني، فأجاب وقال ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب، فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة “.
لنلاحظ قول يسوع للمرأة الكنعانية: “يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ. لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ”.
ومثل هذا الخُلق العظيم للسيد المسيح كما ترويه الأناجيل، سيشهد تكراراً كما يأتي في “إنجيل مرقص” مع المدن الجنوبية، عبر هذا القصة:
“فانصرف ـ يسوع ـ مع تلاميذه إلى بحر الجليل، وتبعه جمهور كبير من الجليل واليهودية، ومن أورشاليم وأدومية، وعبر الأردن ونواحي صور وصيدا، وهؤلاء سمعوا بأعماله وجاؤوا إليه، فأمر تلاميذه أن يهيئوا لها قارباً حتى لا يزحمه الجمع، لأنه شفى كثيراً من الناس، حتى أخذ كل مريض يشق طريقه إليه ليلمسه”.
لم يكن هؤلاء على دين المسيح، ولكنه أحبهم فشفاهم.
لم يسأل عن إيمانهم ولا عن كونهم من “الأمم”.
أولئك كانوا من جنوب لبنان التي دعت الراهبة مايا زيادة طلابها ليصلوا لهم.
وعن مدن الجنوب كما في “مرقص” أن يسوع ترك نواحي صور “ومرّ في صيدا راجعاً إلى بحر الجليل، فجاؤوا إليه بأصم منعقد اللسان، وتوسلوا إليه أن يضع يديه عليه، فابتعد به يسوع عن الجميع، ووضع أصابعه في أذني الرجل وبصق ولمس لسانه ورفع عينيه نحو السماء وتنهد وقال للرجل: انفتح، وللحال انفتحت أذنا الرجل وانحلت عقدة لسانه”.
يا للسيد.. حين يحب
ويا للسيد.. حين يشفي أهل الجنوب ويصلي لهم.
ماذا قال المسيح عن صيدا وصور؟ في “انجيل لوقا” يقول السيد المسيح:
“الويل لك يا كورزين والويل لك يا بيت صيدا (مدينتان منقرضتان) لو كانت المعجزات التي جرت فيكما جرت في صور وصيدا، لتاب أهلها من زمن بعيد ولبسوا المسوح وقعدوا على الرماد”.
ماذا بعد قول المسيح عن صيدا وصور؟
ألا تستحقان الصلاة؟
ماذا يبقى؟ يبقى بلدة قانا وعرسها ومعجزة المسيح الأولى وأمه العذراء كانت هناك، كانت في الجنوب.
لعل الراهبة مايا زيادة في عزلتها الآن، تصلي صلاتها المسيحية مستندة إلى “أنشودة مريم” كما أوردها “انجيل لوقا” وفيها:
“تُعظّم نفسي الرب
لأنه نظر إليّ.. أنا خادمته الوضيعة
جميع الأجيال ستُقدّرني، لأن القدير صنع لي العظائم
قدوسٌ إسمه”.
مايا زيادة.. لك في الجنوب كل المنازل والقلوب.