ستيفاني خوري والأزمة الليبية.. أي مصير ينتظر مهمتها؟

لم يشأ الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريتش تعيين ممثل شخصي له في ليبيا خلفًا للديبلوماسي السنغالي عبدالله باتيلي الذي قدّم استقالته وسار على خطى أسلافه العشرة الذين عجزوا برغم حصافتهم الديبلوماسية وخبرتهم في حل النزاعات الدولية والإقليمية عن ايجاد حل للمعضلة الليبية.

تعيين الأمين العام للأمم المتحدة السيدة ستيفاني خوري مستشارة سياسية في ليبيا يُعيد تجربة الديبلوماسية الاميركية ستيفاني وليامز التي شغلت المنصب نفسه بين 2018و2020. وليامز استطاعت عبر معرفتها الشخصية بشؤون ليبيا وقادتها أن تعقد المؤتمر الوطني للحوار باشراف الأمم المتحدة في جنيف عام 2020 بحضور 75 شخصية ليبية تمثل مختلف الطيف السياسي والقبلي والجهوي الليبي.

مؤتمر الحوار الذي عقد أرسى قواعد الحكم الإنتقالي بانتخاب رئيس حكومة وطنية برئاسة عبد الحميد دبيبة وتعيين مجلس رئاسي انتقالي برئاسة محمد المنفي يعاونه ثلاثة مساعدين يمثلون المناطق الثلاث وهي طرابلس وبنغازي وفزان، على أن تكون مهمة الحكومة الانتقالية الأساسية هي اجراء الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية تحديدًا في 26 كانون الأول/ديسمبر 2021.

بعد مرور ثلاث سنوات، لم تجر الانتخابات ولم تحترم والمواعيد والاتفاقات لم تنفذ بسبب تفاقم الخلافات والمماحكات الليبية ـ الليبية وتمسك عبد الحميد دبيبة بالسلطة. نكث الرجل بالوعد وعرقل اجراء الإنتخابات في موعدها لألف سبب وسبب بحجة عدم اتفاق الأطراف الليبية على صيغة دستورية وقانون انتخابي.

يتحمّل دبيبة مسؤولية اضاعة فرصة الإنتخابات التي كان من المفترض أن تجري في العام 2021 تنفيذًا لقرارات لجنة الحوار الوطني، حسب مخرجات جنيف (2020) والتي أقرت قيام حكومة انتقالية لسنة تتولى الإعداد للإنتخابات التشريعية. كما أوصت قرارات جنيف أن لا يكون رئيس الحكومة مرشحًا للإنتخابات الرئاسية.

وهكذا ضاعت الفرصة ودخلت البلاد في شلل سياسي وفوضى أمنية تُوّجت بظهور المليشيات المسلحة في الشوارع ووقوع اشتباكات دائمة في طرابلس ومصراتة والزنتان.

وقد عقد البرلمان اجتماعًا في طبرق بحضور نواب من طرابلس وطلب اعفاء دبيبة من منصبه وانتخاب بديل عنه. رفض دبيبة التنازل وتمسك بمنصبه. عقد البرلمان اجتماعًا ثانيًا وانتخب وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا. رفض دبيبة الاعتراف بباشاغا وأصرّ على مزاولة مهماته من طرابلس وطلب من الميليشيات التي تسانده منع باشاغا من الوصول إلى طرابلس والدخول إلى مقر الحكومة، كما طلب تطويق المبنى والتهديد بتفجيره إذا أصر على الدخول عنوة.

سيطرة دبيبة على العاصمة طرابلس وفّر له امتيازات سياسية وعسكرية وخصوصاً بوجود البنك المركزي والهيئة الوطنية للنفط، أي الثروة والسلطة التي تسمح للحكومات بأن تستمر والمؤسسات أن تعمل. دبيبة في عدة مناسبات رفض تحويل حصة من النفط إلى حكومة الاستقرار في سرت برئاسة فتحي باشاغا، ما زاد نقمة أهل الشرق ومدن الهلال النفطي، الأمر الذي أدى إلى فتح ملفات الفساد ضده واتهامه بارتكاب مخالفات عن طريق الصفقات العقارية والنفطية التي تولت شركاته تنفيذها كونه من كبار الرأسماليين الليبيين.

مؤخرًا أقدم دبيبة على انشاء فرقة من الحرس والشرطة مربوطة بمكتبه وتأتمر بأوامره للمحافظة على أمنه الشخصي وأمن العاصمة طرابلس، وهي خطوة أثارت غضبًا شعبيًا ووُجهت إليه اتهامات بممارسة الديكتاتورية والتسلط.

وبفعل هذه الاستقطابات السياسية الحادة، بعناصرها الداخلية والخارجية، صرنا عمليًا أمام حكومتين وبرلمانين وجيشين شرقًا وغربًا، وكلما امتد هذا الواقع الشاذ بكل ما يرافقه من فوضى ودم، تتعقد الأزمة الليبية ويصبح حلها أكثر استحالة.

واللافت للانتباه أن التأزم الداخلي يترافق مع تراجع كبير في الاهتمام الدولي بالقضية الليبية ولا سيما بعد استقالة ستيفاني وليامز وممثل الأمين العام للأمم المتحدة الألباني أيان كوفيتش الذي حلّ محله السفير عبدالله باتيلي، فكان أن حاول تجديد الاهتمام الدولي بالإنتخابات باعتبارها الوسيلة الوحيدة لانتاج سلطة منتخبة من الشعب والاتفاق على صيغة للدستور وقانون للانتخاب، أي تجاوز العراقيل التي ينصبها دبيبة لنسف الانتخابات وتأجيلها.. وكانت النتيجة أن الليبيين لم يتجاوبوا مع طروحاته فسئم الرجل المهمة ورحل، مثله مثل العديد من أقرانه الذين حاولوا واصطدموا بالحائط الليبي المسدود.

لم يكن حكم ليبيا يومًا سهلًا لا قبل ولا بعد انتفاضة 2011 وبرهنت الأيام أن ليبيا بلد يصعب حكمه. خلافات داخلية عميقة بين الكيانات وصراعات جهوية وقبلية وشخصية يزيد وطأتها حجم التدخلات الخارجية والصراعات الدولية مما حوّل البلاد الى جزر عسكرية تتحكم بها المليشيات المسلحة غربًا وشرقًا وجنوبًا.

على مدى 13 عاما منذ سقوط معمر القذافي، تحوّلت ليبيا إلى جزء من لعبة الأمم وبؤرة توتر تتحكم بها المليشيات المسلحة سواء منها التابعة لتنظيم “الإخوان المسلمين” أو لجهات اقليمية ودولية. حكومة الوحدة الوطنية تحظى بدعم بريطانيا والجزائر وتركيا. حكومة الاستقرار تحظى بدعم روسيا ومصر وفرنسا. لتركيا وجود عسكري وتقني قوي في طرابلس بينما يوجد في الشرق وجود عسكري روسي من خلال “الفيلق الروسي” (جماعة فاغنر سابقًا).

التنافس والتناحر بين غرب ليبيا وشرقها على الثروة والسلطة أبقى البلاد في حالة ضياع ومنذ العهد الملكي لم تكن ليبيا يومًا موحدةً بل كيانات مفككة تتصارع بين بعضها البعض، فيما كانت مصالح الدول محكومة بمعادلة التحكم بخيرات ليبيا النفطية والغازية.

إقرأ على موقع 180  "مجموعة الأزمات": 2022 ماذا يحمل إلينا دولياً (1)؟

موقع ليبيا الاستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط وحدودها الطويلة مقابل أوروبا جعلها دومًا قبلة تنافس بين الدول الأوروبية الثلاث: ايطاليا وبريطانيا وفرنسا. لاحقًا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في زمن الحرب الباردة، اشتد الصراع بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق (روسيا حاضراً) كسوق للسلاح وامتيازات شركات النفط.

تبقى ليبيا ضحية التخاذل الداخلي والتآمر الخارجي وتستمر الحكومتان تتسابقان إرضاء لمصالح شخصية ومصالح دول ترعى هذا أو ذاك من المتقاتلين. قيادات ليبيا غير موحدة بل منقسمة إلى قبائل ومناطق وأحزاب وجماعات والمجتمع الدولي أيضًا غير موحد لا بل منقسم في نظرته إلى مستقبل الأزمة الليبية. المراحل الانتقالية تطول وتتمدد ولا فرصة لتأسيس حياة سياسية تنطلق من صناديق الاقتراع.

عبد الحميد دبيبة يتصرف منفرداً لمعرفته بأن القوى الدولية غير مستعجلة وغير راغبة في قيام حكم رشيد يُعيد الأمن والطمأنينة إلى الشعب الليبي العاجز والخاضع لاستغلال قوى الأمر الواقع التي تستفيد من الفوضى والفلتان وتلتقي وتتناغم مع مصالح القوى الخارجية التي تُمدد بقاء الحكومات الانتقالية سنة تلو أخرى وتتلهى كلاميًا بوعد انتخابات رئاسية وبرلمانية ولكن بغياب النوايا والإرادة الصادقة لتنفيذ هذه الاستحقاقات كلها.

حروب أوكرانيا وغزة والسودان حجبت الاهتمام الدولي وتركت الليبيين يُقلعون شوكهم بأيديهم، فهل تستطيع السيدة ستيفاني خوري أن تنجز ما عجز عنه سائر زملائها وتكمل ما بدأته الأميركية ستيفاني وليامز في العام 2020؟

Print Friendly, PDF & Email
مهى سمارة

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من بطرس الأكبر إلى بوتين.. للبلاط "مهرجه"!