.. هكذا، تلقيتُ قراراً لا لبس فيه على الإطلاق، يدعو الى الاهتمام بأمن موظفي السفارة وأمني الشخصي. كان لا بد من تقليل الاتصالات الخاصة بي، بحيث تقتصر على الأكثر ضرورة، والتي تمليها الاحتياجات العملية. خلال بضعة أسابيع صرت “تحت الأرض”.
ولكوني، خلال نصف سنة، دخلت في الواقع اللبناني، وتراكم لدي الكثير من الأشياء الملائمة للتقارير اليومية المرسلة إلى موسكو حول الأحداث في البلاد، أو التقارير الخاصة بتنفيذ التعليمات، أو توثيق المحادثات الأكثر إثارة للاهتمام مع السياسيين اللبنانيين، بدا وكأن الوقت قد حان لكتابة وثيقة تحليلية جدّية يمكن من خلالها تحديد الترتيب العام للشخصيات على رقعة الشطرنج اللبناني، وديناميات تطوير اللعبة التي تجري على هذه الرقعة. بمعنى آخر، تحديد الأهداف والدوافع لنشاطات اللاعبين اللبنانيين الرئيسيين، وكذلك الكشف عن نوايا القوى الخارجية، أو بمعنى آخر محرّكي “الدمى” – الجيران العرب للبنان والإسرائيليون والغربيون، ومن ثم إجراء تحليل حول ارتباط هذه القوى ببعضها البعض: مَن يصادق مَن؟ مَن يقاتل مَن؟ وكنتيجة رئيسية للتحليل: ماذا ينبغي أن تكون النقاط المحددة لتطبيق جهود الاتحاد السوفياتي إذا أردنا تقديم مساهمة حقيقية في تسوية النزاع في هذا البلد.
ولكن في الوقت الذي كنت أكتب هذه الوثيقة، التي كانت ضرورية بالفعل لموسكو ولي شخصياً، كانت تجول في ذهني الكثير من الأسئلة المُلهمة التي أثارتها البرقية المستلمة (من موسكو)، وأولها: من كان غير راضٍ عن اتصالاتي مع أوسع مجموعة من القوى السياسية اللبنانية، وعن مواقفي المؤيدة للحوار بين اللبنانيين والمصالحة الوطنية؟
هل هي قيادة الحزب الشيوعي اللبناني؟ من حيث المبدأ، كان يمكن للشيوعيين اللبنانيين أن يتقدموا بشكوى ضدّي إلى القسم الدولي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. ذات مرة، وبهذه الطريقة تحديداً، قاموا بإزاحة أحد أسلافي، بيتر سيمينوفيتش ديدوشكين.
في العام 1969، اندلع صراع داخلي حاد في الحزب الشيوعي اللبناني، وكان السفير السوفياتي آنذاك يُظهر بوضوح تعاطفاً مع الجناح الذي يضم من يوصفون بالمحافظين، ولكن خصومهم فازوا، وهم فريق من الشباب بقيادة جورج حاوي. بناءً على طلب القيادة الجديدة للحزب الشيوعي اللبناني تم استدعاء ب. س. ديدوشكين إلى موسكو، بعدما أمضى ثلاث سنوات فقط في لبنان.
مع ذلك، كانت لدي علاقات ثقة ممتازة مع قيادة الحزب الشيوعي، وبخاصة مع نديم عبد الصمد، منذ مهمتي الوظيفية السابقة إلى لبنان بين العامين 1972 و1977. نعم، أعترف بأن قادة الحزب الشيوعي اللبناني، في منتصف العام 1986، أي منذ لحظة عملي كسفير، كما كان مفهوماً لي، لم تسعدهم زياراتي للمنطقة المسيحية، وبشكل خاص اللقاء مع زعيم حزب “الكتائب” اليميني جورج سعادة. ولكن حين ناقشنا هذه المسألة، طرحتُ على الشيوعيين سؤالاً مضاداً: هل الحوار بين اللبنانيين ممكن من حيث المبدأ من دون مشاركة أكبر حزب مسيحي وفي الجوهر أكبر عدد من المسيحيين اللبنانيين – “الكتائب”؟
من بين “خطاياي” الأخرى في نظر الشيوعيين اللبنانيين، كان لقائي العلني مع سمير جعجع، قائد القوة العسكرية الرئيسية في المعسكر المسيحي، أمام كاميرا التلفزيون. وبناءً على ذلك، فإن سؤالي التالي ضمن المقاربة ذاتها كان: “اذاً مع من ستتصالحون بعد ذلك؟ مع السياسيين المدنيين من دون مشاركة أمراء الحرب؟
من أجل الموضوعية، ينبغي أن أشير إلى أن أصدقائي من الشيوعيين اللبنانيين لم يجادلوا معي كثيراً، وإدراكاً منهم بأن اللبنانيين سئموا الحرب، وأنهم في حاجة إلى العمل من أجل السلام في البلاد، فهموا أخيراً منطق أفعالي. في نهاية المطاف، خلصتُ إلى أن الإشارة التي وردت إلى موسكو لم تأتِ من الشيوعيين.
هل هو وليد جنبلاط؟ بصفته زعيماً للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، هو قادر أيضاً على الوصول إلى الدائرة الدولية للجنة المركزية. كلا… أعتقد أنه ينبغي أيضاً استبعاد هذا الخيار. لقد التقيت مع وليد وأشخاص من دائرته الضيقة – مروان حمادة وأكرم شهيب – في كثير من الأحيان، وناقشت معهم الوضع اللبناني وآفاق تطوره بأدق التفاصيل. كان منطق وليد واضحاً بالنسبة إليّ: مجتمع الدروز يريد السلام، بشرط عدم حرمانه من المكاسب التي حققها خلال النزاع. ولكن في هذه اللحظة السؤال لا يستحق كل هذا العناء. لذلك، لم يكن لدى وليد أي سبب لتقديم شكوى ضدي في موسكو.
السوريون؟ لو أن برقية ي. م. فورونتسوف جاءت بناءً على بعض الإشارات من دمشق، لأتت، من المؤكد، بمفتاح آخر، مع تلميح مكثّف إلى دور سوريا الخاص في الشؤون اللبنانية.
هل هو أحدٌ ما من الشخصيات المسيحية؟ الأمر مستبعدٌ أيضاً! بعد ما يقرب من عقد من القطيعة، يحاول سفير سوفياتي جديد أن يمدَّ الجسور مع لبنان المسيحي، فيذهب في زيارة إلى الزعيم الروحي للمسيحيين الموارنة، البطريرك صفير، ويتواصل مع كافة الشخصيات المهمة في المعسكر المسيحي، بما في ذلك المسيحيون الذين لديهم آراء مختلفة، أو حتى مع سمير جعجع.
بذلك يبقى “حزب الله”. من المرجّح أن المعلومات التي أخبرني بها المسؤول العراقي ذهبت سراً إلى بغداد في الوقت ذاته، ضمن إطار التعاون من خلال الاجهزة الخاصة، وقد تم تسليمها إلى ممثل الـ”كي جي بي”، ومن هذه الإدارة جاءت إلى وزارة الخارجية. باختصار، من خلال هذه الدوائر الملتوية، وصلني مرة أخرى تحذير من الحالة المزاجية تجاهي التي تطورت في “حزب الله”.
… من السؤال الأول، نشأ السؤال الثاني وهو كيف سنعمل لاحقاً؟ الحد من نطاق الاتصالات؟ هذا هو الأمر الأسهل. اذاً سنعود إلى الوضع الذي كان يعتبر في العام 1985 غير طبيعي، بمجرد اتخاذ قرار بتغيير السفير.
تعزيز التدابير الأمنية؟ حسناً، سنقيم بضعة صفوف أخرى من الأسلاك الشائكة فوق السياج المحيط بالسفارة، وسنثبّتُ زوجاً آخر من الحواجز الخرسانية في الطريق إلى مجمع السفارة. هل يحمي كل ذلك موظفينا أثناء إقامتهم في المدينة؟
ما الذي يمكن القيام به للحفاظ على أمن السفير؟ في فترة 1986-1987، كنت مثل جميع السفراء الآخرين العاملين في بيروت، اتنقل ضمن موكب، برفقة شاحنتي “بيك أب”، تقلان عناصر مدججين بالسلاح من الجنبلاطيين في الجهة الأمامية، وسيارة تغطينا من الخلف. الى جانبي، وفي وضعية الاستعداد القتالي الكامل، و”الكلاشينكوف” في اليد، كان يتواجد دائماً أحد أفراد حرس الحدود الشباب. كانوا كـ”الملاك الحارس”: ساشا كليماتيتش، كوليا إيشينكو، سيريوجا دانيلا. إجراءات أمنية كهذه كانت كافية لصد هجوم على الموكب أثناء تحركه. ولكن ماذا يحدث لو كانت هناك سيارة مفخخة على جانب الطريق أثناء تنقل الموكب؟ خلال تلك الفترة، كانت تقع الكثير من التفجيرات التي تستهدف السيارات المتحركة والمصفحة، حتى أن أولاد الشوارع الذين يبيعون الصحف كانوا يعرفون “المعدل المقدّر” لمثل هذا العمل: 200 – 250 كيلوغراماً من المتفجرات من مادة “تي إن تي”…
خلاصة القول، لم يكن من المنطقي أن نجلس في السفارة إلى أجل غير مسمى، أو أن نزيد من عدد المركبات والحراس المسلحين. ثم، هل هاجم الإرهابيون السفارة في أيلول عام 1985، أو أطلقوا النار على سيارة السفير؟ لم يحدث ذلك. لقد خطفوا أولئك الذين، في ذلك اليوم بالذات، خرجوا من بوابة السفارة.
حتى أن أولاد الشوارع كانوا يعرفون “المعدل المقدّر” لتفجير سيارة مصفحة: 200 – 250 كيلوغراماً من مادة “تي إن تي”!
في بيروت، وبرغم عمليات الإجلاء و”ضبط” أوضاع الموظفين، كان ما لا يقل عن سبعين من أفراد المؤسسات السوفياتية وعائلاتهم يقيمون بشكل دائم. إنّهم في حاجة إلى الذهاب للعمل في المدينة، والتوجّه إلى متاجر البقالة. إذا أراد شخص ما أن يرتّب خدعة قذرة، كان بإمكانه أن يختار منهم من يشاء. بشكل عام، يمكن، لا بل يجب، ضمان الأمن بطرق ووسائل مختلفة، سواء في محيط السفارة، والأهم من ذلك، في النطاق الأبعد!
بعد نقاشات عديدة ومطوّلة ضمن الدائرة الضيقة لقيادة السفارة، توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا في حاجة إلى نوع من التحرّك غير الاعتيادي لتحييد سوء نية “حزب الله”، ولكن من دون الدخول في اتصال مباشر مع قيادته، بسبب احتجاز الرهائن… لم يكن بإمكاننا أن ننسى ما حدث.
تقرَّر أن تكون الخطوة الأولى هي الدخول في حوار مع السيد (محمد حسين) فضل الله، الذي كان يُعتَبر المرشد الروحي لـ”حزب الله”، ولكنه، كما افترضنا، لم يشارك مباشرة في العمل ضد السفارة في أيلول 1985، ولم تكن يداه ملطخة بدماء اركاشي كاتكوف.
ذهبتُ ذات يوم رائع إلى الشيخ فضل الله في الضاحية الجنوبية التي يسكنها الشيعة في بيروت. ذهبتُ، بصراحة، ولكن من دون إثارة. أولاً، كانت محادثة صعبة مع شخص غير اعتيادي، والأهم من ذلك، أن موضوعاتها لم تكن سهلة. ثانياً، هذه الزيارة أتت بعد فترة قصيرة على الافراج عن رهائننا، ومن المفترض أنه لم يتم نسيان ما حدث، ولم يلتئم كل شيء. إذا كانت تقاليد الضيافة الشرقية خلال سنوات الحرب لم تتأرجح تماماً بعد، فمن المرجّح ألا يحدث لي شيء. لكن الشيخ فضل الله ليس أكثر من أب روحي لـ”حزب الله”، فإلى أي مدى هو مؤثر على قادة آخرين من الطائفة الشيعية في لبنان، ناهيك على أولئك الذين ارتكبوا عملية الاختطاف وأطلقوا النار على أركاشي كاتكوف؟
كما كان متوقعاً، لم تكن المحادثة مع فضل الله سهلة. بالرغم من أن الشيخ كان محقاً من حيث المبدأ، إلا أن منطق كل تفكيره كان في جوهره يحمل مواجهة. من جهتي، حاولتُ أن أحجم عن توضيح شكل العلاقة المحددة تجاهه. كان الغرض من زيارتي بالتحديد هو تحييد الموقف العدائي تجاه سياسات الاتحاد السوفياتي في لبنان، وكذلك تجاه سفارتنا، ولكن في الوقت ذاته، عدم إظهار الأمر وكأنه ضعف من قبلنا، أي تحديد المسائل بدقة من من دون إهانة، بالاضافة الى تحديد رؤيتنا للوضع العام في الشرق الأوسط وسبل الخروج من المأزق الذي وقع فيه لبنان.
الأمر الأكثر حدة في نقاشنا كان مسألة حق إسرائيل في الوجود: بالنسبة إلى فضل الله، كانت إسرائيل شراً مطلقاً. قلت إن الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود هو أحد المكوّنات الرئيسية لصيغة حل النزاع-العربي الإسرائيلي. بعد حوالي ساعة، بادرت إلى مراقبة قواعد الآداب، وأوقفتُ الحديث مع فضل الله وقلتُ له وداعاً. في طريق العودة إلى المنزل كان لدي شعور بأن عقلي بدا أشبه بالكتان المعصور…
بعد بضعة أيام، وصلت معلومات إلى السفارة مفادها أنه خلال اجتماع العمل الدوري لقيادة “حزب الله” كان الشيخ فضل الله يشارك انطباعاته بشأن اللقاء مع السفير السوفياتي، وقال ما مفاده: “لا بأس! هو شخص مثير للاهتمام”… ونحن، في السفارة، سمحنا لأنفسنا بأن نأخذ نفساً عميقاً: مثل هذه الكلمات الموجّهة إلى أولئك الذين أُدرجوا على القائمة السوداء من قبل، لها معنى مختلف تماماً… مع ذلك، لم يكن لدينا وقت لتسوية علاقتنا مع “حزب الله”، بسبب الوضع المتفجر في العلاقات مع أجهزة الاستخبارات السورية. في هذه الأجواء بزرت من جديد رائحة الـ”تي أن تي”.
في اجتماع داخلي لـ”حزب الله” قال السيد محمد حسين فضل الله عن السفير السوفياتي: “لا بأس! هو شخص مثير للاهتمام”
في ذلك الوقت، كان ثلاثة أشخاص فقط يعرفون هذه القصة. لم أُبلغ موسكو بأي شيء حينها، والمرّة الأولى التي سمحتُ لنفسي فيها بأن أخبِر عن أكثر الأعمال خطورة في حياتي كانت في العام 2006، أي بعد مرور عشرين عاماً.
كانت القصة غير عادية على الإطلاق. إلى حدٍّ ما، كانت استمراراً لملحمة خطف وإطلاق الرهائن في أيلول وتشرين الأول عام 1985. في شباط من العام 1987، أي بعد مرور سنة ونصف السنة، إندلعت حرب صغيرة في القطاع المسلم في بيروت بين التشكيلات العسكرية الدرزية الجنبلاطية وحركة “أمل” الشيعية بقيادة نبيه بري.
المعارك في الشوارع أوقفتها القوات السورية المنتشرة في الجزء الغربي من بيروت. وبعد تدخل وحدات الجيش، جاءت الوحدات الخاصة السورية إلى المدينة، وبدأت في إلقاء القبض على كل من اعتبروه في دمشق عدواً لسوريا.
في سياق التنظيف المنتظم الذي أجراه السوريون للاحياء السكنية، وليس بعيداً عن مركز السفارة، تلقينا مكالمة هاتفية: طلبَ شخصٌ ما المساعدة بشكل عاجل للخروج من براثن المخابرات السورية. هذا الشخص مارَس، في أيلول من العام 1985، “ضغطاً قوياً” على دائرة الخاطفين، وأصبح في النهاية بالنسبة إليهم الهدف الأكثر وضوحاً.
هذا الرجل كنّا مدينين له، إلى حدٍّ ما، بالإفراج عن ناسنا، بحسب ما تذكر يو. ن. برفيلييف.
جلس يوري نيكولاييفيتش ونائبه ف. أي بافليك معي على وجه السرعة للتشاور. وبدأنا نفكر: ما العمل؟ هل نتجاهل الأمر؟ وكيف بعد ذلك سننظر إلى أنفسنا في المرآة كل صباح؟ نُخرج هذا الرجل من براثن الاستخبارات السورية، وبالتالي نجلب ألينا أعداءً جدد؟ وقعنا في حيرة من أمرنا. اتصل بنا الرجل مجدداً، وقد بات، على ما يبدو، على أحر من الجمر.
إثر ذلك، اتخذنا، نحن الثلاثة، قراراً مجنوناً: سنُخرج هذا الرجل من بيروت. أمرتُ بالإعداد لانطلاق سيارتي، ووُضع العلم الأحمر الخاص بالسفير عليها. توجّه المسؤول المقيم ونائبه إلى الرجل، في مكان قريب من مقر السفارة، ونقلوه بعيداً، وعند الاقتراب من السفارة، أبلغوا عبر جهاز اللاسلكي أنهم سيصلون إلى المدخل في غضون دقيقتين.
استقلّيت على الفور في سيارتي، وخرجت من السفارة، برفقة سيارة أخرى كانت تواكب من الخلف. لا يمكن أن يحدث مشهد كهذا في منطق الأمور! ذهب السفير السوفياتي لرؤية صديقه وليد جنبلاط في حصنه في المختارة، وفي السيارة الثانية كان حرس السفارة. ضمن هذا الإجراء، مررنا، من دون توقف، بجميع الحواجز السورية التي كانت تغلق مناطق التفتيش، وأصبحنا خارج بيروت.
سمعتُ ملايين المرات الحقيقة البديهية بأنه لا يوجد سر إلا وسيصبح معلوماً. تمكنتُ من إدراك ذلك في غضون يومين أو ثلاثة، عندما جاء نديم عبد الصمد، أحد قادة الحزب الشيوعي، إلى السفارة. كان منفعلاً، وقد بدا ذلك من عينيه. أتى، وألقى السلام بشكل غير اعتيادي، وكان يحاول معرفة ما إذا كنتُ قد خرجت بالفعل من بيروت، تحت علم السفارة ذاته.
في هذه اللحظة ارتأيت أن لا داعي للعب دور السذاجة، فالعلاقة مع قيادة الشيوعيين اللبنانيين لم تكن تسمح بضبابية غير ضرورية. شرحتُ لنديم ماذا حدث، وكيف، ولماذا. نظر إليّ محدّثي وتنهّد، وقال متعاطفاً: “لن تغفر لك الاستخبارات السورية ذلك”…
نظر إليّ نديم عبد الصمد وتنهّد، وقال متعاطفاً: “لن تغفر لك الاستخبارات السورية ذلك”
أعترف بأنني قمت بهذه الخطوة بشكل لا يتلاءم مع الأعراف الدبلوماسية الكلاسيكية، ولكن، ألم يكن كل ما حدث في لبنان ليدفعك إلى التصرف أحياناً خارج الأطر التقليدية؟ هل تم إطلاق سراح رهائننا من خلال الإقناع الكلامي الصرف؟ فما بالك لو توجّه أحد اللبنانيين إلينا بطلب للمساعدة ولم نسدّد “ديوننا المستحقة” لديه؟ لذلك، أرى أنه لا داعي للخجل حتى الآن من الخطوة التي قمت بها.
ومع ذلك، بات من الضروري على وجه السرعة إطفاء الأزمة في العلاقات مع السوريين، والتي باتت أكثر حدة يوماً بعد يوم.
بحثًا عن حل آخر غير اعتيادي، تذكرتُ أنطوان الهراوي، وهو أحد الملّاك الأثرياء في وادي البقاع. ذات مرة، تحديداً في العام 1973، دعا (الهراوي) إلى ضيافته سفيرنا سارفار عظيموف مع موظفي السفارة. كنتُ، مع عائلتي، من بين المدعوين.
تذكرني الهراوي بشكل واضح، عندما وصلتُ إلى لبنان كسفير بعد ثلاثة عشر عاماً تلت. جاء لزيارتي وكان يدعوني باستمرار إلى زيارته، كما كانت الحال في الأيام الماضية الجميلة. تقع ملكية صديقي على بعد حوالي عشرة كيلومترات من مدينة عنجر، حيث مقر العميد غازي كنعان، منسق أنشطة الاستخبارات السورية في لبنان.
مستذكراً تلك الدعوة، إتّصلت بأنطوان الهراوي هاتفياً، وبعدما تأكدتُ من أنها ما زالت قائمة، سألتُ عمّا إذا كان اللقاء عائلياً، أي غير رسمي، وما هو نطاق المشاركين المفترض. وسألت بالتحديد: هل سيكون غازي كنعان من بين الحضور؟
في اليوم المحدّد كنت وزوجتي والدبلوماسي الشاب كولا بودغورني في مزرعة المالك الصديق الحميم.
كان هناك الكثير من الضيوف، بمن فيهم أولئك الذين يهمونني بشكل خاص. انفصلت شلة الضيوف على الفور إلى نصفين بين رجال ونساء. ذهبت زوجتي مع أخريات لمشاهدة كروم العنب، وكذلك الحملان والماعز والطاووس وغيرها من الحيوانات الريفية، وجلستُ في ظل شجرة على كرسي مريح، وحدث أن الشخص الوحيد الذي جلس إلى جانبي كان غازي كنعان!
بعد وضع الثلج في كأس العرق، المشروب اليانسوني المفضل لدى اللبنانيين، والذي يتم تخفيفه بالماء، شرعنا في محادثة على مهل حول هذا وذاك.
بعد حديث عن الطقس وجمال المناظر الطبيعية في وادي البقاع، بدأنا نتحدث عن الصحة. قلتُ، عرضياً، إنني سأكون في حالة من الراحة الروحية الكاملة لولا الدبابيس الأسبوعية لمجلة “الشراع”. بعد لحظة تفكير، هزّ محدثي الكأس بعناية، واستمع إلى رنين قطع الثلج، ثم تحدث بعمق: “نعم ، أنا أفهم ذلك”… بعد ذلك، قال غازي كنعان الجزء الأول من المثل العربي “هنيئاً لمن ينام وضميره مرتاح” (بالرغم من أن المحاور لم يقل الجزء الثاني من المثل بصوت عالٍ).
بشكل عاطفي رحتُ أذكّر محدثي بالملحمة الكاملة لخطف رهائننا: كيف بدأت هذه القصة، مَن ساعدنا، ومن قدَّم لنا المساعدة الملموسة في نهاية المطاف لتحرير ناسنا. كانت خلاصة أقوالي هي نفسها تقريباً: قد يكون لدى سوريا أسبابها الخاصة حول الشخص الذي ساعدنا، ولكن على سفارتنا واجباً تجاه هذا الشخص، وطبقاً لفهمنا لهذا الواجب، ارتأينا أنه من الضروري مساعدته عندما طلب منا ذلك.
فكّر غازي كنعان مرة أخرى، وأخذ رشفة أخرى، وقال: “نعم، ربما…”. في هذا السياق بالذات، بدا أن عبارة “ربما” وكأنها إشارة إلى تفهّمه لمبدأ رد هذا النوع من الديون.
قابلتُ غازي كنعان عدة مرات. لكن تلك الاجتماعات اللاحقة عقدت بطريقة مختلفة تماماً: باهتمام كبير واحترام متبادل لبعضنا البعض، على ما اعتقد…