“قائد الثورة” صائب سلام لطلال سلمان: بشرفك شو الفرق بيني وبين عبد الناصر؟

ها هو "الفتى" (طلال سلمان) يسرد المزيد من الوقائع من وحي تجربته المهنية في مجلة "الحوادث"، برفقة أسماء لمعت في فضاء الصحافة اللبنانية والعربية مثل سليم اللوزي وشفيق الحوت ومنح الصلح ونيازي جلول ونبيل خوري ووجيه رضوان وفؤاد ناصر الدين إلخ..

كان منزل صائب سلام في المصيطبة أشبه بمقر لمجلس قيادة الثورة (1958)، أو أن «أبا تمام» أراده كذلك. يأتي إليه الصحافيون الأجانب ويستقبلهم مستشاره النحاس أو الناطق باسمه علي المملوك، فيرسمان اطار الصورة الملائمة لقائد الثورة قبل أن يدخلاهم على «صائب بيك».

ولقد حدث ان كان الفتى بصحبة شفيق الحوت في دارة آل سلام، حين خرج احد مساعدي البيك يسأل: من منكم يعرف الفرنسية؟

لم يتقدم أحد لادعاء المعرفة، وأحس الفتى بشيء من الحرج حين التفت إليه شفيق الحوت سائلاً: ألست تعرف الفرنسية؟

ارتبك الفتى، فهو يعرف اللغة، لكنه لا يعرف كيف سيمكنه ترجمة ما سوف يقوله صائب بيك.. قال شفيق: ادخل وحاول.. هيا، وقت الصحافيين الأجانب ضيق، ليس كوقتنا.

دخل الفتى مرتبكاً، يدفعه شفيق الحوت، ليسأله صائب سلام: اواثق أنت انك تعرف الترجمة من العربية إلى الفرنسية؟

هزّ الفتى برأسه، بينما قال الحوت: إنه يعرفها تماماً، لكنه خجول، ثم أنه لم يتعرّض لمثل هذا الموقف.

أدخل الصحافيان الفرنسيان، فسلّما وجلسا وطفقا يسألان، وصائب بيك يركز نظره على الفتى منتظراً منه الترجمة، لكن الفتى كان له رأيه، وهكذا فقد تدخل ليُصحّح بعض التعابير أو أسماء بعض الأشخاص أو أسماء المناطق، ولم يطق صائب سلام صبراً فسأله عما يتبادله معهما من المعلومات، وهل هي من طبيعة عسكرية أو سياسية، فلما أخبره أنها تتصل بالبديهيات تنفس الصعداء، وسأله: هل أنت جاهز؟ فأومأ له أن نعم، فقال: إذن فليبدأوا..

دار «الحوار» سلساً وإن تكشفت في ثناياه ألغام، وردّ صائب بيك بما يناسب المقام.. ولما أنهى الصحافيان مهمتهما وقاما للانصراف أشار «قائد الثورة» إلى الفتى أن ابقَ معي، فبقي..

بعد إتمام مراسم الوداع، باللياقة المشرقية المعروفة، توجه صائب بيك إلى الفتى يسأله: ما رأيك؟! وقبل أن يجيب الفتى، أكمل السياسي الذي اشتهر بالقرنفلة في ياقة سترته والسيكار في يده، فقال: كيف كانت المقابلة؟ كانت جيدة، أليس كذلك؟ وأومأ الفتى برأسه ايجاباً، فعاد صائب بيك يلح: لم تقل لي رأيك. أنا رأيي أنها ممتازة.. أليس كذلك؟

تحاشى الفتى الرد الصريح، مكتفياً بهزة من رأسه، فعاد صائب سلام يلح عليه: هل قلت كلاماً كبيراً؟

شجع الفتى نفسه وأومأ برأسه أن «نعم»، فبادر صائب سلام قائلاً: بشرفك، بشرفك، شو الفرق بيني وبين جمال عبد الناصر إلا أن بلده أهم من بلدي الصغير هذا؟

بهت الفتى، ولم يحر جواباً، ثم استأذن في الخروج، وطفق يبحث عن شفيق الحوت، فلما وجده قال له بصوت مشروخ: إنه يُشبّه نفسه بعبد الناصر!

من رسوم نيازي جلول في الحوادث 1968

لم يعلق الحوت، وإن جحظت عيناه الواسعتان، ثم قال بعد دقائق من الصمت: نحن في حالة غير طبيعية، فانسَ الأمر!

لكن النسيان كان شبه مستحيل بالنسبة إلى من كان يرى في جمال عبد الناصر قائداً فذاً يكاد يوازي في مواهبه القيادية الرسل والأنبياء..

كان عليه أن يصمت، فلا يعود إلى رواية ما حدث معه وله خلال هذا اللقاء اليتيم مع قائد الثورة في لبنان الذي استخدم مقاييسه للحكم على حدث محلي هو ـ في نهاية المطاف ـ تفصيل في حركة الثورة العربية التي كانت، آنذاك، تدفع المنطقة جميعاً نحو القطع مع ماضيها الذي تحكّم في صنعه المستعمر لتتصل مع مستقبلها الذي كان في التمني، رهناً بقدرة الثورة على إعادة صياغة الحاضر ليتناسب مع آمالها العراض.

قال شفيق الحوت للفتى الذي غدا الآن مساعده: لماذا لا تنام في المكتب، بدلاً من مخاطر التنقل، لا سيما في ساعات منع التجول.

اختار الفتى مع الساعي ابراهيم إحدى الغرف لتكون «البيت». جاء ببعض المعلبات والخبز، وتم تعزيز مؤونة القهوة والشاي، وسقطت التراتبية، فإذا بابراهيم يرفض أن يقوم بالتنظيف يومياً، مطالباً بالمداورة.. وكاد الفتى يخضع لقوة الأمر الواقع لولا أن شفيق الحوت ـ الذي كان يطل عليهما من نافذة بيت أجداده، الملاصق للمكتب، ليلاً، لإعادة النظام وحفظ المقامات!

أما نيازي جلول، الذي كان ينام عارياً، ربي كما خلقتني، فقد أثار أزمة عندما أمره شفيق الحوت بأن يغلق النوافذ، ليلاً. قال جلول: الدنيا صيف، وبيروت جحيم، وأنا وحدي، من سينظرني؟ من سيلفته هذا الهيكل العظمي الذي أبرز ما فيه نظارتي؟

دارى شفيق ابتسامته، وقال بلهجته الخطابية: أنا أمنعك من الظهور عارياً حرصاً على سلامة الذوق العام، وليس لأنني أخاف على بنات الحي من السقوط في شراك جاذبيتك.

وجاء جلول بجلابية أخذ يرتديها مساء حتى يغادر شفيق، فيطفئ الأنوار ويتجول عارياً بين المكاتب الفارغة، وسط صيحات الإعجاب يطلقها «إبراهيم»، قبل أن يندفع ليراقصه، متحملاً شتائمه واللعنات.

إقرأ على موقع 180  طلال سلمان يروي حكاية ليبيا مع الإمام الصدر

في المطبعة كانت «الأكثرية» مع النقيب فؤاد، وإن ظهرت «أقلية» يتزعمها المعلم جورج الذي يأخذه إعجابه بكميل شمعون إلى التطرف في السياسة. وفي إحدى جلسات النقاش تورط المعلم جورج فوصف عبد الناصر بأنه «دكتاتور»، جاء بانقلاب وليس بالانتخابات فإذا بالنقيب يتصدى له متهماً منطقه بالطائفي.

وصلت «هيفاء» في الوقت المناسب، فتوقفت المباراة، قالت: أرى أنكم تتحدثون في السياسة.

وسمع «الفتى» أول درس في الديالكتيك. قال فؤاد نصر الدين: ستنا، السياسة هي الحياة. إدارتك لهذه المطبعة سياسة، إدارتي للإنتاج هنا سياسة، الصراع المفتوح في البلاد الآن سياسي، بل إن محاولة صبغه بالطائفية سياسة. حتى ما يكتبه هذا الفتى في بريد القراء في المجلة التي نطبعها سياسة برغم أن ليس فيها كلمة واحدة في السياسة بمعناها المباشر. السياسة هي فن التعامل مع الحياة بقدر ما هي تحمل المسؤولية عن الشؤون العامة.

قالت هيفاء وهي تضحك: أنتم أحرار في خلافاتكم، ولكن دعوا هذا الفتى يبني نفسه بإرادته وليس بآرائكم.

وشعر الفتى بأنه قد غدا له جناحان وآن له أن يطير!

Print Friendly, PDF & Email
طلال سلمان

رئيس تحرير جريدة السفير

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أوباما في كتابه: راسلت خامنئي طلباً للحوار فأجابني لست مهتماً (1)