لرحلتي التونسية الطويلة.. حكايات

أتوقف عن القراءة أو الكتابة لألحق بنشرة الأخبار تفاديا لصنع رأي تنقصه المعلومات الأحدث. أجلس أمام الشاشة ومعي فنجاني. أندم على دقائق تضيع أمام إعلانات يفرضونها على ذوى الحاجة إلى معلومات جديدة  مثلي.

تأتي اللحظة التي أنتظرها في مثل هذا الموعد وكلي أمل، أمل الكاتب المرهق، أن تقرأ الأخبار مذيعة أفضلها على كل مذيعات الأرض. غالبا تأتي استجابة لرغبة لم أعلن عنها لأحد إلا اليوم. لست وحدي؛ فالعشرات الذين أعرفهم وآلاف ممن لا أعرفهم، لا شك أن رغبة مماثلة تولدت فيهم وترعرعت حتى صارت عند بعض ممن أعرف إدماناً أقوى من مجرد رغبة.

أعترف ولا أنكر أنه في معظم الأيام الأخيرة ألجأ إلى الشاشة في هذا الموعد على أمل أن أسمع من مذيعتي آخر خبر عن تونس التي أحبها. أسمعه وأعود إلى القراءة أو الكتابة مدفوعاً بسحر المذيعة وحسن إلقائها، وفي الوقت نفسه، بقسوة التطورات في بلد أحببته سعيداً ومؤنساٍ وما زلت أحبه حتى لو كان متوجعاً ومنهكاً.

نعم، أحببت تونس حتى قبل أن أطير إليها للمرة الأولى لأقابل الحبيب بورقيبة رئيسها الأول. جذبتني إليها شذرات من تاريخها مثل الحكايات عن مقاومتها طويلة الأجل للفتح العربي والروايات عما فعلته بخضارها وخضرتها قبائل عربية نزحت من مصر تحمل الأوامر بإخضاع فلول المقاومة المستمرة. جذبتني أكثر سمعتها كبلد يؤنس الأغراب من كل لون وجنس وعقيدة. كانوا على حق أولئك المؤرخين الذين يقال أنهم ألصقوا بها اسم تونس نسبة إلى موهبة أهلها في المؤانسة وحسن استقبال الضيوف.

***

عدت إلى تونس مراراً قبل أن أحلّ عليها ضيفاً لست سنوات متصلة  قضيتها نائباً لرئيس الإدارة العامة لشئون فلسطين بالجامعة العربية. أما كيف قادتني الظروف إلى هذه الرحلة الطويلة فتتضمنها حكاية لم يسبق لي أن أرويها شفاهة أو كتابة.

أذكر أيضاً ليلة اصطحبني فيها الراحل الصديق لطفي الخولى، وكان قد أفلت من اعتقالات “خريف الغضب” لوجوده في باريس، ولينتقل منها إلى تونس، اصطحبني إلى اجتماع يرأسه أبو عمار. مرة أخرى، أشاهد الزعيم الفلسطيني وهو يتكلم. تارة أصدق ما يقول، وتارة أخرى أتفهم مراوغاته ومبالغاته في ما يقول

ذات صباح في يوم من أيام صيف سنة 1981، اتصل بي مسئول يشغل مناصب مرموقة في أعلى أجهزة الدولة. جمعتني بهذا الشخص علاقة تقدير متبادل. أعجبت بمهارته في إدارة أمور جوهرية في الدولة المصرية من وراء ستار. لم يُحِب الظهور ولكنه أحب السلطة فأدمنها. كنت أكتب بانتظام فكان يقرأ ويحترم ما قرأ ولا يُعلن. كثير مما كتبت، وهو غير جارح وإن مستفز، قرأه ولم يتصل ليعترض أو يناقش. كان يحضر بانتظام جلسات للعصف الفكري حول قضية أو أخرى من قضايا هي من اختصاص أجهزة صنع القرار. يكتب كل كلمة ويناقش أحياناً. كتبت عاليه أنه اتصل في ذلك اليوم من الصيف. استغرقت المكالمة أقل من دقيقة. قال “سمعت أنك سوف تسافر إلى بيروت غداً أو بعد غد، بالسلامة”. لم يكن في جدولى عزم على سفر قريب، ومع ذلك، اتصلت على الفور بمكتبي مع تكليف عاجل بحجز مقعد على طائرة في الغد وتفضيل  الرحلة الصباحية. فهمت الرسالة وتفهمت أسباب غموضها وإلحاحها وسافرت فعلاً في اليوم التالي من القاهرة إلى بيروت ومنها بعد أيام إلى تونس. هناك، وفي شهر سبتمبر/أيلول، وصلتنا أخبار اعتقال العدد الغفير من مفكري مصر من كافة التيارات والميول السياسية. عملاً بنصيحة المسئول  المختفية وراء مكالمته القصيرة سكنتُ تونس، ولم أعد إلى القاهرة إلا بعد ست سنوات.

اخترت للسكن بيتاً مريحاً في ضاحية قرطاج. يطل البيت على شارع لعله كان من أجمل شوارع العاصمة. شارع تحفه من الجانبين أشجار النخيل الفارهة ومنازل أنيقة وبسيطة، الواحد أجمل في بساطته من الآخر. ينتهي الشارع عند البحر وتقوم هناك على جانب من جانبيه أطلال قلعة ومسرح ومقابر رومانية وقرطاجينية. قرطاج ليست واحدة. كنت أسكن في “قرطاج الرئاسة” حيث يوجد على مقربة من مسكني قصر الرئاسة يقيم فيه ويدير منه شئون الدولة رئيس جمهوريتها. بجوارنا، أو يحيط بنا، قرطاج “حنبعل” نسبة إلى القائد المغوار الذي خرج لمحاربة الرومان مع جيش جرار وحشد من الأفيال، عبر بها البحر المتوسط واعتلى معها جبال الألب ونزل مكتسحاً سهل لومبارديا وتقدم جنوباً حتى وصل إلى روما. هناك أيضاً على ما أذكر قرطاج “اليسار”، وهي شقيقة “حنبعل” جاءت من صور في لبنان لتحكم من هناك إمبراطورية الفينيقيين في أفريقيا ومركزها قرطاج.

لهذه الكتلة القرطاجية أهمية في هذه المفكرة الموجزة. إذ تكاد هذه الكتلة تلاصق حي سيدي بوسعيد. على أطراف هذا الحي الأقرب إلى حيث كنت أسكن، إختار أن يسكن قريباً منا بعض مشاهير تلك الفترة. بينهم أبو جهاد (خليل الوزير الرجل الثاني في حركة فتح قبل إغتياله) وأبو الهول (هايل عبد الحميد أحد مؤسسي حركة فتح) وأبو إياد (صلاح خلف من قادة فتح البارزين) وأبو مازن (محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية حالياً). سمعت بعد عودتي إلى القاهرة أن عدداً منهم قتل على أيدي إسرائيليين وهم في منازلهم.

إن نسيت فلن أنسى هؤلاء الأبطال الذين قتلوا، وبخاصة أبو إياد الذي كنت التقيت به في القاهرة في بيت الصديق العزيز محمد الفرا بمصر الجديدة. ليلتها أسمعنا روايات حقيقية وصادقة عن تفاصيل علاقات الثورة الفلسطينية بزعامات وحكام الدول العربية. أقول حقيقية وصادقة لأنني عشت في تونس جاراً وزميلاً لقيادات فلسطينية من مستويات مختلفة حكت لنا الروايات ذاتها ولكن بعد دبلجتها إلى لغة اللحظة السائدة. أذكر أيضاً ليلة اصطحبني فيها الراحل الصديق لطفي الخولى، وكان قد أفلت من اعتقالات “خريف الغضب” لوجوده في باريس، ولينتقل منها إلى تونس، اصطحبني إلى اجتماع يرأسه أبو عمار في مقر مكتبه في شارع يوغرته بحي يعرف باسم مدينة التضامن القريب جداً من العاصمة. مرة أخرى، أشاهد الزعيم الفلسطيني وهو يتكلم. تارة أصدق ما يقول، وتارة أخرى أتفهم مراوغاته ومبالغاته في ما يقول. مراراً وتكراراً كنت شاهداً عليه وعلى كثيرين غيره من قادة الأمة العربية خلال الاجتماعات المغلقة لمؤتمرات القمة التي حضرت منها عدداً لا بأس به، ومع ذلك لم أفقد يوماً الأمل.

***

كانت مرحلة عائلية هادئة. كان يسكن على مقربة مني زميلات وزملاء  جلبوا للحي دفئاً منعشاً. أعود من عملي في الثالثة بعد الظهر أحمل رغيفين من الخبز الفرنسي أحدهما معضوضة رأسه. تستقبلني ابنتي الصغرى وكانت في التاسعة من عمرها أو أكبر قليلاً. أظن أنها أكثر من استمتع في العائلة بالانتقال إلى تونس. تعود من المدرسة، تخلع زيها الرسمي وتنطلق إلى الشارع الجميل تمد يدها إلى الأشجار على الطريق لتقطف لنفسها أو تستدعي من يقطف لها حبات اليوسفي وتنتظر عودتي. تسألني كل يوم عن المسئول عن قضم رأس “الباجيت” فيكون جوابي، إنه الفأر اللعين. قررت بعد حين أن تذهب معي إلى الفرن على مدخل ضاحية قرطاج لتتلقى بنفسها أرغفة الخبز والكعك الخارجة لتوها من الفرن. في الطريق أرادت كل مرة أن تبهرني بما حفظت من شعر العرب ونصوصهم الأدبية. كانت سعيدة بما حفظت في هذه المدرسة وبمن صادقت وبكلمات قليلة من لغة الفرنجة.

إقرأ على موقع 180  الإمارات وحروب الموانىء العالمية من بيروت الى الصومال 

في أيام العطلة الأسبوعية وفي العطلات الصيفية عندما يكتمل نصاب العائلة، نذهب إلى ضاحية قامارت. هناك يحلو للجميع اقتطاف حبات التين الشوكي ونعود ليبقى الشوك الذي حمله هواء البحر عالقاً بشعرنا وملابسنا لا يرحل إلا بحمامات عديدة متتالية.

لنا في هذه الضاحية وأقصد قامارت جولات. هناك يوجد بعض أرقي مطاعم تونس وفنادقها. هناك قضيت أوقاتاً ممتعة في صحبة كبار الضيوف القادمين من القاهرة وغيرها من مدن الخليج والمشرق. كنت والصديق الراحل صلاح ماميش نتناول معاً الغداء أو العشاء عندما تغيب زوجتى والأولاد في شهور الشتاء. كانت لصلاح طقوس نحترمها، كنت أفضل الخروج لتناول الغداء يوم السبت ولكنه كان يفضل الأحد. عذره الذي لا يحيد عنه هو أن السبت سواء في مصر أو في تونس مخصص لأحذيته العشرين. إنه اليوم الذي تصطف فيه الأحذية صفين في انتظار الطلاء ثم التلميع فالعودة إلى قوالبها الخشبية.

***

فهمت من الحديث مع أبريل جلاسبي على مدى لقاءات متعددة أنها ـ ولم تقلها صراحة ولكني تحريت ـ تُنفّذ (في تونس) عقاباً قرره هنري كيسنجر كوزير للخارجية بسبب مقابلات أجرتها مع فلسطينيين يعملون في وفد فلسطين في الأمم المتحدة

للبيت الذي سكنت فيه أكثر من قصة. جرت فيه خلال سنوات إقامتي بتونس مقابلات مطولة مع ضيوف أرتاح إليهم وأعتز بما يمثلون في سيرتي الشخصية. من هؤلاء أحمد بهاء الدين الذي لم أعرف له مثيلاً في إنسانيته وغزارة علمه ومعلوماته. منهم أيضاً محمود رياض، الرجل الهادئ الخبير بلا إدعاء في الشئون الخارجية والعارف بذهنية حُكّام العرب ربما أكثر من أي شخص آخر عرفته واشتغلت تحت قيادته، ومنهم محمد حسنين هيكل، موسوعة في السياسة والصحافة وحفظ الشعر والقرآن الكريم وبراعة وفراسة في سبر أغوار من يلتقي بهم أو يعمل معهم. ومنهم أيضاً محمد سيد أحمد الصديق الذي ملأ مع سميح صادق زميلي في الدبلوماسية وما بعدها فراغاً في مراحل متعددة من حياتي. كثيرون قضوا في هذا البيت ساعات أو أياماً. منهم أيضا زوار دائمون من هواة ومحترفي الحوارات السياسية والثقافية  وأغزرهم إبداعاً لطفي الخولي. آخرون تونسيون ولبنانيون وفلسطينيون وغيرهم جعلوا من إقامتي في تونس واحدة من أهم المراحل في مسيرة حلي وترحالي.

قبل أيام من انتقالي من بيتي إلى فندق في الحي ذى التقاليد العريقة والمناظر الخلابة، أقصد طبعاً حي سيدي بوسعيد، قابلت بالصدفة الآنسة أبريل جلاسبي (الصورة أعلاه مع صدام حسين) يسبقها كلب هائل الحجم. كانت صدفة طيبة إذ مضت مدة طويلة على آخر لقاء لنا حين كانت تعمل بالسفارة الأمريكية في القاهرة.  أبلغتني أنها في تونس في وظيفة إدارية، إذ جرى تكليفها بإدارة المعهد الخاضع للاستخبارات الأمريكية والمعروف بـ”معهد شملان” ومقره الأصلي جبل لبنان (بلدة شملان)، مهمته تدريب الدبلوماسيين وأعضاء الأجهزة العاملة في الشرق الأوسط على لغات المنطقة ولهجاتها وتقاليدها وتراثها. ومقره المؤقت مدينة تونس. فهمت من الحديث معها على مدى لقاءات متعددة أنها ـ ولم تقلها صراحة ولكني تحريت ـ تُنفّذ عقاباً قرره هنري كيسنجر كوزير للخارجية بسبب مقابلات أجرتها مع فلسطينيين يعملون في وفد فلسطين في الأمم المتحدة عندما كانت تعمل ضمن الوفد الأمريكي. تذكرت الآن أنني قابلتها مرة أخرى في القاهرة عندما التقينا صدفة أيضاً بعد سنوات على لقاء تونس. التقينا على سطح مقهى عائم في حي الدقي يملكه رجل أعمال شهير. عرفت منها أنها زارت إقليم غزة بتكليف رسمي من الوزير الجديد ورحنا نناقش مستقبل الصراع مع إسرائيل. عند لحظة التوديع قالت وعلى فمها ابتسامة أصبحت أعرف معناها، قالت ما معناه “أنصحك بصفتك خبيراً في تفاصيل القضية أن تهتم من الآن فصاعداً بشاب من شباب الانتفاضة، لعب دوراً كبيراً في تنظيمها وقيادتها، وكان قريباً جداً من أبو جهاد. هذا الشاب سوف تسمع إسمه كثيراً”. عملت بنصيحتها. تابعت صعود الشاب. كانت جلاسبي على حق، فقد صار واحداً من كبار رجال الأعمال ومقره دولة الإمارات ويتحرك كثيراً في اتجاه غزة ويقود هذه الأيام تياراً يسعى لإصلاح حركة فتح ويتردد أنه يحلم بقيادة الحركة ومنها إلى قيادة منظمة التحرير.

***

عدت إلى القاهرة لأكتشف أن بيتي في قرطاج وما دار فيه على امتداد ست سنوات كان محل اهتمام دوائر معينة في القاهرة. وصلت من المطار لأجد في شقتنا بالمهندسين أقارب ومعارف في انتظار تهنئتي بالعودة. بعد ساعة، جاءت ابنتي الأكبر إلى حيث كنت أجلس مع شقيقتي الصغرى ومعها الهاتف يجر وراءه سلكاً طويلاً. هناك على الجانب الآخر صوت يرحب بوصولي بدفء شديد، قدّم نفسه فانكتم صوتي لثوان. قال إنه النقيب فلان وأنه ورؤساءه سعداء بوصولي ويعقدون الأمل على لقاء في محل عملهم في أقرب وقت. رغم دفء حفاوة المتحدث ومشاعره لم أستحسن الدعوة. جاء ردي بعد برهة وأظن أنه كان موفقاً. شكرته وأبديت الترحيب بفكرة اللقاء الودي متمنياً أن يكون في بيتي. بعد ساعة أو أقل كان في بيتي اثنان برتبتين متفاوتتين. خرجت زوجتي إلى الصالون الخارجي حيث كانا يجلسان تحمل لهما الشاي ومرفقاته، سمعتها تشكرهما على اتصالهما الدائب بالعائلة للاطمئنان وحل مشكلات مع البيرقراطية لم تقوَ مع أولادي على حلها في غيابي. شربا الشاي ونهضا لينصرفا بين استغرابي الشديد. وبينما كنت أمشي معهما لباب الخروج سحبني جانباً الأقدم رتبة وهمس قائلاً “أتعبتنا بنشاطك الاجتماعي والحوارات شبه اليومية التي جرت في بيتك بتونس على امتداد سنوات، أهلاً بك في بلدك وبين أولادك. لا تتردد في الاتصال بي أو بزميلي الذي قرأ كل ما كتبت في حياتك فهو الخبير بك بيننا ويقدرك ويحترمك”.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما معنى تجاهل فلسطين في خرائط "الممر الهندي"؟