“جبهة الإسناد” اللبنانية لن تتوقف.. وأكلافها محسوبة

من المبكر الحديث عن تداعيات الحدث الأمني غير المسبوق المتمثل بتفخيخ وتفجير الآلاف من أجهزة النداء الآلي (Pagers)، التي تستخدمها مؤسسات حزب الله، لكن من يعرف المقاومة في لبنان يُدرك أنها لا يُمكن أن تتأثر سلباً بهكذا عمليات، بل هي قادرة على توظيفها وتعبئة المزيد من مواردها في سبيل تحقيق أهدافها وأولها الوقف الفوري للحرب ضد الشعب الفلسطيني على أرض قطاع غزة. 

إذا كانت وظيفة الضغط العسكري والأمني والإعلامي والنفسي الإسرائيلي طوال حوالي السنة من عمر حرب غزة، هي تفكيك جبهات الإسناد، ينبري السؤال الآتي: لماذا لا تتوقف جبهة الإسناد اللبنانية الآن؟

بالفعل، تكثفت في الفترة الأخيرة دعوات فريق لبناني إلى وقف جبهة الإسناد اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي، إنطلاقاً من إعتبارات مختلفة. تنطلق هذه الإعتبارات – وفق هذه الفريق – من الحسابات الآتية:

أولاً؛ لم تؤدِّ عملية إسناد غزة، في نظر هؤلاء، غرضها في وقف الحرب على غزة. بل إن العدو الإسرائيلي أصبح مُصمّماً على إنهاء القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية التي توفّرها له الولايات المتحدة وحلفاؤها، سواء أرادوا هذه النتيجة أم لا.

ثانياً؛ تحمِلُ المواجهة الراهنة مخاطر وأضراراً جسيمة على لبنان، على ضوء إحتمالات تصاعدها، في وقت يبدو أن وصول المفاوضات غير المباشرة حول تبادل الأسرى والمحتجزين ووقف الحرب في غزة إلى طريق مسدود قد يُفضي إلى فتح جبهة لبنان على نحو أوسع من أجل تنفيس الضغط الإسرائيلي الداخلي على حكومة بنيامين نتنياهو التي أخفقت في تحقيق أهداف الحرب، وثانياً لمحاولة حل مشكلة مستوطني شمال فلسطين المحتلة، وأخيراً لإيجاد واقع أمني جديد على حدود لبنان يدوم لفترة طويلة.

ثالثاً؛ تحمَّلَ لبنان خلال هذه الفترة قسطاً وافراً من الأعباء والتضحيات من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني، وقد يكون ذلك عذراً كافياً للتوقف عند هذا الحد.

في المقابل، يرى المؤيدون لاستمرار عمل هذه الجبهة أن المقاومة في لبنان كانت تدرك منذ البداية أن إيقاف العدوان على غزة هدف قد لا يتحقق سريعاً، لأن ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان حدثاً مفصلياً بالنسبة للعدو الذي إستشعر خطراً وجودياً على جوهر مشروعه الإستيطاني الإحلالي. وكانت المقاومة اللبنانية أمام خيارين أساسيين: 1- الدخول في الحرب بشكل كامل، 2- الإكتفاء بالدعم العاطفي والكلامي.

الخيار الأول كان يُمكن أن يُخفّف شدة العدوان على غزة لبعض الوقت لتصبح الجبهة اللبنانية الحدث الرئيسي كما حصل في 2006، وبالتالي فهو يُوسّع نطاق الحرب دون تحقيق الغاية المرجوة.

الخيار الثاني لا ينطوي على أي معنى، بل لا يليق بالمقاومة اللبنانية التي وقفت دائماً إلى جانب شعب فلسطين. وهي إذ تمتلك قدرات عسكرية ومكانة متقدمة بين المقاومات في المنطقة، فإن وقوفها موقف المتفرج على الإبادة الجارية في غزة سيُعرّضها لتبعات عدة وسيضع مصداقيتها على المحك.

وبين هذا الخيار وذاك، اجترحت المقاومة خياراً وسطاً يقوم على الضغط على جيش الإحتلال واستنزافه، مع الأخذ في الإعتبار خصوصيات لبنان السياسية والإقتصادية وتفادي الإنجرار الى حرب واسعة ما أمكن ذلك. ونجحت في تحقيق هذا الهدف على مدار عام تقريباً، وأوجدت واقعاً جديداً في شمالي فلسطين المحتلة يعترف به العدو، ولم تستسلم أمام الضغوط والإغراءات الأميركية والأوروبية التي حاولت مراراً تحييد لبنان عن الوقائع الجارية في قطاع غزة.

يقول المُؤيدون لجبهة الإسناد اللبنانية أيضاً إن أداء المقاومة على هذه الجبهة كان حكيماً ومدروساً وكان يُمكن أن يُسهم في إيقاف الحرب لولا أن أجندة اليمين الصهيوني المُتطرف ترى في الظروف الراهنة فرصة لمحاولة تنفيذ “الحل النهائي” للقضية الفلسطينية عبر إحداث تغييرات في الجغرافيا والديموغرافيا في قطاع غزة وفي الضفة الغربية. مع ذلك، فإن هذه الجبهة التي تُخيّم ظلالها يومياً على الشمال الفلسطيني المحتل، باتت تُشكّل عامل ضغط تُسمع أصداؤه في التصريحات الصاخبة والتهديدات والتباينات التي تعصف بقيادة الإحتلال، مما يشير إلى اتجاه “سهام العدو” التي ترشد إلى الطريق.

في كل الأحوال، إذا كان هناك من شك في صوابية إستمرار عمل جبهة الإسناد اللبنانية حتى يومنا هذا، لا يُمكن إغفال النظر إلى المخاطر المُحدقة بالخروج من المعركة في منتصف الطريق، ومنها:

1– أن إيقاف هذه الجبهة الآن سيدفع العدو إلى إعلان الإنتصار على المقاومة، باعتبار أن نهجه العسكري الذي يُزاوج بين التصعيد الموضعي والتهديد بعدوان أكبر يكون قد نجح في هذه الحالة بترويض المقاومة اللبنانية وفي تيئيسها من إحداث تغيير في واقع الحال في غزة.

2– أن إيقاف الجبهة اللبنانية الآن من شأنه أن يريح العدو ويلغي تراكمات ما حققته هذه الجبهة خلال ما يزيد على 11 شهراً، مما يعترف به قادة الإحتلال.

3– أن إيقاف هذه الجبهة الآن سيدفع قوات العدو للتركيز على الضفة الغربية وغزة والإستفراد بهما.

4– أن إيقاف هذه الجبهة الآن لن يعفي المقاومة اللبنانية من أكلاف لاحقة بعد الإنتهاء من غزة والضفة، بل قد يُغري العدو في التشدد في شروطه الأمنية، تبعاً للتجارب المستقاة من المواجهة في غزة.

اجترحت المقاومة خياراً وسطاً يقوم على الضغط على جيش الإحتلال واستنزافه، وتفادي إنجرار لبنان الى حرب واسعة ما أمكن ذلك. نجحت في تحقيق هذا الهدف على مدار عام تقريباً، وأوجدت واقعاً جديداً في شمالي فلسطين المحتلة يعترف به العدو، ولم تستسلم أمام الضغوط والإغراءات الأميركية والأوروبية التي حاولت مراراً تحييد لبنان عن الوقائع الجارية في غزة

5– أن إيقاف هذه الجبهة الآن سيكون بمثابة خروج غير مشرّف من المعركة له ارتداداته المعنوية والأخلاقية على المقاومة.

إقرأ على موقع 180  القنب الهندي من مركّب هلوسة إلى ترياق سحري

6– أن إيقاف هذه الجبهة الآن سيدفع الذين يدعون حزب الله إلى وقف الحرب اليوم، لاستئناف الهجوم عليه غداً بدعوى مساءلته عن نتائج هذه المواجهة وإدخال لبنان في صراعات المنطقة و… وهنا، يرى مؤيدو استمرار عمل هذه الجبهة أن الدعوة لوقف الحرب على الحدود الجنوبية للبنان لا تنطلق بالنسبة لبعض الفرقاء إلا من زاوية تكتيكية فئوية، بينما الغرض الأساسي هو إخضاع المقاومة للمتطلبات الأمنية الأميركية والإسرائيلية. في حين يقدَّر لجهات أخرى أن موقفها ينطلق من حسابات وطنية لبنانية، لكنها تقع في توهّم أنه يمكن الفصل بين ما يجري في فلسطين وما يجري على لبنان من تبعاتٍ جراءها.

الحرب الشاملة؟ 

ماذا لو تصاعد الوضع وتدهور إلى حرب شاملة في المرحلة المقبلة؟

يقول المؤيدون لاستمرار عمل الجبهة اللبنانية إن العدو يبحث في المقام الأول عن تصعيد الضغط على لبنان لدفع المقاومة إلى التراجع، وخيار الحرب الشاملة ليس مطروحاً بعد، ليس رفقاً بلبنان أو استجابة لنصائح أميركية، بل لأن العدو يُقدّر أن حرباً مع لبنان بدون سقوف ستؤدي إلى متاهة كبرى قد يعرف بدايتها لكنه لا يستطيع التحكم في نهاياتها. ويشير هؤلاء إلى الحدث المتمثل في التفاعلات التي أحدثها الصاروخ اليمني في أوساط العدو المختلفة وكشف هشاشة دفاعاته المتعددة الطبقات، ويقولون إن ما لدى المقاومة اللبنانية من أسلحة لم تكشف عنها إلى اليوم يضع الداخل الإسرائيلي، وتحديداً منطقة الوسط التي تحوي منشآت حيوية ومراكز القرار وكثافة بشرية، في دوامة قاتلة، وهذا المعطى هو ما يُقيّد بالدرجة الأولى خيارات العدو أكثر من أي اعتبار آخر. إضافة الى ذلك، تُمثّل الحرب الشاملة مع لبنان مفتاحاً لتوسّع القتال إلى جبهات أخرى، ما سيضيف أعباء ثقيلة ويُعمّق الإستنزاف البشري والإقتصادي للعدو.

مع ذلك، ثمة قيادات إسرائيلية تدعو الى خيار أضيق وهو إحداث منطقة عازلة على الحدود داخل الأراضي اللبنانية واستخدامها كمصدّ لعمليات المقاومة و”للحصول على نفوذ يتيح التوصل إلى تسوية دائمة”، وفق ما ذهب إليه قائد المنطقة الشمالية في جيش العدو أوري غوردين. وهذا الخيار وارد من الناحية النظرية وحاول العدو تنفيذه في العام 2006 عبر تقدم بري مصحوب بجرافات ضخمة، لكن ليس من السهل تثبيته من الناحية العسكرية، وهو سيمنح المقاومة سبباً إضافياً لتشديد هجماتها على مواقع العدو، وهي التي تعرف طبيعة الأرض وتحسن الإستفادة منها. كما انه لا توجد ضمانة في أن تقدماً من هذا النوع لن يتطور إلى مواجهة أشمل.

على ضوء ذلك كله، يرى المؤيدون لاستمرار عمل هذه الجبهة أن صمودها، مع أداء وازن لا يتراجع ولا يستعجل زيادة جرعة القتال، يبقى أقل كلفة على لبنان من التوقف بدون تحقيق الهدف الذي دخلت المقاومة الحرب على أساسه. وخطوة الإنسحاب قد تبدو مريحة لبعض الوقت، لكن خسائرها وحساباتها الإستراتيجية مؤلمة على غير صعيد، كما سبقت الإشارة. وهذا يستدعي إحتضان المقاومة والإصطفاف الى جانبها لقطع الطريق على رهانات العدو في احتلال أراضٍ لبنانية مرة أخرى.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  اللبنانيون لن يكونوا غزة أو ضفة