الإنكار الجماعي لاستشهاد “السيد”.. ماذا يعكس؟

نحن نقترب من نهاية الشهر الأول على استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. غياب لم يكن محسوباً عند جمهوره ولو أن الرجل ما كان يشتهي إلا أن يسقط شهيداً على طريق القدس في ذروة هذه الجولة، لا أن يموت طريح الفراش في انتظار جولة جديدة ربما لن تأتي في زمانه!

منذ ما يُقارب الأربعة عقود من الزمن، ترعرعت ثلاثة أجيال في كنف شخصية السيّد حسن نصرالله وحضوره وخطابه وصورته ومفرداته، إذ شكّل “السيّد” بالنسبة إليهم “مثال الأنا”، فكان وسيطًا لوصل أنا الفرد بمثال أعلى، لما يحمل من صفات كاريزماتية جعلته قائداً قادراً على محاكاة أفكارهم وأحلامهم.

لقد احتل السيّد نصرالله مكانة الأب الحنون، المُوجّه، الغيور، الخائف على دنياهم وعلى آخرتهم. كان يُشكّل صمّام الأمان في اللحظات المفصلية والصعبة. الجميع ينتظر إطلالاته لما توفر لهم من أمان وإطمئنان وثقة باللحظة وبالغد وبالآخرة، حتى سلّم معظم محبيه ومناصريه بالتوكل عليه في معالجة المخاطر وفك طلاسمها.

 يخاطبهم فيمحضونه ثقة مطلقة بما يقوله. خطابه ينزل عليهم برداً وسلاماً فيزيل الهواجس ويقوّي العزائم. يسري ذلك على جمهور العدو الذي كان يعتبر أن مصداقية “السيّد” تتجاوز بأشواط مصداقية قادته السياسيين والعسكريين.

منذ أن استشهد سماحة “السيّد”، نجد حالة إنكار جماعية، دشّنها صراخ وعويل من حولنا من رجال ونساء وأطفال، فكان من الطبيعي عدم تصديق الخبر إذ توقع جمهور “السيّد” أن يشاركه النصر والفرح كما كان الحال بعد التحرير في العام 2000 (خطاب إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت في ملعب بلدة بنت جبيل) وكذلك خطاب النصر في حرب تموز/يوليو في ملعب الراية في نهاية صيف العام 2006، ناهيك بحروب المقاومين مع الجماعات التكفيرية في الجرود وعلى أرض سوريا.

لم يكن يتخيل هذا الجمهور العاشق لـ”السيّد” العطوف الذي ما انفك يشاركهم الفرح والحزن والدمعة أن يتركهم في منتصف طريق، ولا في طريق العودة، العودة من “طوفان الأقصى” وبعدها الحرب على لبنان.

نعم، كانوا على موعد معه إلى أن أتى التاريخ الذي لن يُمحى من ذاكرتنا: 27 أيلول/سبتمبر 2024. ذلك المساء الذي قرّرت فيه إسرائيل، بضوء أخضر أميركي، بصواريخ تزن عشرات الأطنان الخارقة للأنفاق والتحصينات أميركية الصنع، رمت بها طائرات هي أيضاً من صنع أميركي. لكأن “السيّد” اختار لحظة ابتعاده عنهم، وهو من قال لهم “الخبر فيما ترون لا فيما تسمعون”.

هو الرجل الذي أفنى حياته لأجلهم. لم يسافر يوماً بعيداً، ولم يترك الساحة، ولم يسكن القصور الشاهقة، ولم يعش حياة مرفهة، إنما كان في كل مكان من حولهم يسكن قلوبهم ويجاور فكرهم ويمدهم بالثبات والحكمة ويتربص لعدوهم ويعد له العدَّة، ويعدهم بالنصر الدائم.

لقد كان جمهور “السيّد” على موعد دائم وثابت معه ليُخرج من أعماقهم حزنهم ومظلوميتهم وغضبهم التاريخي. ما كان هذا الجمهور بقادر إلا أن يهبه ثقته ومحبته. “كل شيء فدا السيّد”، “المهم ما يزعل السيّد”، “يا سيّد إنت بخير نحن بخير”… إلخ. والمفارقة أن تلك العبارات لم تغب عن جمهور “السيّد” حتى يومنا هذا، كما لو أنه ما يزال على قيد الحياة!

كيفما اتجهنا وأينما جلسنا نجد حالة من “الإنكار الجماعي” للمُصاب الجلل؛ للحدث المرفوض بالنسبة إليهم. ومن شواهد هذا الإنكار حوارات الناس والمنشورات التي توالت وما زالت تتوالى حتى اللحظة وبينها الآتي:

-أبتي الحنون، لن أنعاك لأنك حتماً هنا بيننا ستعود في أي لحظة لتطل علينا.

-بانتظارك يا حبيب قلوبنا.

-سيدي حيّ .. لا تقل سيدي مات!

-إنني أنتظر نصرنا مع السيّد.. لا أثق بالبيان ولا بالأكفان.

-إن قلب المحب لا يخطىء، فالذي جعل يعقوب النبي على يقين بأن يوسف حيٌ هو العشق… وسيّدنا حيٌ يُرزق.

-حنضل ناطرينك تتطل علينا ونقلك لبيك لتخلص الدني.

-أنت قلت لنا “الخبر فيما ترون لا ما تسمعون”، وها نحن ننتظر ما نرى لا ما نسمع.

-سأبقى أناديك وأنا أعلم أن التابوت فارغ يا سيدي.

-لن أرثيك يا سيدي إلا بدليل قاطع وحازم. لن أصدق حتى أرى جثمانك الطاهرأمامي. فليضعونك في قفص زجاجي حتى تصدق عيناي.

حتى أن “السيّد” لم يسلم من نكات جمهوره التي انتشرت ومنها:

-“يقبرني يلي عامل حالو ميت”..

كثيرٌ هو كلام العشق الذي انتشر على صفحات الوالهين بحب سيّدهم والتي تشير إلى ولادة معتقد جديد وهو “السيّد المغيّب” أو ربما “الإمام الثالث عشر”.. حالةٌ من الإنكار الجماعي لغياب “السيّد” المفاجىء عن المشهدية.

وبحسب مدرسة التحليل النفسي، فإن عملية الإنكار هي أيضاً من الاستراتيجيات – الحيل – النفسية التي يستخدمها العقل الباطن بإنكار الحقيقة أو تغيرها أو التلاعب بها من ثم اعادة تشكيلها لحماية صاحبها من القلق والتوتر الناتج عن فكرة ما أو مشاعر وذكريات مهددة للتوازن النفسي لشخصية الإنسان. وتوصف هذه الحيل بالحصن الذي يحمي الجهاز النفسي من كل القلق والخوف والألم المنبعث من الصراعات الداخلية والخارجية معاً.

إقرأ على موقع 180  المسؤولية ضمير لا مجرد منصب

في الحالات الطبيعية يستخدم الفرد منَّا عدَّة آليات دفاعية بغية حماية نفسه من الأخطار المحدقة ومن الصدمات المفاجئة: الفقدان، الترك، الموت أو الإصابة بالمرض، فكيف بغياب قائد استثاني أعطى لشعبه حبًا كبيراً فزوّده أضعافاً من الحب أثقلت كاهله وألقت بثقلها المزيد من تحمل مواجهة الأعباء والمسؤوليات تجاههم .

أما أنا، ولدى انتهائي من كتابة هذه المقالة التي تناولت موضوع “آلية النكران”، فقد بدوت، كما الآخرين، أنكر غيابه وأتوقع أن يقرأ مقالتي على أمل أن تلقى أعجابه، فتأتيني رسالة خطية مذيلة بتوقيعه، كعادته عندما يريد أن يُميّز إنساناً أو إنسانة.

كم نفتقد إلى إطلالات السيّد المحببة.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  رئاسة الحكومة اللبنانية.. الحالمون كُثُر والفرص صفرية!