من الواضح أن الجنود “الإسرائيليين” الذين شاركوا في العملية بلغ عددهم على الأقل 25 جندياً وصلوا إلى الشاطىء اللبناني على الأقل في أربعة زوارق مطاطية من نوع “زودياك”، وهذه الزوارق كما الجنود يتم نقلهم في مثل هذه الحالات بواسطة سفينة حربية “إسرائيلية” من إحدى القواعد العسكرية في ميناء حيفاء في شمال فلسطين المحتلة، كونه الميناء الأقرب إلى المياه الإقليمية اللبنانية.
ويمكن التكهن أن خط سير السفينة الحربية قد انطلق من ميناء حيفا غرباً إلى المياه الدولية لتنحرف بعدها السفينة شمالاً باتجاه لبنان وأيضاً خارج المياه الإقليمية اللبنانية إلى أن تصل إلى منطقة مقابلة لمدينة البترون في ساحل لبنان الشمالي. هنا لا تحتاج السفينة إلى أن تدخل المياه الإقليمية اللبنانية بل بامكانها انزال الزوارق المطاطية مع الجنود في المياه الدولية لينطلقوا إلى شاطىء البترون في رحلة تمتد بين 15 و20 دقيقة، وبطبيعة الحال عند بلوغ الشاطىء يمكن الإعتقاد أن مجموعة من الجنود (من أربعة إلى خمسة جنود) تولوا حراسة الزوارق عند الشاطىء لتأمينها وحمايتها من اي خطر قد يتهددها، فيما واصل الآخرون سيرهم لمسافة تقارب المئة متر للوصول إلى الهدف وخطفه والعودة به إلى الزوارق في مدة لا تتجاوز الخمس دقائق والاقلاع إلى حيث كانت تنتظرهم السفينة الحربية في عرض البحر.
إنّ تحليل خط السير هذا يأتي إستنادا إلى ما ذكره الكاتب والصحافي “الإسرائيلي” رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل اولا؛ التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية” عن تجارب انزال بحري سابقة نفذها الكوماندوس “الإسرائيلي” في سياق تنفيذ عمليات اغتيال في بيروت وأبرزها عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في شارع فردان عام 1973. ووفقاً لخط السير هذا لا بد من قراءة دور اللاعبين الأساسيين الذين يفترض أن يكونوا على بينة بالعملية غير الجانب “الإسرائيلي”. نحن نتحدث هنا عن لاعبين فقط لا ثالث لهما، وهما قوات الطوارىء الدولية العاملة في لبنان (اليونيفيل) والجيش اللبناني.
ومن المعروف أن القوة البحرية لقوات “اليونيفيل” تجوب بسفنها الشواطىء اللبنانية من أقصى جنوب لبنان إلى أقصى شماله، وهي وفقاً للمهمات المنوطة بها بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 ملزمة عند الاشتباه بأي سفينة يُعتقد أنها تحمل سلاحاً غير شرعي (يعني ليس للأجهزة الأمنية العسكرية والأمنية الرسمية اللبنانية) أن تُبلّغ بحرية الجيش اللبناني التي بدورها تقوم بتفتيش السفينة المشتبه بها في حين تواكب عملية التفتيش سفينة حربية تابعة لـ”اليونيفيل”، ولكن من دون مشاركة الجنود الدوليين في عملية التفتيش. لذلك، من المرجح أن القوة البحرية التابعة لـ”اليونيفيل” قد اكتشفت حركة السفينة الحربية “الإسرائيلية” وحتى وإن لم تدخل المياه الإقليمية اللبنانية لما تملكه “اليونيفيل” من تقنيات عسكرية على سفنها البحرية تمكنت من خلالها من اسقاط مسيرة لحزب الله في منطقة الناقورة خلال الشهر الماضي، بالإضافة إلى ذلك لا بد أن تكون بحرية “اليونيفيل” كشفت حركة الزوارق المطاطية من لحظة انطلاقتها من على السفينة الحربية “الإسرائيلية” بخاصة أن هذه الحركة كانت في ساعات الفجر الأولى ومن غير المحتمل الشك بأنها زوارق سياحية في مثل هذا العدد وبخط سير سريع، وهنا كان لافتاً للانتباه أن البيان الصادر عن الناطق باسم “اليونيفيل” بشأن العملية نفى فقط أن تكون “اليونيفيل” قد شاركت مع أحد في تنفيذ هذه العملية، من دون أن يُضيف أي معلومة بشأن ما إذا كانت بحرية “اليونيفيل” كشفت العملية قبل وصول الجنود “الإسرائيليين” إلى أرض البترون وما إذا كانت أبلغت بحرية الجيش اللبناني بالأمر، وهنا كحد أدنى لا بد من الارتياب من الدور الذي لعبته القوة البحرية الألمانية في “اليونيفيل”، ومرد الارتياب هو الشك بأن تكون هذه القوة قد كشفت العملية ولم تُبلّغ الجيش اللبناني بها ما يجعلها شريكاً مؤكداً في هذا العدوان، خصوصاً إذا أخذنا في الإعتبار حساسية العلاقة في الأسابيع والشهور الأخيرة بين قيادة “اليونيفيل” وقيادة الجيش “الإسرائيلي”، على خلفية اقتحام مراكز للقوات الدولية وإصابة عدد من الجنود وتوجيه اتهامات لجنود وضباط “القبعات الزرق” بالتواطؤ مع مقاتلي حزب الله في قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان.
أما اللاعب الثاني، فهو الجيش اللبناني الذي يملك قواعد عسكرية على طول السواحل البحرية من الجنوب إلى الشمال، تم تزوديها بشبكة رادارات قدّمتها الحكومة الألمانية هبة للجيش اللبناني في العام 2007. فضلا عن نقاط عديدة لمغاوير البحر أبرزها في عمشيت قرب البترون. وبالتأكيد هذه القاعدة مزودة برادار بحري، وإلا لا يكون هناك أي مبرر لوجودها، أي أن الجيش إذا صح أنه لم يتبلغ من القوة البحرية الألمانية في “اليونيفيل” بأمر العملية، كان يُفترض برادارته أن تكتشف العملية، إلا إذا حالت دون ذلك أسباب تقنية نجهلها، خصوصاً وأن الجيش اللبناني لم يصدر حتى الآن أي بيان رسمي يشرح فيه مجريات العملية وكيفية حدوث مثل هذا الإختراق. ولا يمكن أن يميط اللثام عن القضية إلا التحقيق العسكري الداخلي حتى يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الضابط البحري في أقرب نقطة لمكان الإنزال إلى أعلى مسؤول في وزارة الدفاع في اليرزة، برغم وجود علامات استفهام حول “سر” تكليف النيابة العامة التمييزية فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اجراء التحقيق، علماً أن هذا الأمر هو في صلب اختصاص الجيش اللبناني الذي يرصد عادة الخروق “الإسرائيلية”.
وهنا من المفيد الإشارة إلى أهمية رصد داتا الاتصالات والكاميرات وتحديداً لتبيان ما إذا كانت هناك شبكة متعاونين على الأرض سهّلت للجيش “الإسرائيلي” مهمته وربما تم اجلاء بعض هؤلاء في سياق العملية نفسها سواء عبر البحر أو الجو.
الأسئلة كثيرة وأجوبتها تكمن عند قيادة الجيش اللبناني كونه المعني الأول في الأمر، ومواصلة سياسة الصمت تساهم في تشويه صورة الجيش وإثارة الريبة عند جمهور واسع من اللبنانيين، وبخاصة أن كل ما يُطرح من حلول لوقف العدوان الصهيوني على لبنان يتضمن دوراً بارزاً وأساسياً للجيش اللبناني في جنوب لبنان.
في الخلاصة، عملية البترون، وبالإضافة إلى تحقيق الهدف الرئيسي لها بخطف المواطن اللبناني عماد أمهز، تكون قد حقّقت هدفاً ثانوياً ببعد استراتيجي كبير، ويتصل برسم دور مستقبلي لقوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني يتماهى مع هدف إسرائيلي مركزي يتمثل في قطع “الأوكسيجين” عن المقاومة في لبنان منعاً لإعادة بناء القدرات مستقبلاً وهذا الأمر يقتضي إقفال الحدود البرية والبحرية والجوية بصورة كاملة.. وصولاً إلى تقييد أي حركة للمقاومة، وفي هذا تأسيس لعداء عميق بين “اليونيفيل” والبيئة التي ستكون منتشرة في وسطها في جنوب لبنان كما التأسيس لانفجار داخلي كبير في حال وضع الجيش اللبناني في مواجهة أبناء الجنوب والمدافعين عن أرضه.