نحن عكسنا.. ولا إنعكاس لنا

كان يجب لبعض الأوقات أن تكون لحظاتٍ فقط. لكن، اللّحظة نفسها قد تتضخّم لتبتلع عمراً بأكمله. 

تشاءُ الأقدارُ أن تصبح كتاباتنا دراميّة، برغم كرهنا لهذا النّوع من الكتابات الذي لطالما قُرن بالبؤس والضّعف أو التّمثيل، وبرغم علمنا بأنّنا نحن من يستحقّ الحياة بطولها وعرضها، حلوّها ومرّها.

نجد أنفسنا عكسَنا. نكتب عكسَنا. نحكي عكسَنا. نحنُ عكسُنا، ولا انعكاس لنا. نبحث عن صوتِ نايٍ لنرى بعض انعكاسٍ ذواتنا التي ما كانت حرّة إلا يوم كانت جاهلة. وقتذاك فقط، كنّا نعرف كيف نعيش. أقلّه نسبياً. لكننا كنّا نعيش. كان الجهل ولاّدة تّعدّدية تجريبية في دواخلنا. الجهل يصنع لنا هويّة، ولا تكون الذّات قويةً إلاّ متى كانت لها هويّة.

وقتذاك، كنا نمر بلحظات معاناة وألم. كنا نكتب شعراً عنها. نلحّن الأشعار. نغنّيها، ثمّ ننتظر من يقرؤها لنا، أو يسمعها منّا، ليثني عليها ربّما، أو لينسفها من أساسها، لكنّه على الأقلّ.. كان ينسينا “همّنا”. ما أدركنا أن تلك اللحظات ـ المطبّات كانت حلو الحياة. لم تكن هموماً أصلاً. كنا شبابَاً في عزّ آلامنا. وقتذاك، صدّقت أرواحنا كلّ أساطير النجاة،  فتعلّقت بها، قبل أن تَقذفها الأفكار في رياح التّيه، ثمّ لا تجعل لها سوى الكتابة مستقرّاً لبعض نجاة، وما هي بنجاة.

يومذاك، كنّا متّزنين، لكنْ مجرد أطفال في عقولنا وأفكارنا. حتى في هدوئنا. هدوؤنا كان طفلاً خجولاً يعتدُّ بقدرته على المشي وحده باستقلاليّة. ولكثرة اعتداده بدا واثق الخطوة ملكاً. طفلٌ ما أدرك أنّ القصّة ليست في القدرة على المشي، بل في القدرة على اكتشاف الطّريق الذي سنمشي عليه، ولا طريق بلا هدف!

‌نحن اليوم عالقون، نملك هويةً بلا انتماء، ثوراتٍ بلا جنود، فنون بلا معارض، فلسفاتٍ بلا كتب، أشعاراً بلا دواوين. بلا قُرّاء. نحن عالقون. وقد نموت عالقين. لكنّ نواميس التّطور ستكتب لنا البقاء ولو متنا، وستكتب لهم الموت ولو عاشوا حدّ الانتفاخ

كان هدوؤنا طفلاً، وكان له أهل، حدّدوا له السّبيل والهدف معاً، وقالوا امشِ. صفّقوا هم، وهو رقص. ظلوا يصفّقون، وظلّ يرقص حتى أحسّ بالدّوار. ويا ويح الهدوء متى دار.

تشتّت هدوؤنا. كلّ السّكون في عيوننا تشتّت. مدّوا لنا أيادي العون، وظلّ هدوؤنا يدور. أكان دوران صوفيٍّ هذا؟ أأخذنا الله إلى التّيه ليختبر قدرتنا على الخلق؟ أن نخلق أنفسنا من جديد بعد موتها؟ أن نُبعث بلا رسول؟ أن نعيش البرزخ بلا موت؟ هل كانت يدَ الله هذه؟ أم خدعة شيطانٍ يغوينا بحلاوة التمرّد؟

تمرّدنا دون أن نبتغي ذلك. تمرّدنا على الزّيف، ونحن لم نزل بعدُ جاهلين بالحقيقة، باحثين عنها. وكنّا باحثين صادقين. ولهذا، وبرغم أنّ فكرنا كان شيخاً طاعناً في السّن، فقد بان بحثنا كتخبّط طفلٍ غير عاقل. حتّى حبّنا، تعبيرنا، حركات جسدنا، ضحكاتنا، بكاؤنا.. كلّ شيءٍ كان جنينيّاً. فلا الجنين يُدرك ذاته، ولا أحد يُدرك ملامحه أيضاً.

هكذا، ملامحنا كانت جنينيّة، كنّا نحن الجنين والحامل معاً، ونحن كيس الخلاص وحبله الملتفّ حدّ الاختناق، ونحن من سنعالج التفافه، ومن سينتظر لحظة الاكتمال حتى يعلن الولادة، لنقنع أنفسنا بما سيتبعها من راحةٍ وثبات.

‌اكتملت الملامح، لكنَّ باب الخلاص أُغلِق من دون أن ينقطع. لن يرضَى أحدٌ بالولادة إن كانت الحامل ستنجب صنفاً لا يشبه الأصناف المولودة. سيكون هذا الجديد نفحةً من روحٍ شرّيرة. كلُّ جديدٍ شرّيرٌ متى جهلناه، ولسنا مضطرّين لاكتشافه. لن نُضطرّ لذلك إلاّ متى تكاثر الغريب، وأصبح ظاهرة.

‌علّقنا أنفسنا عند باب الخلاص قبل أن نولد، وأخذنا نفكّر: كيف سنُكثرنا؟ بأيّ الطّرق؟ هل سيستغرق هذا قرناً أو قرنيْن بعد؟ هل سنَشيب قبل أن نُبصر النُّور؟ هل سنبصر النّور أصلاً؟

‌عند هذا الحدّ الفاصل بين السّؤال والجواب علقنا. ابتلَعْنا الفراغَ حتى ابتلَعَنا. ومن داخل الفراغ أخذنا نملأ الفراغ بالفنّ. رسمنا عالمنا داخل الدّائرة التي نعلم أنّها لن تغريَ أحداً لاكتشافها. لوّنا عالماً من أمانٍ وألوان، ورسمنا داخله فراشاتٍ نيليّةً من صنف أرواحنا، حنّطناها كي تبقى بعدنا جميلةً يافعة، فإذا ما متنا قبل لحظة الولادة، ظلّت هي، وانتظرت اللّحظة الفيصل، وأعلنت ولادتها. بولادتها، سنولد ولو كنّا ميّتين. ستقترب من النّار على كثرتها، ولن يصيبها شيء. ستتكاثر ونتكاثر. سيتذكّروننا كلّما رأوا فراشةً، وكلّما رأوا جماداً تحرّك بروحٍ نيليّة.

‌نحن اليوم عالقون، نملك هويةً بلا انتماء، ثوراتٍ بلا جنود، فنون بلا معارض، فلسفاتٍ بلا كتب، أشعاراً بلا دواوين. بلا قُرّاء. نحن عالقون. وقد نموت عالقين. لكنّ نواميس التّطور ستكتب لنا البقاء ولو متنا، وستكتب لهم الموت ولو عاشوا حدّ الانتفاخ.

‌قد تتضخّم اللّحظة لتبتلع عمراً بأكمله. وقد يتقزّم العمر ليتعملق الفكر. وبين هذا وذاك، نحن عكسنا، ولا بأس من العكس.. ما دام قانون بقاء.

إقرأ على موقع 180  "ثورة الدانتيل".. والإنتحار الجماعي!

(*) رسم ملاك عبدالله

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هل قلتم.. قنبلة نووية في الجنوب؟