وداعاً.. “غيفارا العرب”

ثمة سيرة مشتركة بين ثوار عالميين. لم يكن اغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله ليحصل لولا الخيانة والاختراق الاستخباراتي. هنا يستحضرني ما قاله الثائر العالمي أرنستو تشي غيفارا عن هذا الموضوع: "إذا أردت تحرير وطن، ضع في مسدسك عشر رصاصات، تسع رصاصات لخونة الوطن وواحدة لعدوك، فلولا خونة الداخل ما تجرأ عدو الخارج على وطنك".

يوم توفي الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في العام 2016 زارني صديق إيراني ملتزم دينياً ويجيد اللغة العربية؛ وبرغم قناعاتنا الفكرية المتناقضة، كانت تربطني به صداقة عميقة. سألته: “أخي علي إذا افترضنا أن هناك جنة ونار بعد الموت، أين سيكون مصير الرفيق فيديل كاسترو”؟ أجابني: “في طريقي إليك كنت أفكّر بالموضوع، وقد استعرضت في ذهني مسيرة هذا الرجل منذ شبابه إلى حين وفاته، وكيف أنه قارع أعتى قوة استعمارية في العالم وصان سيادة بلاده وشعبه من جبروتها واستكبارها وهو على بعد عشرات الأميال فقط من حدودها، بالرغم من حصار استمر أكثر من نصف قرن، لم يُقصّر خلالها في نصرة المستضعفين في كل أنحاء العالم وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني المظلوم؛ ولأن لديّ قناعة راسخة بوجود حياة أخرى خالدة بعد الموت، فإن كاسترو وبرغم إلحاده لا بد أن يحفظ له الله مكاناً مرموقاً بين الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين”.

ترك كاسترو ورفيق نضاله القائد الثوري الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا الأثر نفسه لدى الكنيسة في الكثير من دول أمريكا اللاتينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث انتشرت بسبب تأثيرهم الكثير من الكنائس ذات التوجه اليساري. وكان للأخير الأثر الأكبر ليس فقط لأنه ترك مهنة الطب والتحق بالثوار الكوبيين في جبال سييرا مايسترا في كوبا للنضال ضد الديكتاتور ـ الدمية فولغينسيو باتيستا، بل أيضاً لأنه ترك المناصب الرسمية التي منحه إياها كاسترو بعد انتصار الثورة الكوبية، وقرّر أن يواصل نضاله مع الثوار التوّاقين للحرية من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، وكان له موقف داعم للثورة الفلسطينية، وكان يعتبر أن الإمبريالية الأمريكية هي العدو الأول للشعوب ويدعو إلى العنف الثوري في مواجهتها أممياً، وباتت إحدى مقولاته بوصلة للثوريين في العالم حين قال “لا يهمني متى وأين وكيف سأموت.. ما يهمني ألا يبقى العالم رازحاً بثقله فوق الذين ليس على صدورهم قميص”. وترجم قوله بالفعل عندما دفع حياته ثمناً لهذه القناعة بعد أن طاردته المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) مع قوة من الجيش البوليفي وأسرته في العام 1967 في غابات بوليفيا وأعدمته جريحاً بعد أن قطعت يده وأرسلتها إلى كاسترو.

إن كان غيفارا ملحداً يعتمر تلك القبعة السوداء مع النجمة الحمراء في مقدمتها، فقد كان نصرالله رجل دين يعتمر العمامة السوداء (في إشارة إلى أنه من سلالة رسول الله)، وتحت القبعة والعمامة ثمة بوصلة أخلاقية واحدة بالرغم من التناقض الفكري والايديولوجي بينهما

قد يسأل القارىء لماذا الكلام عن كاسترو وغيفارا الآن؟

الجواب هو في التشييع الحاشد والمهيب لشهيد المقاومة في لبنان السيد حسن نصرالله ورفيقه الشهيد السيد هاشم صفي الدين. كان نصرالله من طينة غيفارا بدفاعه عن الحق في كل مكان في العالم، بالكلمة أو الخبرة أو الطلقة، من دون أن يهاب ما تسمى “قوى عظمى”. لقد رأى نصرالله أن الامبريالية الأمريكية هي رأس الشرور على الأرض، وبالتالي مارس رؤيته هذه مقارعاً ربيب أمريكا ومغتصب ارض فلسطين، الكيان “الإسرائيلي”، وذلك على مدى سنوات عمره منذ أن كان شاباً يافعاً وحتى استشهاده في غارة “إسرائيلية” استهدفته في الضاحية الجنوبية لبيروت بحوالي ثمانين طناً من المتفجرات في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024.

لقد وقف نصرالله إلى جانب الشعوب المستضعفة ليس فقط في منطقتنا العربية بل في جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا ولكن البوصلة والأولوية كانت دائما فلسطين، وحتى عند افتراق المقاومة اللبنانية عن حركة حماس الفلسطينية في الحرب على سوريا ووقوف كل منهما في الطرف المواجه عسكرياً للآخر، عمل نصرالله على استيعات موقف حماس ولم يقطع صلاته مع قياداتها بل استعاد العلاقة الجيدة معها وواصل مساعدتها تسليحاً وتدريباً. كان نصرالله يقول إن قضية فلسطين ليست قضية صراع سياسي فحسب بل هي قضية دينية وأخلاقية وإنسانية بالدرجة الأولى، وهي قضية حق تُشكّل ميزان التعامل مع أي جهة في هذه الدنيا.

وإن كان غيفارا ملحداً يعتمر تلك القبعة السوداء مع النجمة الحمراء في مقدمتها، فقد كان نصرالله رجل دين يعتمر العمامة السوداء (في إشارة إلى أنه من سلالة رسول الله)، وتحت القبعة والعمامة ثمة بوصلة أخلاقية واحدة بالرغم من التناقض الفكري والايديولوجي بينهما. وكما ترك غيفارا أثراً عميقاً في الكنيسة وفي العالمين العربي والإسلامي إذ تحوّل إلى أيقونة ثورية لدى أجيال متعاقبة فيهما، كذلك فإن نصرالله ترك أثره العميق في بنى ومؤسسات يسارية لا سيما في كوبا وفنزويلا والبرازيل والكثير من الأحزاب الشيوعية في أمريكا اللاتينية والعالم العربي وقد نعته الكثير من الأحزاب الشيوعية العربية.

إقرأ على موقع 180  جبران تويني مؤسس "النهار".. العروبة الصافية

ولأننا من جيل شكّل فيه غيفارا وعينا الثوري والقدوة الانسانية والاخلاقية والسياسية، فإننا بعد استشهاده عشنا عقوداً من الفراغ قبل أن يظهر نصرالله ويتبلور فكره الثوري بالرغم من التناقض الايديولوجي بيننا وبينه ولكن إن كان لليساريين اليوم أن يقولوا كلمة في نصرالله فلا بد أن يقولوا: وداعاً يا غيفارا العرب.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جوزيف سماحة في مقابلة غير منشورة: "السفير" جريدة فلسطين (1)