ترامب “يشتري” الاعترافات بفلسطين.. بفُتات من الطعام لأطفال غزة!

إنها أشبه بلحظة السويس 1956، لكن معكوسة. فرنسا وبريطانيا تطالبان إسرائيل بوقف الحرب في غزة، تحت طائلة الذهاب إلى الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول/سبتمبر المقبل، بينما يقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ملقياً بتبعة استمرار الحرب والجوع، على حركة "حماس".

يكتفي دونالد ترامب بمعالجة نتائج الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 22 شهراً، كأن يوفد مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف إلى إسرائيل وغزة، ليبحث فقط في طريقة لزيادة المساعدات الإنسانية، لاحتواء القلق العالمي من استشراء الجوع. وعمد ترامب أيضاً إلى تسخيف الاعترافات الغربية المحتملة بدولة فلسطين، وذهب خطوةً أبعد في فرض عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية. ورأى الباحث البارز في معهد “كارنيغي” للسلام الدولي أرون ديفيد ميلر، أن قراراً كهذا “ليس مصادفة”، وربما يرمي إلى عدم منح الرئيس الفلسطيني محمود عباس تأشيرة دخول إلى نيويورك لحضور أعمال الدورة العادية للأمم المتحدة، التي ستشهد الاعترافات. ولا يكتفي ترامب بذلك، بل لوّح بزيادة الرسوم الجمركية على كندا، إن نفذت حكومتها وعدها الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول/سبتمبر، مقتدية بفرنسا وبريطانيا.

لوهلة، يبدو أن اعتراف دولة أو دولتين أو ثلاث بدولة فلسطينية، لن يغير في واقع أن فلسطين تحظى باعتراف 147 دولة عضو في الأمم المتحدة من أصل 193. بيد أن الصورة الأوسع لما يجري، تُبرزُ ظاهرة أكثر قلقاً بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة. المسألة هنا تتعلق بتصدعات في جدار الدعم الغربي المُزمن للدولة العبرية. لقد اعتمدت إسرائيل على الدعمين الفرنسي والبريطاني حتى عام 1967. وساهمت فرنسا في البرنامج النووي الإسرائيلي في الخمسينيات، بينما كان هذا البرنامج ( للمفارقة) مدعاة قلق في الولايات المتحدة. وفي عام 1956، خاضت إسرائيل حرب السويس جنباً إلى جنب ضد مصر عرفاناً بالجميل، قبل أن يتدخل الرئيس دوايت إيزنهاور ويأمر الدول الثلاث بوقف الحرب.

اليوم، لا يطلب ترامب من إسرائيل وقفاً للنار في غزة، لا بصورة مؤقتة ولا دائمة، ويميل بالكامل إلى سردية نتنياهو ووزيريه إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش حول مسؤولية “حماس” عن سرقة المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى غزة، وتالياً التسبب بالتجويع. والحل في نظر ترامب يكمن في “استسلام” الحركة وحث سكان القطاع على البحث عن مكان أفضل لهم.

ترامب وعواقب التردّد

منذ ولايته الأولى (1917-2021) تبنى ترامب أفكاراً مغايرة لتلك التي درجت عليها إدارات أميركية سابقة، من المناداة بحل الدولتين، لوضع حد نهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هذه الأفكار تتناغم مع ما يدعو إليه نتنياهو من قفزٍ فوق القضية الفلسطينية، والذهاب مباشرة إلى التطبيع مع الدول العربية. وهكذا كانت الاتفاقات الإبراهيمية.

في ولايته الثانية (2025 – 2029)، التي أتت في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة، طرح ترامب نقل سكان غزة إلى مصر والأردن، وبأن تضع أميركا يدها على الجيب الساحلي لتحويله إلى “ريفييرا شرق أوسطية”. الفكرة التي لم تجد تجاوباً لا عربياً  ولا دولياً، بما تنطوي عليه من تطهير عرقي بكل معنى الكلمة، جعلت الرئيس الأميركي ينخرط في جهود التوصل إلى وقف مؤقت للنار، يؤمن إطلاق دفعة من الأسرى الإسرائيليين، ومن ثم البحث عن السبل الآيلة إلى وقف مستدام للنار من دون التصريح أو حتى التلميح إلى فتح أي أفق سياسي أمام الفلسطينيين.

الآن، يواجه ترامب عواقب تردّده في الضغط على نتنياهو لوقف النار وإدخال المساعدات من طريق وكالات الأمم المتحدة التي ترفض إسرائيل التعاون معها وتضيق على موظفيها، والاعتماد بدلاً من ذلك، منذ أيار/مايو الماضي، على “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة إسرائيلياً وأميركياً، والتي تحولت إلى “مصائد موت” للفلسطينيين الساعين إلى الحصول على مساعدات من مراكز التوزيع. شكّلت هذه الآلية فشلاً كاملاً للاستراتيجية الإسرائيلية، لأنها أفضت إلى استشراء الجوع، بما يرقى في معايير المنظمات الدولية المعنية إلى مستوى الإبادة. وأضطر ترامب إلى الإقرار بوجود “جوع حقيقي” في غزة، وقال إن زوجته ميلانيا تأثرت لمشاهد أطفال جوعى. وكل ما فعله هو إيفاد ويتكوف ليتفقد مراكز “مؤسسة غزة الإنسانية”.

الفرق بين ترامب والدول الغربية

الفرق بين ترامب والدول الغربية التي تعتزم الاعتراف بفلسطين، أن هذه الأخيرة، باتت مقتنعة بأن وقف إطلاق النار لم يعد كافياً لحل الصراع المزمن، وبأنه يتعين الذهاب إلى التعامل مع الأسباب التاريخية لهذا الصراع، وفي مقدمها حرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير. وهذا ما يستفز نتنياهو الذي يتباهى بأن أحد أركان إرثه السياسي يكمن في حؤوله دون قيام دولة فلسطينية. ولهذا يلوح الآن بالرد على الخطوات الغربية، بإجراءات أكثر راديكالية، كالذهاب نحو ضم غزة والضفة الغربية، والعمل على تهجير طوعي أو قسري للفلسطينيين، وإحياء فكرة تهجير معظم السكان إلى “مدينة إنسانية” في رفح، هي محل تنديد دولي.

وحذر وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، من أن سياسة نتنياهو القائمة على رفض حل الدولتين “خاطئة من الناحيتين الأخلاقية والاستراتيجية.. وتؤذي مصالح الشعب الإسرائيلي، وتسدُّ الطريق أمام السلام الدائم والعادل”. واستناداً إلى استطلاع أجراه معهد “يوغوف”، فإن 45 في المائة من البريطانيين يؤيدون الاعتراف بدولة فلسطين، في مقابل 14 في المائة يعارضون الفكرة.

إقرأ على موقع 180  ألمانيا بدون أنجيلا ميركل

الحملة التي تقودها إسرائيل على غزة والضفة هي، بحسب المحلل الإسرائيلي مايكل ميلشتاين، “عبارة عن فشل كامل.. لسنا قريبين من تحقيق هدفنا الرئيسي- بمحو القدرات العسكرية والسلطوية لـ حماس. كما أن حماس لم تصبح أكثر مرونة. إننا نجد أنفسنا في الوقت الحاضر أمام كارثة متكاملة”.

واستناداً إلى صحيفة “النيويورك تايمز”، فإن “حماس لا تزال تُبسط سيطرتها على مراكز حضرية رئيسية في غزة، ولم تساوم على مطالبها الجوهرية. وقائد حماس، محمد السنوار، الذي قتلته إسرائيل في حملتها الأخيرة، جرى استبداله بمُتشدّد آخر هو عزّ الدين الحدّاد، الذي يتمسك بموقف حماس، كما تمسك السنوار بمواقف أسلافه”. وهنا تُذكّر الصحيفة بالتحقيق الذي كانت أجرته وتوصلت فيه إلى أن نتنياهو تعمَّد إطالة أمد الحرب لأسباب يعود جزء منها إلى خلفية سياسية، كي لا يغضب شركائه في اليمين المتطرف، الذين يهدّدون بالاستقالة إذا ما قرَّر وقف الحرب.

الاعتراض في أميركا نفسها

لا يقتصر التململ من السياسة الإسرائيلية على الحلفاء الأوروبيين، بل امتد إلى الولايات المتحدة. وبحسب الباحثة في “منتدى السياسة الإسرائيلية”، شيرا إيفرون، فإنها لمست خلال زيارة قامت بها مؤخراً إلى واشنطن، مستوى غير معتاد من الإحباط خلال اجتماعاتها مع مسؤولين ومحللين يؤيدون إسرائيل في العادة.

وتجرأت النائبة الجمهورية مارغوري غرين، المقربة من ترامب والناشطة في حركة “لنعد أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا)، على وصف ما يجري في غزة بـ”الإبادة”. واعتبرت أن الجوع لا يقل “رعباً” عن هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. والنائب الجمهوري السابق مات غايتز ومستشار ترامب السابق ستيف بانون، ندّدا بممارسات إسرائيل. وكشف استطلاع للرأي أن ستة من بين عشرة أميركيين غير راضين عن أفعالها.

وأقرَّ وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بأن الاعترافات الغربية المحتملة بفلسطين، تُلحق ضرراً بصورة إسرائيل، عالمياً، وتجعل “حماس” ترى أنها تكسب “حرب العلاقات الدولية”. وندّد الديموقراطيون في الكونغرس بالحصار الإسرائيلي، ودعوا ترامب إلى التدخل. وحملت النائبة الديموقراطية البارزة ساره ماكبريد نتنياهو المسؤولية عن الجوع، واعتبرت أن وقف النار المؤقت لا يكفي، وأن ثمة حاجة إلى وقف كامل للنار تمهيداً لمعاودة مفاوضات حل الدولتين.

أكثر من مرة غيّر نتنياهو من أهداف وتوصيفه لـ”النصر المُطلق”. ويرى اليوم أن عودة إسرائيل إلى احتلال غزة والاستيطان فيها وضمّها هي العناصر التي تضمن “النصر المُطلق”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أي "14 شباط" يُنصب جعجع زعيماً للمعارضة.. اللبنانية؟