المَرجِع

التقيت خارجَ البلادِ صديقًا قديمًا مرَّ ما يناهز عقدان من الزَّمان مُذ رأيته. عرفت أنه ترك فصيلًا سياسيًا كان قد انضمَّ إليه؛ مُفضلًا أن يستقلَّ بأفكاره وأن يحتفظَ بحريَّته ورؤيته؛ على أن يتبعَ الآخرين وقد اختلفَ معهم.

لا شكَّ أن أوقات الشدَّة تستدعي المُراجَعات بمختلف أنواعها؛ فكريَّة وسياسيَّة بل وأخلاقيَّة، والشَّخصُ المَرن القادر على مُسائلة نفسِه ومبادئه، وإعادة النظرِ في مَراجِعه وما حوله كافة، ثم الاعتراف بمواطِن السَّداد والإخفاق؛ يستحقُّ وافرَ التحية، أما هذا الذين يرفض التزحزُح قيدَ أنمُلة ولو أدرك أنه على خطأ؛ فإنه يؤخر الاستفادةَ من التجرِبة ولا يُحرز أيَّ تقدُّم.

***

المَرجِع اسمُ مكان من الفعل رَجَع. الفاعلُ راجِع والمَفعول به مَرجُوع إليه، والمُرتَجَع هو البضاعة التي خرَجت من مكانها ثم عادت لسَبب أو آخر، أما رَجع الصَّدى؛ فهو الصَّوت إذ يرتدّ لصاحبه بعد اصطدامِه بحواجزٍ ماديَّة تعكسه.

***

لكل منا مَرجع يقيسُ عليه ما يفكر فيه وما ينتوي فِعله وما ينجزه. بعضُ الناس يثمّنون المَرجعِية الدينية وآخرون ينتخبون لأنفسهم مَرجعيات فكريَّة، وهناك من يمضي وراء مَرجعيَّة حقوقيَّة، وثمَّة من لا يُوجِعون أدمغتَهم ولا يبحثون عن مَعايير لتصرُّفاتهم.

***

يُطلَق مَفهوم الرَّجعية على كلّ ما انتمى لفكر قديم مُتزمت، وكل ما أدَّى إلى تبنّي مواقف تحبّذ الحفاظ على الأوضاعِ القائمة أو السَّابقة؛ إيمانًا بأنها الأفضل، مع رفض أيّ محاولة للتغيير والتقدُّم. الرَّجعيون في حالٍ ارتياح، فلا حاجة بهم للبحثِ عن جَديد وطرقِ أبواب المجهول؛ لديهم ما يريدون، والمُنى أن تجمُد الحياةُ عنده.

***

في سنواتِ الدراسة بجامعة عين شمس؛ مثلت مَراجع الطِبّ الضَّخمة المصدرَ الرئيسَ لتحصيل المواد الدراسيَّة. سألنا في البداية عن المُذكرات التي يستخدِمها زملاؤنا وأقراننا في الجامعات الأخرى؛ فقوبلنا بابتساماتٍ عريضةٍ سَاخرة: لا مُذكّرات ولا مُلخَّصات للطبيب، المَنهج هو كلُّ ما يَمُت للمادة بصِلة، ومُحاولة اختصاره لأسباب تتعلَّق بالامتحانات غير مقبولة، وأيّ سؤال من المُمتحِن وارد. لم يُثنِ هذا الردُّ مُعظمَنا عن الإتيان بشتى المُختصَرات المُتاحة من هنا وهناك؛ لكنا أدركنا بعد فترةٍ أن المَرجعَ يصنع بالأذهان ما تعجز عنه الورقاتُ المَعدوداتُ، وأن ما رأيناه ذاك الوقت عسفًا وتزيُّدًا هو بالفعل طريقٌ أصعَب؛ لكن نتائجَه أفضلُ وأبقى.

***

أرسلت لي شقيقتي فيديو لطالبةٍ بالمرحلة الإعدادية، تتحدَّث بانفعال شديد؛ مُدافِعة عن حقّها في معرفة إجابة السؤال الأخير بورقة الامتحان؛ غشًا من زميلاتها. كانت تقولُ في غضبٍ حقيقيّ إنها لم تزل في مُقتبل العمر، وإن مخَّها لا يحتمل هذا الكمّ من المعلومات. تؤكد أن المُراقِبَ مُخطِئ وتستخدم ألفاظًا مُضحكةً في غير محلها، والأزمةُ بغضّ النظرِ عن الكلمات؛ أنها لا تملك أيَّ مَرجعية أخلاقية تستند إليها في فعلَها وخطابها. هي على يقينٍ من أن موقفَها صائبٌ، وأن الغشَّ عملٌ مقبولٌ وطبيعيّ؛ لا يصحّ أبدًا منعها عنه.

***

تقول الحكمةُ الأثيرةُ إن الرُّجوعَ إلى الحقّ فضيلة، والعكسُ صَحيح؛ إذ البقاء إلى جانب الباطلِ رَذيلة؛ حتى ولو لم يُمارِس المرءُ دورًا إيجابيًّا فيها. غيابُ الفعلِ الحاسِم في مُواجهة التَّجويع والقتل اليوميّ على أرضِ فلسطين؛ باطلٌ، وادعاءُ العَجز عن المُساعدة والاكتفاءِ بالشَّجب والتنديدِ والتصريحِ بعدم الرضاء؛ أكبر الرَّذائل

بعضُ الناس يُقرر في لحظة فاصلة أن يرجعَ لأصوله. ربما يترك المدينةَ التي هاجر إليها ويَقصد المنطقة التي وُلد وتربَّى فيها، وربما يبقى محلَّه ويتقصَّى شجرةَ عائلته وتاريخَ جُدوده، أو يبحث عن جذرٍ له يمتدُّ ببلدٍ آخر أو قارة. هناك من يتوغَّل في الماضي مدفوعًا بالفضول وحده، ومن يبحث عن مَجد يفتقده في حاضرِه، ومن يَرغب في إثبات نَسَب عتيق هو مَوضِع شرفٍ وفُخار. في فيلم “إشاعة حب“؛ تتباهى “بهيجة” أو الفنانة إحسان الشريف بجدها الأعظم “سَلطَح بابا”، ثم بصَنف “الكريب سُوزيتّ” الذي تتوارث عائلتها طريقه عمله؛ دلالة على المكانة الاجتماعية المتميزة. لا تتراجع “بهيجة” في أي موقف عن أسلوبها المتعالي؛ وأخيرًا يتبيَّن لنا أن “سلطح بابا” لم يكن على المستوى الذي تدعيه، وأن تفاخرها المضحك بلا مَرجِع ولا أصل.

***

إذا أراد المُتحدّث أن يعود للمَوضوعِ المَطروح بعد التشعُّب في مَوضُوعات أخرى لقال: يرجع مَرجوعنا. التعبير شائع، والمَرجوع إليه هو بالطبع الأكثر أهميةً في حينه، أما المَرجوع عنه فغالبًا ما يمثل خطأ أو أمرًا غير مَرغوب.

***

بعضُ المرَّات يكون الانتقالُ في اتجاه واحد؛ ذهابٌ بلا رَجعَة. الهِجرةُ غالبَ الظنّ سَفرٌ لا تعقُبه عودةٌ؛ إما كاختيار حرّ أو لسبب قهريّ. يقطع المسافرون على متن السُّفن المُتهالِكة والمَراكِب الصَّغيرة تذكرةً إلى المَجهول؛ فإما أن يصادفَهم الحظُّ الحَسَن، أو يبتلعهم سوءُ الظروف.

***

تقول الحكمةُ الأثيرةُ إن الرُّجوعَ إلى الحقّ فضيلة، والعكسُ صَحيح؛ إذ البقاء إلى جانب الباطلِ رَذيلة؛ حتى ولو لم يُمارِس المرءُ دورًا إيجابيًّا فيها. غيابُ الفعلِ الحاسِم في مُواجهة التَّجويع والقتل اليوميّ على أرضِ فلسطين؛ باطلٌ، وادعاءُ العَجز عن المُساعدة والاكتفاءِ بالشَّجب والتنديدِ والتصريحِ بعدم الرضاء؛ أكبر الرَّذائل.

إقرأ على موقع 180  علي الديري.. وجدلية "خير القرون"

***

الارتجاع اضطرابٌ في الحَركة؛ قد يُصيب صِمامات القلبِ فينهكَ المرءَ، وقد يؤثر على جهازه الهضميّ فيُسفِر عن ألمٍ بفمّ المَعدِة والمَريء. العلاجاتُ مُتنوعةٌ منها القلويَّات التي تعادِل الحوامِض وتُخفّف أثرَها، والثابت أن نوعِية الطعام قد تفاقِم الوضعَ وقد تطيّبه.

***

يحتاج الواحد مرَّات إلى التثبُّت من رأيٍ أو مَعلومة، فيلجأ للمَراجِع المُتخصّصة؛ كُتُب أو وثائق، وربما أشخاص، فإذا قيلَ فلانٌ مَرجع في كذا؛ كان المعنى أنه حجَّةٌ بمضمَار المَعرفة المَقصودة. كان صلاح عيسى مَرجعًا تاريخيًا شديد الثراء، وكان محمد حسنين هيكل مرجعًا مبهرًا لتفصيلات حقبةٍ سياسيةٍ شديدة الحيويَّة والوُعوُرة، بينما مثل عبدلله أحمد الذي اشتهر بلقب “ميكي ماوس”؛ مرجعًا فنيًا أصيلًا.

***

غنَّت المجموعة “رايحين رايحين شايلين في إيدنا سلاح .. راجعين راجعين رافعين رايات النصر“، الكلماتُ لنبيلة قنديل واللحن لعليّ اسماعيل وقد ظهرت الأغنيةُ عام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين، وأعقبها الانتصار في حَرب العبور، ولا جدال أن حقَّ استعادةِ الأرضِ المَسروقة ومعها العِزَّة والكرامة؛ مَحفوظٌ للشُّعوب كافَّة، والتخاذلُ عن طلبِه هَزيمة مؤقتة.

***

إذا غيَّر الواحد مَوقفَه أو بدَّل ما وَعد به؛ قيل: رَجع في كلامه. الرُّجوع في الكلامِ نقيصةٌ لا تُغتَفر، وخطبةُ الحُسَين بن عليّ في معنى الكلمة؛ تؤكد أنها شرفٌ وقضاءٌ وأنها أيضًا فرقانٌ ما بين الناس. في متن الخُطبة أيضًا أن الكلمة “زلزَلت الظالم”؛ وما أكثر الظَّلَمَة في أواننا هذا، وما أتفهنا وأتفه عملنا في مُواجهتِهم. صار الزَّمنُ غير الزَّمنِ وتبدَّلت الأحوال، ولم تعد الشَّجاعةُ من الصِفات السَّائدة، ولا باتت التضحيةُ في سبيلِ الحقّ من الأمورِ الواردة؛ والأمل في استيقاظ المارد.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  علي الديري.. وجدلية "خير القرون"