علي الديري.. وجدلية “خير القرون”

أنّى لباحث يُعلي من شأن العقل نقيضاً للمنقول المتوارث بغثّه، والمُسبق الأحكام، أن يكتفي بحتمية ما قيل وقالوا، فكيف إذا ما لازمت صفة الباحث الجهد الأكاديمي تكويناً، والدربة في التنقيب في بطون التاريخ لإثارة الأسئلة الكبرى ولإيقاظ الغفلة من الحتميات.

هذه الحتميات/المسلمات شكّلت ولم تزل عناوين صراعات سياسية على خلفية دينية، جيّرتها، السلطة (أي سلطة) في الفتن والحروب، كما في فضاءات قمع الحريات والتنوع الفكري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

في هذا الخضم، يطرح الدكتور علي أحمد الديري أسئلته، مُسلطاً الضوء على تراكمات إنبنت في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وعليها إنبنت مسارات من الأحكام الأبدية، وخلالها تمّ تحويل الشخصي إلى مقدس، والخبر إلى عقيدة، وغاب علم التاريخ والتمحيص في الحالتين، عدا عن البطش الدموي الذي طال أصحاب الرأي المخالف لرأي المُتنفّذين تاريخياً من أصحاب السلطة.

هنا يدخل الديري بأسئلة وحجج بمثابة قنبلة أرادها مُنفجرة وإنْ بين يديه، ولكن لا بد لشظاياها أن تُحرّك العقول، وتُجدّد في طبيعة الرواية؛ هذه الرواية التي جمّدها وقولبها علم الإسناد الذي هو ليس بعلم، لغياب طابعه العلمي، ولتناقضه مع التاريخ، كما يرى الديري.

هنا تبدأ معركة الديري ضد محاولة فرض واقع لا يحتمل أي نقد أو تساؤل، لا بل على العكس كانت له نتائج دموية وفتن (مقتل الخليفة عثمان بن عفان) وحروب.. أسئلة من نوع قدسية الصحابة ومنع انتقاد أي صحابي بالرغم من جواز الأمر باعتبارهم بشراً، مشيراً إلى أدوار عدد من هؤلاء في إثارة الفتن، وكتابة ما يُرضي الحاكم (خاصة كما يشير إلى فترة الأمويين)

يطرح الدكتور علي أحمد الديري سؤاله “خير القرون: كيف نفهم الخير في التاريخ”؟ هذا الأخير هو عنوان كتابه الصادر حديثاً عن “دار الانتشار العربي”، بتقديم من الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مع إشارتنا إلى الكمّ الهائل من المخطوطات والمؤلفات والأسئلة المُثارة والتي ستُثار عند كل أزمة على علاقة بصراعات أهل السياسة والسلطة وإخضاع التفسير الديني لها. أمثلة كثيرة عن اغتيالات وتكفير شخصيات نخبوية حاولت الحفر في عالم المحرمات من الأسئلة. (أود الإشارة هنا إلى كتاب عبد الجواد ياسين “السلطة في الإسلام-العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ”، الجزء الأول، و”نقد النظرية السياسية” في الجزء الثاني/عن “دار التنوير” وفيهما تشريح لدور السند المناقض لعمل التاريخ، واستشهادات بكتب المؤرخين طريف الخالدي وهشام جعيط وغيرهم الكثير).

يسأل علي الديري “كيف تحوّلت أحاديث “خير القرون قرني” و”خير الناس قرني” (حديث منسوب للرسول محمد) إلى منظومة فكرية واعتقادية في الخطاب السلفي، يتمّ من خلالها تعريف الإسلام والجماعة والمذهب والطائفة، ويُحاكم من خلالها إيمان الآخرين؟

يجيب الديري “يهمني أن أقرأ الخير في التاريخ لا في الفكر الفلسفي ولا في الفكر الديني.. لأقرأ قراءة تاريخية تفكك مفهوم الخير”. هنا إستل الديري إزميله في لحظة تاريخية فارقة ما تزال تتمدد بنتائجها، مقارناً بين تلك الوقائع، ونقائضها وفقاً لما سجّلته “جماعة السلطة الحاكمة”، الأمر الذي يُظهِره في تفكيكه لأدوار فقهاء ومؤرخين كتبوا ما خدم سياسة السلطان والعقيدة والمذهب، وبالتالي أحجموا عن الموضوعية، وقبول الآخر المختلف في تفسيراته واجتهاداته.. ويسوق الديري أمثلة على ذلك منها ما طلبه الخليفة العباسي المنصور من مالك بن أنس بأن “ضع الفقه ودوّن منه كتباً” (ص43)، أو في تأصيل الإمام الشافعي لفقه السنة والجماعة وكيف باتت نظرية سلفية، وفي مؤلفات وآراء إبن تيمية الذي جاء بعد أربعة قرون من “قرون الخير” جازماً بأنها “خير القرون وأصحّ القرون على مستوى العقائد والفقه، وأن كل ما صدر فيها من أعمال قام بها النبي او الصحابة او التابعون أو تابعو التابعين هي اعمال يُحتذى بها ويُقتدى ويُشرّع عليها ويؤصّل”…

هنا تبدأ معركة الباحث البحريني علي الديري ضد محاولة فرض واقع لا يحتمل أي نقد أو تساؤل، لا بل على العكس كانت له نتائج دموية وفتن (مقتل الخليفة عثمان بن عفان) وحروب.. أسئلة من نوع قدسية الصحابة ومنع انتقاد أي صحابي بالرغم من جواز الأمر باعتبارهم بشراً، مشيراً إلى أدوار عدد من هؤلاء في إثارة الفتن، وكتابة ما يُرضي الحاكم (خاصة كما يشير إلى فترة الأمويين).

وإذ يتوقف بالتفصيل عند موسوعية وموضوعية المؤرخ والفقيه الطبري ومحنته مع الحنابلة لنكرانه فقاهة أحمد بن حنبل، وكيف أدت إلى حصار منزل الطبري وموته لاحقاً، فإنه يرى في ذلك “محنة للعقل الذي أدخلوا الأمة فيه، وبالتالي، عندما نفكك خطاب المحنة، نسعى إلى تحرير المجال العام، سواء كان في هذا الزمن أو الماضي. وإذا لم نفكك هذا الزمن وخيره المزعوم (القرون الثلاثة الأولى) لن نفكك هذا التراث، الذي يوقعنا في محنة تلو محنة على مستوى الافراد والمثقفين والعلماء والشعراء والأدباء والطوائف، إذا لم نفككها فإن هذا السلاح سيظل مسلطاً علينا وستحضر قرون الخير قرون شرّ علينا”(ص147).

إقرأ على موقع 180  اللبنانيون.. والعودة إلى قاع الهرم

يستأثر “الإسناد” بحيز من النقاش، بل هو صلب الكتاب، “لأنه نشأ عبر استثمار الأحداث السياسية وإلباسها أثواباً دينية”، وفي الإسناد “ساحة معركة أخرى مطابقة للمعارك العسكرية التي خاضها المسلمون بعضهم ضد بعض”، ولأن الإسناد نشأ في ميدان الصراع لإثبات هوية كل طرف في الثلاثة الهجرية الأولى لقرون الخير، بكل ما يعني ذلك من تفضيل طرف على آخر تبعاً لقوة ونفوذ السلطة التي يتبعها، ولأن هدف المؤلف تفكيك المنقول بغير منهج علم التاريخ فإنه يدعو إلى القيام بعملية جَرْح هذا الإسناد وتعديله، كي لا نبقى نعيش إسلام هذا السند كما يقول، ولكي لا تبقى فكرة محاكمة الآخرين آتية من هذا الإسناد الذي تحوّل إلى عقيدة ترى الأمور وفقاً لرؤيتها التاريخية.

طيف واسع من إسناد الديري لحججه سعياً لتفكيك الإسناد الذي نشأ في ظل الصراعات واستمر كذلك، فكان سؤاله: كيف نفهم الخير في التاريخ؟ وبدورنا نُحيله إلى مساءلة فضاءات الحاضر وتفكيكه بكل خطوط تماسه ومتاريسه!

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "الغارديان": لا عزاء لنساء تونس في البرلمان المقبل