زيارة دريان إلى دمشق.. “هندسات” دار الفتوى بديل عن ضائع سياسي

ليس تفصيلاً أن يظهر مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في قلب المسجد الأموي الكبير في دمشق، تحيط به هالة من الرمزية، وجمع من المفتين وأمناء الفتوى من لبنان، في لحظة استثنائية بدأت ملامحها تتكوّن مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وامتدت لتعيد تشكيل الخريطة السياسية والدينية في المشرق العربي.

هذا المشهد الذي بدا في ظاهره دينياً، حمل في عمقه دلالات سياسية تجاوزت التقاليد البروتوكولية، إلى كونه محطة بارزة في إعادة تنظيم العلاقة بين المرجعية الدينية السنية في لبنان والدولة السورية الجديدة، بعد قطيعة شابتها الدماء والخصومة السياسية والالتباسات والاغتيالات خلال عقدين من الزمن.

زيارة دريان لم تكن مفاجئة لمن راقبوا مسار التحضيرات منذ أشهر. كانت مقرّرة مطلع العام 2025، لكنها أُرجئت بطلب من دمشق، في إشارة واضحة إلى نية النظام السوري الجديد ترتيب أوراقه الإقليمية بعناية، وانتظار استقرار ظروفه الداخلية، وتحسّس التوازنات الخارجية. لكن الملف لم يُغلق، بل جرى إنعاشه بهدوء على خط الرياض – أنقرة، عبر تنسيق مباشر بين المبعوث السعودي الأمير يزيد بن فرحان، ومسؤول الملف السوري في الاستخبارات التركية “أبو سعيد”؛ الرجلان اللذان عملا على بلورة مقاربة جديدة تقوم على فتح نافذة تواصل ديني – سياسي، تعيد موقع دار الفتوى إلى قلب التفاعل مع الدولة السورية، على قاعدة الاعتراف المتبادل، لا الوصاية القديمة.

لم تكن هذه التحرك معزولة عن المسار التصاعدي لمواقف المفتي دريان نفسه،  ولا سيما لجهة التعبير عن قلقه من تراجع موقع المكوّن السني في الدولة اللبنانية، متحدثاً في أكثر من مناسبة عن سياسة تهميش منظمة تمارس ضده في مواقع القرار، من التعيينات الإدارية والدبلوماسية (وحتى القضائية)، إلى تجاهل الأصوات السنية في ملفات وطنية حسّاسة. ولعل توقيف العقيد المتقاعد عميد حمود، المعروف بدوره في مواجهة النفوذ السوري في السنوات الماضية، مثّل آخر حلقات هذا الاستهداف، وقد أشار إليه دريان ضمنياً، بوصفه نموذجاً للانحراف عن معايير العدالة والانصاف.

في هذا السياق، لم تكن زيارة دمشق مجرد حدث رمزي، بل رسالة متعددة الأبعاد. فهي من جهة، تعبير عن قرار ذاتي لدى دار الفتوى بكسر الجليد مع سوريا الجديدة، على قاعدة التلاقي لا الاستتباع، ومن جهة ثانية، نتيجة مباشرة لقرار سعودي – تركي مشترك بإعادة الاستثمار في الموقع السياسي للطائفة السنية في لبنان، ورفده بعمق إقليمي بعدما باتت التحديات الوجودية تحيط به من كل حدب وصوب.

وفي الجوهر، حملت زيارة المفتي دريان مضموناً جديداً يُعيد تعريف العلاقة مع سوريا ما بعد الأسد، في إطار توازن جديد عنوانه الانفتاح الواقعي، والاعتراف بالمتغيّرات.

اللقاء الذي جمع المفتي دريان بالرئيس السوري أحمد الشرع جاء ليؤكّد هذا المسار. ففي جلسة وصفت بأنها غير تقليدية، تناول الجانبان الواقع الاجتماعي والسياسي للطائفة السنية في لبنان وسوريا، والتحولات التي عصفت بالبيئة السنّية في العقدين الماضيين، بين التهميش من جهة، والتطرّف من جهة أخرى. ناقش الطرفان المخاوف والهواجس، كما تبادلا الرؤى حول الحاجة إلى بناء علاقة على أساس الشراكة والاحترام المتبادل.

زيارة دريان جسّدت لحظة تحوّل في موقع دار الفتوى، إذ لم تعد مجرد مؤسسة دينية تُعنى بالشأن الفقهي، بل أصبحت طرفاً مركزياً في هندسة موقع السنّة في لبنان، ونسج علاقاتهم العربية. واللافت للانتباه أن هذا التحوّل حصل في ظل انكفاء شخصيات سنّية كانت تتصدر المشهد السياسي لعقود من الزمن وأبرزها سعد الحريري الذي قرر تعليق عمله السياسي حتى إشعار آخر، فيما تنشغل باقي القيادات السنية بصراعاتها أو عجزها عن صياغة خطاب جامع

ورداً على معاتبة أحد المفتين المشاركين في الوفد، والذي طالب بدعم سوري مباشر للمكوّن السنّي في لبنان، كان جواب الشرع لافتاً للانتباه وحاسماً: الدولة اللبنانية مسؤولة عن حماية كل مكوّناتها، ولا تُمنَح الحقوق بل تُنتزع عبر المشاركة والانخراط في النظام السياسي. وأضاف أن سوريا، حين تستكمل تعافيها، ستكون إلى جانب لبنان بأسره، لا مع طائفة ضد أخرى، لأن وحدة لبنان واستقراره مصلحة سورية أيضاً.

هذا الجواب، لم يكن خطاب طمأنة فقط، بل كان إشارة إلى تبدّل في المزاج السوري الرسمي، ودلالة على الانتقال من منطق الوصاية إلى منطق التفاهم، وهو ما التقطه الوفد اللبناني بوصفه تحوّلاً جوهرياً في طبيعة العلاقة المفترضة مستقبلاً بين دمشق وبيروت، ومن شأنه أن يُعيد سنّة لبنان إلى موقع الفاعل لا المتفرّج.

لم تخلُ الجلسة من استفسارات حسّاسة. فقد سُئل الشرع مباشرة عن سبب غياب المسؤولين السوريين عن بيروت، فأوضح أن زيارة وزير الخارجية أسعد شيباني كانت مجدولة، لكنها تأجّلت نتيجة الحرب التي شهدتها المنطقة مؤخراً، مؤكداً أن الزيارة قائمة وسيتم تنفيذها قريباً، لأن هناك ملفات ضاغطة تحتاج إلى مقاربة ثنائية، في طليعتها ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية. وقد أبدى الشرع اهتماماً حقيقياً بإيجاد آلية للإفراج عن أكبر عدد ممكن من هؤلاء، في حين شدد دريان على ضرورة الدفع لإقرار عفو عام في لبنان يشمل جميع الموقوفين، وخصوصاً الإسلاميين، كخطوة تُعيد ترتيب المناخ الوطني.

إقرأ على موقع 180  حكومة لبنان المفقودة تمهّد للفراغ الرئاسي الحتمي

وطُرحَ ملف مزارع شبعا، الذي طالما شكّل نقطة خلاف صامتة بين لبنان وسوريا، فكان التفاهم هذه المرة أكثر وضوحاً: لا خلاف على لبنانية المزارع، ولا على ضرورة تحريرها، لكن التنسيق هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف بعيداً عن استثمار الملف في الحسابات الداخلية. وهكذا بدا اللقاء أشبه بجلسة تأسيسية لعقد سياسي – ديني جديد بين البلدين.

لكن الرسالة الأهم التي خرجت من دمشق لم تكن مكتوبة في بيان، بل مرسومة في ملامح الوفد، وفي أجواء النقاشات، وفي رعاية التوقيت. فالزيارة جسّدت لحظة تحوّل في موقع دار الفتوى، إذ لم تعد مجرد مؤسسة دينية تُعنى بالشأن الفقهي، بل أصبحت طرفاً مركزياً في هندسة موقع السنّة في لبنان، ونسج علاقاتهم العربية. واللافت للانتباه أن هذا التحوّل حصل في ظل انكفاء شخصيات سنّية كانت تتصدر المشهد السياسي لعقود من الزمن وأبرزها سعد الحريري الذي قرر تعليق عمله السياسي حتى إشعار آخر، فيما تنشغل باقي القيادات السنية بصراعاتها أو عجزها عن صياغة خطاب جامع، ما فتح المجال أمام المفتي دريان لتقدّم غير مسبوق في دور المؤسسة الدينية على حساب الأحزاب والشخصيات السنية..

وعليه، يمكن اعتبار زيارة المفتي دريان إلى دمشق فاتحة لمسار جديد، وإن لم يكن سهلاً أو خالياً من العوائق. فبقدر ما حملت الزيارة من أبعاد تصالحية، فإن استكمالها يتطلب تراكماً في الثقة، وخطوات مقابلة من الجانب السوري، وعلى رأسها زيارة الوزير شيباني إلى بيروت، كي لا تبقى اليد اللبنانية ممدودة وحدها، في ظل محاولات إسرائيلية مستمرة لخلق مساحات صراعية بين دمشق وبيروت، عبر تسريبات عن دور سوري في لبنان أو رغبة سورية باقتطاع مساحات لبنانية مقابل التخلي عن الجولان السوري المحتل.

والأهم محاولة أطراف داخلية لترويج سردية بأن النظام السوري الجديد هو بديل عن تمثيل سياسي للفراغ الحاصل مع غياب تيار المستقبل، لكن الوقائع مختلفة، وخاصة مع الأرقام التي ظهرت بالانتخابات البلدية الأخيرة.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عندما يقف نصرالله على أرض التناقضات اللبنانية