زياد.. غابة كاملة تمشي وحدها

اليوم، لا نرثي رجلاً فقط. نرثي لحظة من وعينا. قطعة من ضميرنا. مرآة نادرة كانت تعكس قبح الواقع بصراحة، وجمال الحلم بسخرية.

زياد الرحباني، لم يكن فنانًا عاديًا.
كان ظاهرة حار بها النقاد، وتيهًا عشقته الأجيال، وموهبةً انفجرت من رحم القهر والمفارقة اللبنانية والعربية، لتصبح مع الوقت تعبيرًا وجوديًا عن الإنسان الذي خُذل من الجميع، لكنه لا يزال يبحث عن مكانٍ يجلس فيه “يشرب قهوة وسط شارع الحمرا” دون أن يبتلّ بالخيبة.

***

زياد لم يكن يشبه أحدًا.
كان نسخةً أصلية، عصيّة على التقليد، لا تنافق، لا تُطبع، ولا تُصفّق.
رجلٌ بنبرة ساخرة، قلب مشظّى، عقل سياسي حاد، وروح موسيقية لم تأتِ من تعليم أكاديمي بل من جينات معجونة بالألم والحب والسياسة والمعرفة.
ابن فيروز، لكن لم يتكئ يومًا على اسمها.
ابن عاصي، لكنه لم يكن ظلًا له، بل غابةً كاملة مكتملة تمشي وحدها.

***

رحل زياد؟
كأن بيروت نفسها قررت أن تسكت.
كأننا فقدنا آخر رجل كان يصرخ نيابةً عنّا، من خشبة المسرح، من خلف البيانو، من قلب مقابلة صحفية أو حتى من دفتر ملاحظاته المليء بما لن نقرأه أبدًا.
رحل من اختصر أمةً في جملة، ووطنًا في ضحكةٍ باكية، ومأساةً في عتاب خفيف ومرّ:
كيفك إنتَ.. ملا إنت”؟
ما عدنا نعرف كيف نحن، يا زياد.
كيف نكون بخير وأنت الغائب؟

***

علّمنا زياد أن لا نؤمن بالأبطال، لكننا آمنا به.
علّمنا أن نسخر من السلطة، من الحرب، من الاستهلاك، من المثقفين المزيفين، من الحب المعلّب، من الأخبار الرسمية، ومن “البيانات رقم واحد”.
كان صوته شغبًا هادئًا.
كان ألمه بصيرة.
وكانت سخريته نبوءة.

***

في زمن مات فيه كل شيء،
كان زياد الرحباني آخر ما تبقّى من الفن المتمرد،
من الموسيقى التي لها موقف،
من المسرح الذي يُضحكك كي يفضحك،
من الكلمة التي ليست إعلانًا ولا خيانةً للمعنى.

***

زياد، غبتَ جسدًا.
لكننا، كلما استمعنا إلى عودك الرنان،
أو شاهدنا “نزل السرور”،
أو تأملنا “بالنسبة لبكرا شو”؟

أو “فيلم أميركي طويل”
سنحزن عليك،

نعم،
لكننا سنحبك أكثر.
لأنك لم تخن جمهورك يومًا،
ولأنك، ببساطة،
كنت تشبهنا.
أكثر مما كنا نعرف.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  يتقاتلون حول تغيير النظام اللبناني.. ولو بعناوين ملطفة
داود رمال

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  لستُ شيوعياً.. لكن متى تنفجرُ الثّورةُ الماركسيّةُ العالميّةُ؟ (1)