لستُ شيوعياً.. لكن متى تنفجرُ الثّورةُ الماركسيّةُ العالميّةُ؟ (1)

أودّ التّشديد على أنّي لستُ لا اشتراكيّاً ولا ماركسيّاً ولا شيوعيّاَ ـ حتّى الآن ـ ولا أنتمي إلى أي حزبٍ ذي عَلَمٍ ثوريٍّ أحمر، ولكنّني: من جهة، مقتنعٌ بخطورة استمرار النّظام الرأسمالي العالمي كما هو؛ ومن جهة أخرى، مقتنعٌ بضرورة إنصاف الجهد الذّهني والحركي الجبّار الذي قام به الشّيخ الشّيوعيُّ الأكبر كارل ماركس ومن تبعهُ من أصحابٍ وتلاميذ.. إلى يوم البعثِ الشّيوعيّ القريب.

على المستوى العالَمي (كما على المستوى اللّبناني بطبيعة الحال): الثّريُّ يزدادُ ثراءً بالنّسبة إلى الفقير؛ والفقيرُ يزدادُ فقراً بالنّسبة إلى الثّريّ. الظُّلمان الاقتصادي والاجتماعي يتضخّمان حول العالم، وأقليّةٌ صغيرةٌ: (١) تتحكّم بأغلب الموارد الطّبيعيّة للبشر؛ (٢) تسيطر ـ عمليّاً – على وسائل إنتاج البشريّة؛ (٣) تستأثر بأغلب النّاتج العالمي؛ (٤) تحاول ـ يوميّاً ـ إثارةَ الحروبِ والفتن والعداوات والبغضاء المربحة ماليّا؛ (٥) تعمل على شراء الضّمائر ضمن جميع الدّول، واصطناع الرّأي العام عبر وسائل الاعلام والتّواصل والتّعليم التي تعيشُ تحت رحمة تمويلها؛ (٦) تدفعُ بالأخلاقيّات الفرديّة والعائليّة والاجتماعيّة والمهنيّة نحو الانحدار والانحراف والشّذوذ، بما يتناسبُ مع مصالحها المادّيّة (الحيوانيّة ـ لا الرّوحيّة – طبعاً).

أمّا بالنّسبة إلى بعض الأرقام والدّراسات، فقد سبق ونشرنا مقالاً بجزأين حول موضوع التّفاوت الهائل[1] في توزيع الثّروات والإنتاج على مستوى العالم، وقد نُشر وقِيل الكثير حول هذه القضيّة ولن نعود إلى تفصيل ذلك في هذا المقام.

لكنّنا نطلبُ من القارئ العزيز التّأمّلَ معنا في النّقاط المذكورة أعلاه، وبأمانة فكريّة مع ما تيسّر من الحياد العقائدي: هل ما ندّعيه أعلاهُ هو مجرّد خطاب شعبوي وتجييشي وأيديولوجي؟

من المؤكّد أنّ أغلب المراقبين متّفقون حول واقعيّة أغلب هذه النّقاط، وواقعيّة توصيف عدم المساواة الهائل على المستويَين الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى الشّذوذ العقلي والدّيني والأخلاقي والمهني الذي تُغرقنا فيها الرأسماليّة النّقديّة-الماليّة المهيمنة عالمياً.

الرأسماليّةُ العالميّةُ الحاليّةُ تتضمّن عنصراً استغلاليّاً واستئثاريّاً (بل وسارقاً على الأرجح) لا رَيب فيه. فلا يُمكن أن يملك ١٪ من البشر (مثلاً) الأكثريّة السّاحقة من الموارد والثّروات والإنتاج إلّا من خلال بغيٍ وظلمٍ وعدوانٍ وفسادٍ في الأرض.. وكفى كذباً على النّاس! إنّ حججَ الاقتصاد السّياسي الرأسمالي ـ الذي نشأ الكاتب ضمن بيئته الأكاديمية والمهنيّة وما يزال ـ لا يمكن أن تُبرّر، مهما كثُرت ومهما رُوّج لها، هذا الظّلم المبين وهذا الفساد الجليّ وهذا الانحراف المستمرّ. كفانا انبطاحاً لأيديولوجيّة القويّ والمستكبر في الأرض[2]!

كارل ماركس: نعم، شيخٌ.. وكبير!

ليست هذه النّتيجةُ بجديدةٍ، وما هذا البيانُ بحديث. وإنّما سبق وفصّلهما الشّيخُ الشّيوعيّ الأكبر، والعَلَمُ الثّوريُّ الأحمر، الفيلسوف والمنظّر المادّي-الاشتراكي كارل ماركس (ت. ١٨٨٣ م) من قلب قرن الثّورة الصّناعيّة الكبرى في أوروبا الغربيّة، أي القرن التّاسع عشر الميلادي. قليلون جدّاً هم الذين فهموا النّظام الرأسمالي في ماهيّته كما في تناقضاته. وقد يكونُ الشّيخُ الشّيوعيُّ الأكبرُ النّاقدَ الأكثرَ تعمّقاً وشموليّةً للنّظام الرأسمالي، أو من أكثر هؤلاء النّاقدين أهميّة بالتّأكيد.

برأيي، يُمكننا، اختصار مساهمات ماركس من خلال التّمييز بين جوانب ثلاثة أساسيّة:

(١) جانب نقد العقليّة الرأسماليّة ونقد النّظام الرّأسمالي ككلّ، بالإضافة إلى نقد الاقتصاد السّياسي اللّيبرالي (الذي ندرسه اليوم في أغلب الجامعات المعاصرة تحت عنوان: Economics أو Economic Theory(ies)؛

(٢) جانب التّنبّؤ بانفجار- شبه مؤكّد – للثّورة البروليتاريّة الاشتراكيّة (أو للثّورات الاشتراكية) التي من المفروض أن تؤدّي بدورها إلى قيام النّظام الشّيوعي العالمي (أو الأممي)، والذي تنتهي معه البشريّة ـ حسب هذا الفهم – من قضيّة “المُلكيّة الخاصّة” (المتأتّية في الماضي من ظهور “فائض الإنتاج” في مرحلة ما من مراحل تطوّر المجتمعات البشريّة)؛

(٣) جانب العمل الحركي الثّوري من خلال التّنظير للثّورة العمّاليّة-الفلّاحيّة، والعمل على تأسيس الأطر التّنظيميّة والحزبيّة بهدف تهيئة الأرضيّة لها (عالميّاً وفي كلّ دولةٍ من دول العالم).

اعتبر الشيخُ الشيوعي الأكبر ماركس، بالإضافة إلى حُكمه القِيَمي السّلبي تجاه النّظام الرأسمالي طبعاً، أنّ هذا الأخير يحمل في داخله تناقضاته وعناصر سقوطه (وما هذا إلّا بالأمر الطّبيعي إذا ما آمنّا بفلسفة ديالكتيك المادّة وبفلسفة المادّيّة التّاريخيّة الماركسيَّتين، والمَعروضَتَين بتفصيل أكبر فيما يلي). آمن بعدم أخلاقيّة وبظلم هذا النّظام من جهة، ولكنّه أراد البرهان على أنّه ساقطٌ ومنتهٍ ومندثِرٌ لا محالة من جهة أخرى. لم يؤمن بأنّ النّظام الرأسمالي نتيجة بديهيّة ونهائيّة لطبيعة الإنسان، ورفض فكرة كونه نهاية التّاريخ. عند ماركس: ليست الرأسماليّة قدرنا المحتوم والنّهائي كبشر، وسيأتي يوم سقوطها من ذاتها بذاتها، ويوم قيام طبقة البروليتاريا (أو العمّال) بالثّورة عليها ـ ثورةَ المستضعَفين على المستَكبرين ـ وباستبدالها بالنّظام الاشتراكي أوّلاً، ثمّ بالنّظام الشّيوعيّ المُبين.

آثار الماركسية في عالمنا العربي

مجدّداً: لدينا ماركس ذو الأحكام القِيميّة والأخلاقيّة من جهة، ولدينا ماركس الذي يُقدِّم نفسه ـ أو يُقدَّم ـ على أنّه “عالم” (تاريخ واقتصاد واجتماع بالذات) من جهة ثانية. ماركس الفيلسوف هو في الوقت عينهِ: ماركس المنظّر الأيديولوجي، وماركس الباحث العلمي. الحدود بين “الماركسَين” ليست دائماً واضحة ولا مُرسَّمة بدقّة، وقد تكون هذه النّقطة الأخيرة من أخطر النّقاط النّقديّة تجاه الصّرح الماركسيّ العظيم.

إقرأ على موقع 180  الرأسمالية نموذجاً للدمار.. السماء لا تكترث للفقراء

المهم: لقد قام صاحب كتاب “رأسمالبثورة فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة ذات أثر عالمي، ولا يمكن نفيُ مساهماته الكبرى، إلى جانب رفاقه الاشتراكيين والشّيوعيّين، لا سيّما في الدّفاع عن حقوق العمّال والمضطّهدين في القارّة الأوروبيّة بشكل خاص. تدين الطّبقات العمّاليّة والفلّاحيّة ـ وغالبيّة الطّبقات الوسطى ـ بالكثير لماركس ولرفاقه. قد يكون الانفجار الشّيوعيّ العالميّ الأعظم لم يحدث إلى الآن، ولكنّ آثار الماركسيّة واضحة من خلال: قوانين العمل، الحقوق المطلبيّة للعمّال والموظّفين، الحقوق النّقابيّة، أنظمة الضّمان الصّحّي، أنظمة الضّمان الاجتماعي بشكل عام، برامج ضمان الشّيخوخة، أنظمة تأمين الموظّفين إلخ. خلال فترة ممتدّة من منتصف القرن التّاسع عشر تقريباً حتّى يومنا هذا: سبّب الزّلزال الماركسي والاشتراكي تغيّراتٍ هائلةً في العلاقة بين ربّ المال ووسيلة الإنتاج غير البشريّة من جهة، وبين العامل من جهة أخرى.

وقد وصلت الهزّات الارتداديّة للزّلزال الماركسي الكبير إلى دولنا العربيّة والإسلاميّة. حتّى أنّ جلّ نهضتنا القوميّة العربيّة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قام على المفاهيم والشّعارات الماركسيّة (وذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، خصوصاً بعد مرحلة الحرب العالميّة الثّانية). حتّى الأحزاب النّاصريّة، وكثير من الفصائل الفلسطينيّة المقاوِمة (ومنها “الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين” بطبيعة الحال، التي استعارت اسمها على الأرجح من “الجبهة الشّعبيّة” الفرنسيّة).. كلّها تأثّرت بوضوح وبعمق بالمفاهيم الماركسيّة.

تأثير ماركس والماركسيّة كان كبيراً، وكبيراً جدّاً، على تاريخنا المعاصر. وقد تختصرُ هذا التأثير، ببلاغة، الكلمات والألحان “البعثيّة العربيّة الاشتراكية” التي لم تمُت في وجداننا العربي المشرقي:

للبعثِ يا طلائعْ

للنّصرِ يا طلائعْ!

أقدامُنا حقولْ، طريقُنا مصانِعْ!

لكن، برغم كلّ هذه الإسهامات الفكريّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الكبرى، يبقى السؤال الجوهري، والذي لم يَزَل يُقلق ويُؤرّق كلّ عقلٍ ماركسيّ مستنير: نعم.. لكن لماذا لم تسقط الرأسماليّة بعدُ، بل لماذا تستمرّ بالتّقدّم (ولو ظاهريّاً) ويتعاظم انتشارُها وتأثيرُها.. ولو في الصّين؟ لماذا لم تسقط الرأسماليّة العالميّة بعدُ برغم كلّ تناقضاتها الجوهريّة والذّاتيّة، ولماذا لم تندلع الثّورة الاشتراكيّة-الشّيوعيّة العالميّة الكبرى بعدُ؟ وهذا بالرّغم من كلِّ ما سبق ذكرُهُ وبيانُه: عن تزايد الظّلم والبغي والاستغلال والاستئثار والتّفاوت بين الطّبقات؟ يبدو لنا أنّ هناك عُقدةً في مكانٍ ما: فما الذي لم ينجح؟ ما الذي لم يحصل إلى الآن وكان من المتوقّع ـ أو من المفروض – أن يحصل في لحظةٍ ما من التّاريخ المعاصر؟

الثورة آتية

نُرجّح، من خلال هذا المقال، حصول “الثّورة الاشتراكية” العالميّة ـ عاجلاً أم آجلاً ـ لكن ندافع عن فكرة أنّ هذه الثّورة قد لا تأخذ الشّكل أو اللّباس الفلسفي والثّوري الذي تصوّرهُ ماركس. من المرجّح بالنّسبة إلينا أن يحدث هذا “الانفجار” من داخل الرأسماليّة وفي وجهها، لكن بطريقة مختلفة.

قد يكون السّؤال المركزي لما يلي هو التّالي: هل من الضّروري أن نعتنقَ عقيدة (أو ديانة) المادّيّة، وأن نقبل مطلقاً بنظريّتي المادّيّة التّاريخيّة والقيمة، حتّى نقوم بالإصلاح المقصود وبالثّورة المنشودة؟ بعبارة أخرى: هل من الضّروري اتّباع ماركس أنطولوجيّاً (أي من خلال تبّني فلسفته المادّيّة ونظرته إلى ديالكتيك المادّة) حتّى نصل، سويّاً، إلى الثّورة “الاشتراكيّة”؟ وماذا عن الإسهامات الكبرى للمدرسة اللّيبراليّة في الاقتصاد، وتفسيرها العلمي القويّ لتصرّفات وقرارات الفرد الإنساني وآليّات السّوق؟ هل علينا رميها في سلّة المهملات وإغفالها أو محاربتها أيديولوجيّاً (برغم قوّتها التّفسيريّة الكبيرة)؟

سنعود بالتّأكيد إلى الجوانب الأهم في هذه الأسئلة والمسائل، لكن، من الصّعب على الباحث التّحدّث عن كارل كارس والماركسيّة دونَ الإحساس بانفجار الوجدان الثّوري في داخله ـ مهما كان انتماؤه الفكري والعقائدي ـ ودون تصاعد النّغمة الثّوريّة الحمراء في قلبه وأذنه الباطنيّة.. ربّما على لحن نشيد الأمميّة الأحمر:

في جموعٍ قويّة،

 هبّوا.. لاح الظّفَرْ!

غدُ الأُممِيّة.. يُوحّدُ البشَرْ!

[1] على موقع 180post بعنوان: إلى يساريي لبنان: هل تبنّينا “إعادة التّوزيع” ونسينا “التّوزيع”؟

[2] نذكّر قارئنا العزيز بأنّنا – مع ذلك – نعتقد، على المستوى العلمي لا الأيديولوجي، بتفوّق المدرسة الاقتصاديّة اللّيبراليّة في دراستها لقرارات وتصرّفات الفرد والأسواق، إن كان على المستوى التّفسيري (Explication) أو التّنبّؤي (Prediction). وقد حدّدنا بوضوح أنّ هناك “عنصراً” استغلاليا في الرأسماليّة لا ريب، ولكن لا نقول بأنّ النّظام الرأسمالي قائمٌ كلّه على الاستغلال والاستئثار والسّرقة، وسنعود إلى تلك النّقاط مع تفصيل أعمق ـ إن شاء الله تعالى ـ في الجزء الثّاني من هذا المقال بعنوان: نحوَ “ماركسيّةٍ” ثوريّةٍ عالميّةٍ من نوعٍ جديد.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان مسلخ، لعنة.. جلجلة بلا قيامة!