عبدالله بوحبيب.. مساحة الحوار اللبناني والعقل المفقود

كان يفترض بي أن أكتب لعبدالله بوحبيب إهداء كتابي الأول، إذ كنت أنتظر عودته من السفر الذي منعه من حضور توقيع هذا الكتاب، لكن آخر ما كنت أتوقعه ان أحوّل الإهداء إلى شهادة به بعد وفاته الصادمة. كان عبدالله مُشجعاً للكتابة العلمية ذات الطابع الحيادي، وهذا ما كان موضعَ نقاشٍ دائم بينه وبيني مع حماستي لإبداء الرأي مما أراه صواباً وأنطلق به من خلفية انتماءٍ سياسي.

المرة الأولى التي سمعت بها عن إسم عبدالله بوحبيب كانت في مراهقتي في أوائل التسعينيات التي دشّنت مرحلة جديدة وقاسية في لبنان. ذلك أنَّ الحديث عن “الضوء الأصفر” أو كتابه الأول عن السياسة الأميركية في لبنان، قادني لاحقاً إلى التفتيش في ثنايا الكتاب لأعثر فيه على ضالتي الأساسية وهي موقفه من النظام الذي نشأ على أثر اتفاق الطائف، وكان بوحبيب من موقعه على رأس سفارة لبنان في الولايات المتحدة من أوائل المصطدمين به بعد أن التزم موقفاً مؤيداً للحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون. كانت الضالة الأخرى التفكير العقلاني في محاولة إيجاد الأجوبة على الصراعات وتداعياتها التي أنهكت الوطن الصغير.

ما قادني إلى عبدالله بوحبيب ثانياً، ارتباط إسمه بعصام فارس. هذه الشخصية السياسية المميزة التي عكست الوطنية اللبنانية باعتدالٍ وتوازنٍ وحكمة، والتي قدّمت للبنان مزيجاً من النفحة الحوارية إلى الدعم الهائل لمشاريع ومؤسسات علمية واجتماعية مع كرمٍ حاتميٍ مشهود، فتحوّلت قطباً وركيزة لعملٍ مؤسساتي ناجح تفتقده كثيراً الحياة العامة في لبنان.

لم أخطِّط لكل ما أتى لاحقاً. على عادتي في التعرّف إلى شخصيات عامة، اتصلت به في العام 2008 طلباً للقاء تعارف، حصل في مقهى “ستاربكس” في الزلقا حيث اعتاد أن يقرأ في صحيفته أو كتبه، أو يهيئ لكتاب كما حصل لاحقاً مع كتابه الثاني عن “أميركا بين القيم والمصالح”.

بعد أشهر، اتصلتُ به لمتابعة تنسيق نشر مقاله على صفحات “قضايا النهار” التي كان يرأس تحريرها الأستاذ جهاد الزين، فما كان منه إلا أن طلبَ هذه المرة أن نلتقي، مرفقاً الطلب بعبارة “عايزك”، وهي الكلمة السحرية التي تُفصِح لشاب ناشئ في الصحافة عما هو قادم من مفاجآت إيجابية.

وهي كانت إيجابية بالفعل. فبعد غداءٍ معه في مقهى “نوفا” في سن الفيل – حرش تابت بحضور الزميل نقولا ناصيف وهو من رافقه طويلاً، جال بي في أرجاء مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية الذي أسّسه في العام 2007، قبل أن يعرض عليَّ العمل معه كمديرٍ مساعد. لم أتردد وأنا الذي كانت أتابع ندوات المركز البازغ، وما هي إلا شهرين ونيف حتى كنت أبدأ مسيرة مهنية جديدة.

أفسح لي بوحبيب الفرصة لإحدى أكثر تجاربي المهنية والفكرية تميزاً. فبعيداً عن ضجيج يوميات الإعلام الصاخب، أخذنا نمضي في تعزيز المساحة الحوارية اللبنانية التي شكّلها المركز. قضايا لبنانية وعربية، معضلات شائكة، تجارب تاريخية لشخصيات بارزة، مراجعات كتب، كلّها كانت محور ندوات شبه أسبوعية، ومؤتمرات سنوية متخصصة استضاف فيها المركز عشرات الباحثين والصحافيين والشخصيات العامة من لبنان والعالم العربي والعديد من العواصم العالمية. لم نترك قضية أو مسألة لبنانية أو عربية أو دولية ذات تداعيات على لبنان، إلا وأشبعناها حواراً، لا بل يحق في الشهادة بعبدالله بوحبيب القول إنه بادر لابتداع حلول لقضايا إشكالية مثل اللجوء الفلسطيني في لبنان، أو الكهرباء والقرار السياسي، وتحييد لبنان واللامركزية، وصولاً إلى تغيرات ما عُرف بـ”الربيع العربي” ومحاولة قراءة اتجاهاتها.

وفي يوم الندوة الذي عادة ما يكون الثلثاء أو الأربعاء، تتحول قاعة المركز التي توسعت لاحقاً بدعم من عصام فارس وأنجاله، إلى نقطة جذبِ للأضواء والنقاشات وتبادل الآراء، بما كان يحتاجه فعلاً ليبقى مساحة حوار دائم. أما اللقاءات المغلقة والخاصة مع شخصيات ديبلوماسية أو أمنية أو سياسية، فكانت هي الأخرى مصدراً للإثارة والغنى في المعلومات التي يسرّ لبوحبيب أن يرسم لها ضوابط النشر لكن من دون ذكر الأسماء.

والثمار، كانت عشرات الكتب والتي توزعت إلى جانب خلاصات المؤتمرات وأعمالها، إلى مجلدين: “شؤون لبنانية” و”قضايا عربية”.

مثّل لنا مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية الفسحة التي نريد. عمل دؤوب لكن هادئ، منبرٌ لإبراز الطاقات، حوار دائم، علاقات عامة واسعة خلقت صداقات مستمرة حتى اليوم. بإشرافه تحولَ المركز خلية نحل، ورسّخ موقعه اللبناني. فإلى جانب رفيقه القديم في الجامعة والعروبي اللبناني المتنور الدكتور الراحل رغيد الصلح، الهادئ الدمِث، توسّع فريق العمل ليشمل شارل سابا الآتي أيضاً من “قضايا النهار”، وسيرين صغيرة ورشا أبي حيدر وردينا بعلبكي مع المديرة الإدارية كارولين زيون (التي رافقته منذ أيام سنتر “صوفيل” بالأشرفية)، المساعدة الإدارية مايا منصور والمدبّرة برنا خوري، وقد استمر هذا الفريق تقريباً بأكمله حتى إقفال المركز في نهاية العام 2015، مع تسجيل مرور العشرات من الطلاب المتدربين. كان هذا الفريق أساساً تعبيراً عن ثقافة التنوع السياسي والطائفي والمذهبي والمناطقي. وإلى جانب المركز، تحلّقت حول أنشطته وشخص بوحبيب ثلّة من الأصدقاء المهتمين بما هو أبعد من اليوميات السياسية والحاضرين دائماً في الأنشطة، والذين ربطت بينهم وبين بوحبيب صداقة دائمة حتى أيامه الأخيرة.

إقرأ على موقع 180  "جحيم بيروت".. آثاره بيئياً وصحياً وسبل الوقاية

مثّل بوحبيب في حياته اليومية وتفكيره وخطابه السياسي شخصية أقرب منها إلى السلوك في بلده الثاني، أميركا. ذلك أنه كان يصر على تقديم قراءات بسيطة مدعمة بالمعلومات والحقائق، للسياسة الأميركية في المنطقة ولبنان. وهذا التبسيط الذي أتقنه عبدالله، مقترناً بالمعلومات والتحاليل التي تصله، يناقض التفكير اللبناني السائد والذي يهوى القراءة الرغائبية والمؤامراتية، إلى درجة تجعل هذه المقاربة بالغة الإستفزاز للمتشوقين أو المنتظرين دائماً من الخارج! وفي المقابل، كان يهوى التشارك معنا في تحليل خلفيات سلوكياتٍ يومية اجتماعية بسيطة، نراقبها ونمعن تقليبَها على نار التحليل والدلالات، قبل أن نستخرجَ منها ما يشبه القوانين العلمية لسلوك الناس.

توازى العمل في المركز مع أنشطة فكرية رديفة كالكتابة المشتركة أحياناً في تقليدٍ لم أعتده فيما تمثل الصحافة أساساً من فردية بديهية. كذلك مع انخراط سياسي ذات بعد وجودي كما في “المؤتمر المسيحي المشرقي” عام 2013.

أما في اليوميات، فبقي بوحبيب وحتى بعد توليه وزارة الخارجية والمغتربين في العام 2021 على عاداته وطقوسه غير المتكلفة. ينتظر في الصف في المقهى لإحضار قهوته والمياه، ويقود سيارته بنفسه ويرتدي الثياب “السبور” ويواظب على قراءة الكتب والصحف والمجلات يومياً.

بقي بوحبيب هو هو. عنواناً لانتماء وطني لبناني أصيل، ولتفكير علمي مبسّط، ولمقاربة حوارية لا تلغي الإنتماءات والآراء الخاصة، إنما تضعها تحت سقف المساحات المشتركة، وما أكثرها إن عملنا عليها.

من هو عبدالله بو حبيب؟

-ولد عبدالله بوحبيب في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1941 (84 عاماً) في رومية، قضاء المتن الشمالي، وهو نجل رشيد بوحبيب وميليا عون.

-متزوج من جوليا سيبروك كول ولديه ثلاثة أولاد: أمين وميليا وندى.

-درس الإقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وحاز الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة فندربيلت الاميركية في العام 1975.

-كان أحد مؤسسي “الرابطة اللبنانية” الطلابية، ومقرباً من حزب الكتائب. عُيّن في العام 1976 مسؤولاً في دائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي واستمر بهذه المهمة حتى العام 1983، عندما عيّنه الرئيس الأسبق أمين الجميل سفيراً للبنان لدى الولايات المتحدة الأميركية حتى مطلع العام 1990.

-في العام 1992 عُيّن مستشارا لنائب رئيس البنك الدولي في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وفي آذار/مارس 2001 عاد إلى لبنان لينضم إلى فريق مستشاري نائب رئيس الحكومة الأسبق عصام فارس. كما احتل منصب نائب رئيس الرابطة المارونية في لبنان. في العام 2007 أسّس وأدار “مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية” وذلك حتى العام 2015.

-كان عضواً في “خلية السبت” التي كانت تجتمع بالعماد ميشال عون في دارته بالرابية، قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية في العام 2016.

-شغل منصب وزير الخارجية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بين أيلول/سبتمبر 2021 وشباط/فبراير 2025.

-كانت له مساهمات في جريدة “السفير” وصحف ومواقع الكترونية عديدة بينها 180بوست. حاضر في جامعة “فندربيلت” الاميركية وفي جامعتي الحكمة وسيدة اللويزة في لبنان.

-له مؤلفات أبرزها: “أميركا بين القيم والمصلحة”، “الضوء الاصفر”، وكان يستعد لاصدار كتاب جديد يعرض فيه تجربته في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.

-توفي مساء يوم الأربعاء في 23 تموز/يوليو 2025، بفعل نوبة قلبية حادة أثناء مشاركته في عشاء سياسي اجتماعي في دارة نجاد عصام فارس في بلدة برمانا في المتن الشمالي.

-يُشيّع جثمان بوحبيب، اليوم، إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه بلدة روميه المتنية الوادعة. يسبق ذلك قداس وجناز في كنيسة مار جرجس في بيروت، بحضور ممثلين عن رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزارء وحشد رسمي وسياسي. 

Print Friendly, PDF & Email
ميشال ن. أبو نجم

صحافي وباحث سياسي لبناني. عمل مديراً مساعداً للسفير والوزير السابق عبدالله بوحبيب في مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية بين العامين 2008 و2015.

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عندما يُصبح شعب لبنان سلوى التافهين