هذا الاختلاف بين الجانبين ليس وليد لحظة، بل نتيجة حتمية بدأت معالمها منذ اتفاق الهدنة عام 1949، وهو الاتفاق الأول بين لبنان وإسرائيل، مرورًا باتفاق 17 أيار/مايو 1983 وصولًا إلى القرار 1701 بنسختيه الأولى والثانية المعدّلة. وبمراجعة سريعة، يتبيّن أنه منذ أربعينيات القرن الماضي إلى اليوم، يفاوض لبنان انطلاقًا من هاجس الحفاظ على الأرض وإدارة حالة الحرب والحفاظ على الوضع القائم الذي يتمّ التوصّل إليه عند كل اتفاق دون فرض وقائع جديدة. في المقابل، تفاوض إسرائيل منذ الاتفاق الأول، أي منذ هدنة 1949، لإعادة صياغة البيئة الأمنية والسياسية والاقتصادية مع لبنان بما يخدم مشروعها ويحمي حدودها.
من هنا، لا يعود السؤال تقنيًا حول جولات التفاوض، بل بنيويًا حول طبيعتها والأسس التي تقوم عليها في حالة لبنان وإسرائيل؛ فقد شكّلت كل محطة تفاوضية بين لبنان وإسرائيل اختبارًا للسؤال نفسه: هل يفاوض لبنان كدولة تسعى إلى تثبيت حدودها وشرعيّتها، أم كـ”ساحة” تُدار توازناتها؟ وهل تفاوض إسرائيل على حدود ثابتة، أم على بيئة أمنية متغيّرة؟

هدنة 1949: “قانون الحدود” مقابل “قانون الأمن”
في اتفاق الهدنة عام 1949، وهو الاتفاق التفاوضي الأول بين لبنان وإسرائيل، انطلق لبنان من منطق قانوني واضح، إذ سعى إلى تثبيت أن خط الهدنة يتبع الحدود الدولية المعترف بها، وهو ما ورد صراحةً في نص الاتفاق. وفي هذا السياق، حاول المفاوض اللبناني إبقاء النزاع ضمن إطار دولي، أي عبر المرجعيات القانونية والمؤسسات الدولية، بما يحمي ويكرّس موقع الدولة كعنوان وحيد للتفاوض.
في المقابل، تعاملت إسرائيل مع الهدنة بوصفها ترتيبًا عسكريًا، إذ لم يكن الهدف تثبيت حدود نهائية بقدر ما كان تنظيم الوضع الأمني ووقف أي أعمال قتالية ضمن صيغة قابلة للتعديل وفق موازين القوى والوقائع الميدانية.
من خلال هذه المقاربة، يتكرّس الاختلاف الجوهري في منطق التفاوض بين الطرفين. ففي حين كان لبنان يحاول “قوننة” الحدود وتثبيتها عبر النصوص والوثائق والمرجعيات الدولية، سعت إسرائيل إلى “أمننتها”، أي التعامل معها كمسألة خاضعة لمتطلبات الأمن وقدرة الفرض. ومنذ اللحظة الأولى، سعت الدولة اللبنانية لضمان أرضها وحدودها بصيغة دولية أممية مكتوبة، بينما كان هدف إسرائيل خلق بيئة يمكن التحكم بها وتغييرها كلما اقتضت الحاجة.

17 أيار/مايو 1983: “الأمن”.. هندسة سياسية
شكّل اتفاق 17 أيار/مايو 1983 محطة مفصلية في مسار التفاوض بين لبنان وإسرائيل، إذ مثّل المحاولة الأولى المباشرة لتحويل المقاربة الأمنية إلى إطار سياسي – مؤسساتي شامل. فخلافًا لاتفاقية الهدنة التي أبقت الترتيبات عمليًا ضمن حدودها العسكرية المؤقتة، سعى هذا الاتفاق في توقيته ولحظته آنذاك إلى بناء منظومة سياسية وأمنية متكاملة تكرّس الواقع الميداني.
بالشكل، أرادت الدولة اللبنانية آنذاك إنهاء حالات المقاومات المختلفة التي كانت تسيطر على الحياة السياسية، وتحقيق الشعار المرفوع حول “استعادة السيادة” عبر قرار الدولة، وذلك من خلال تأمين الانسحاب الإسرائيلي وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. لذلك يمكن القول إن القيادة السياسية حاولت إعادة لبنان إلى موقع “الدولة المتفاوضة” لا “الساحة”، وذلك عبر إنهاء منطق الصراع المفتوح ولو بثمن سياسي وأمني مرتفع. لكن الاتفاق فشل، ليس فقط لأسباب داخلية مرتبطة بغياب الإجماع عليه، بل أيضًا لأسباب خارجية، وتحديدًا سوريا التي رفضت مفاوضة لبنان منفردًا دون المرور بها ودون مراعاة مصالحها، فأسقطت الاتفاق عبر حلفائها اللبنانيين والفلسطينيين وبدعم سوفياتي واضح في زمن الحرب الباردة.
في المقابل، تعاملت إسرائيل مع اتفاق 17 أيار/مايو كأداة لإنتاج بيئة أمنية طويلة الأمد تتجاوز مسألة الانسحاب إلى إعادة تنظيم المجال اللبناني المحيط بها. فتركيزها لم يكن على السيادة اللبنانية بحد ذاتها، بل على ضمان ترتيبات أمنية مفصّلة تمنع استخدام الأراضي اللبنانية كمنطلق لأي تهديد مستقبلي، وتؤمّن لها هامش تدخّل وسيطرة بذريعة حماية الحدود عند الحاجة.
وقد مثّل 17 أيار/مايو محاولة مبكرة لفرض منطق أمني إسرائيلي ضمن قالب سياسي لبناني، ومن دون توافق داخلي أو غطاء إقليمي. ومن هنا يشكّل سقوطه مثالًا على قاعدة ظهرت منذ عام 1949 وتتكرّس اليوم: عندما لا يتطابق ما يريده لبنان سياسيًا مع ما يستطيع فرضه داخليًا، يتحوّل أي اتفاق إلى نصّ غير قابل للحياة.
1701 بنسخته الأولى: موازين القوى تفرض ديناميتها
بعد حرب تموز/يوليو 2006، أنتج التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل القرار الدولي الرقم 1701 بنسخته الأولى. ويمكن القول إن الاتفاق لم يُصَغ لفرض حلّ طويل الأمد بقدر ما كان يهدف إلى إدارة التناقضات وعكس موازين القوى. فخلافًا لاتفاق 17 أيار/مايو، لم يسعَ القرار إلى فرض هندسة سياسية شاملة، بل إلى إنتاج صيغة توقف المواجهة وتمنع الانزلاق إلى حرب مفتوحة. من هنا جاءت صياغته بغموض متعمّد، يسمح لكل طرف، أي حزب الله وإسرائيل، بالإبقاء على أوراقه وقراءة القرار بما يتناسب مع أولوياته وموازين القوى التي أنتجتها حرب الـ33 يومًا.
بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، شكّل القرار 1701 إطارًا دوليًا لوقف الأعمال العدائية، لكنه أعاد أيضًا رسم دور الدولة جنوب الليطاني عبر انتشار الجيش اللبناني بالتوازي مع قوات “اليونيفيل”، بما يمنع الدخول في مواجهة مباشرة في ظل موازين القوى الداخلية. هكذا تعامل لبنان مع القرار كأداة لاحتواء الصراع والحفاظ على ميزان القوى الداخلي لتأمين الحد الأدنى من الاستقرار، إذ لم تكن الدولة جاهزة لأي خطوة تهز الإستقرار الداخلي.
في المقابل، نظرت إسرائيل إلى القرار بوصفه خطوة أولى في اتجاه إعادة ضبط البيئة الأمنية على حدودها الشمالية. وقد وفّر مطلب نزع السلاح، بصيغته المنصوص عليها في القرار، ذريعة دولية لإسرائيل تستخدمها للضغط السياسي والعسكري عند أي خرق، وربط أي هدوء أو خطوة يريدها لبنان بمدى التزامه بتطبيق القرار جنوب نهر الليطاني.
وهكذا تحوّل القرار إلى تسوية قابلة للاستمرار زمنيًا، لكنها غير قادرة على إنتاج حلّ نهائي، لأن كل طرف تفاوض على ما يخدم منطقه: لبنان أولويته الاستقرار، وإسرائيل أولويتها إبقاء الملف مفتوحًا بانتظار ظروف أكثر ملاءمة لضرب التهديد المتعاظم عند جبهتها الشمالية.
1701 بنسخة 2024: الفرق بين لبنان وإسرائيل
أسقطت نتائج حرب العام 2024 الستاتيكو الذي حكم وتحكّم بالواقع الحدودي بين لبنان وإسرائيل منذ العام 2006. فما كان مقبولًا لإسرائيل وللمجتمعين الدولي والإقليمي آنذاك سقط اليوم. من هنا يمكن القول إن القرار 1701 بنسخته المعدّلة انتقل إسرائيليًا ودوليًا وإقليميًا من كونه إطارًا سياسيًا لإدارة التناقضات إلى برنامج اختبار لقدرة الدولة اللبنانية على تنفيذ تعهداتها والتزاماتها، وخصوصًا ما يتصل بترجمة القرارات السياسية، وأولها نزع سلاح حزب الله وكلّ الميليشيات على أرض لبنان وفرض حكم مؤسسات الدولة.
وهنا تكمن المعضلة بالنسبة إلى لبنان؛ فهو ما يزال يتعامل مع القرار بالمنطق نفسه الذي حكمه لسنوات، أي كمرجعية دولية لوقف المواجهة ومنع توسّعها، مع تطبيق تدريجي وانتقائي يحافظ على الاستقرار الداخلي ويتجنب الصدام مع موازين القوى القائمة، وهو ما يفسّر تصريحات السياسيين اللبنانيين، وآخرها تصريح رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أمس (الخميس) حين قال: “قرار نزع السلاح اتُّخذ، لكن التطبيق يبقى وفق الظروف، والأهم هو وقف شبح الحرب”. لذلك عمليًا، يفاوض لبنان اليوم على الوقت، وعلى الحد الأدنى الممكن، وعلى تجنب الأسوأ، أكثر مما يفاوض على إعادة صياغة شاملة للواقع الأمني وإعادة تعريف طبيعة ودور الدولة، داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
أما إسرائيل، فلم تعد ترى في القرار سقفًا بل نقطة انطلاق. تركيزها بات مُنصبًا على منع إعادة تموضع الحزب قرب الحدود وجنوب النهر وبالتالي تسعى إلى فرض قواعد اشتباك جديدة لا تسمح بالعودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023، بل تُريد تكريس ميزان القوى الذي أنتجته الحرب وبالتالي تثبيت ما حققته من إنجازات عسكرية وأمنية وتطويرها إلى إنجازات سياسية واقتصادية.
وبين هذين المنطقين يتكشف الخلل الأساسي في التفاوض الحالي: فلبنان يتفاوض بمنطق دولة تسعى إلى تثبيت الاستقرار وتأجيل الانفجار، فيما تتفاوض إسرائيل بمنطق طرف يريد تحويل اللحظة العسكرية إلى مكسب استراتيجي طويل الأمد. وفي ظل غياب قرار لبناني داخلي موحّد، تصبح قدرة الدولة على تحويل أي تفاهم إلى سياسة قابلة للتطبيق موضع شك، ما يُعزّز القراءة الدولية التي ترى في القرار 1701 اليوم اختبارًا للقدرة لا للنوايا.
بهذا المعنى، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان القرار 1701 سيُطبّق، بل كيف، وبأي منطق، ولمصلحة أي طرف. فبين قراءة لبنانية تحاول إعادة إنتاج الغموض، وقراءة إسرائيلية تسعى إلى استنفاده حتى نهاياته الأمنية، تتحدد ملامح المرحلة المقبلة، لا كنقطة توازن بل كنقطة فرز.
في الختام، منذ هدنة العام 1949 إلى حرب العام 2024، يرى لبنان في الاتفاقيات والتفاوض وسيلة لتفادي الانفجار والحفاظ على الوضع القائم في ظل الانقسامات الداخلية وضعف القرار الواحد المتراكم. في المقابل، تعمل إسرائيل بشكل تراكمي، أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا لإعادة صياغة الواقع من وجهة نظرها. وبين دولة تفاوض لتثبيت ما تبقّى، وطرف تفاوضي يسعى إلى تغيير ما هو قائم، لا تُقاس نتائج التفاوض بما يُعلن على الطاولة، بل بما يُفرض على الأرض. للبحث تتمّة.
