“أحكي وفي فمي تراب الكلام”؛ زهير هوّاري.. سيرة حياة وسط الحروب

يأتي كتاب زهير هوّاري «أحكي وفي فمي تراب الكلام.. سيرة حياة وسط الحروب» الصّادر عن دار الفارابيّ (2025) بوصفه نصّاً يكتب ذاته من داخل الجرح، لا من خارجه. ليس مجرّد مذكّرات صحافيٍّ لبنانيٍّ عاش الحرب، بل محاولةً لترميم معنى الحياة حين يكون زمن المرء هو زمن المدافع، وحين تصبح السّيرة الشّخصّية، شاء صاحبها أم أبى، متشابكةً مع خرائط الجبهات والتّحالفات والانهيارات.

منذ العنوان، يفرض الكتاب طريقته في القراءة، فعل «أَحْكِي» يوحي بالرّغبة في الإفصاح، في الشّهادة، في كسر صمتٍ طويل؛ بينما «وفي فمي ترابٌ» يذكّر القارئ بأنّ الكلام نفسه يخرج مثقلاً بما لا يُحْتَمَل. هنا لا يتحدّث راوٍ محايدٍ عن «وقائع» مرتّبة زمنيّاً، بل يتكلّم جسدٌ حمل الرّعب والنّجاة معاً، وحمل أيضاً ثقل الأسئلة التي لا جواب لها. التّراب ليس زينةً بلاغيّة؛ إنّه ما تبقّى في الفم من بيوتٍ مهدّمة، ومن قبورٍ مفتوحة، ومن هواءٍ اختلط فيه غبار الحرب بأنفاس الأطفال.

في هذه السيرة، يقدّم زهير هوّاري ذاته، لا كبطلٍ يروي أمجاداً، بل كـ«حسّاسٍ اجتماعيٍّ» عاش تحوّلات الجنوب، وبيروت، واليسار اللّبناني، والوجود الفلسطينيّ، والطّائفيّة، والانهيار الاقتصاديّ، على جلده وفي عائلته وصداقاته. من خلاله يعبر إلى عالمٍ بأكمله، عالم جيلٍ تشكّل وعيه وهو يتعلّم، في الوقت نفسه، القراءة والاختباء في الملاجئ؛ يهتف للشّعارات الكبرى ويتلمّس، في الحيّ نفسه، وجوه ضحاياها.

ما يفعله الكتاب، في جوهره، هو تحويل الحياة الخاصّة إلى مرآةٍ مكبّرة لبنيةٍ اجتماعيّةٍ ممزّقة، وإلى مادةٍ خامٍ لقراءة الجسد، والقرابة، والمكان، واليوميّ، في زمنٍ تعيد فيه الحرب تعريف كلّ شيء، من معنى البيت، إلى معاني الشّجاعة والخيانة، مروراً بأبجدية الخوف ذاتها.

في رواية زهير هوّاري، تُحاك كلُ الخيوط بلغةٍ لا تكتفي بالتّسجيل البارد، بل تستدعي الحواس بكثافة. لا يختفي طعم التّراب من الفم عبر الصفحات، في وصف الملاجئ المكتظّة، في ذكرى انهيار جدار، في مشهد فتح قبرٍ جماعيّ، في سيرة بيتٍ لم يبقَ منه سوى أساسٍ مغمورٍ بالعشب. يستدعي الرّاوي الرّوائح – رائحة الغاز المختلطة بالرّطوبة، رائحة العرق في الملجأ، رائحة الشّاي الذي يُعَدُّ على موقدٍ بدائيّ – كأنّه يستنطق الذّاكرة من عمق الجسد، لا من سطح الحكاية. وهكذا يغدو النّص، في النهاية، أرشيفاً حسّيّاً للحرب بقدر ما هو سجّلٌ أحداثيٌّ لها

بديهيات العمر

يتقدّم النص من طفولةٍ تتشكّل في الأطراف، في قريةٍ بقاعية أو بلدةٍ هامشيّة، حيث تتجاور البساطة الرّيفيّة مع ثقل الجغرافيا السّياسيّة. هناك، على تخوم الاحتلال والحدود والمخيّمات، يتفتّح وعي الطّفل على عالمٍ لا يكون فيه «العدو» مجرّد صورةٍ في نشرات الأخبار، بل واقعاً مرئيّاً في السماء والأرض، طائراتً تحلّق، جنودٍ عند الأفق، طرقٍ يُقال للصّغار ألا يعبرونها ليلاً. المدرسة نفسها تتسلّل إليها السّياسة باكراً، صور الزّعماء، أحاديث المعلّمين عن فلسطين، حماسة الصّغار لأوّل شتيمةٍ يتعلّمون توجيهها إلى «العدو».

في هذا الفضاء، تصبح الحرب جزءاً من نسيج الطّفولة، لا قطيعةً معها. يصف الكاتب تفاصيل الحياة اليوميّة التي تُعَادُ صياغتها حول احتمال القصف والنزوح، ترتيب الأثاث بحيث يوفّر ركنٌ «أكثر أمناً» عند سقوط القذائف؛ حفظ طريقٍ جانبيّةٍ إلى الملجأ؛ مهارة التّعرّف إلى نوع السّلاح من الصوت وحده. لا شيء في اليوميّ يبقى بريئا، حتى اللّعب في ساحة البيت محكومٌ بتقدير المسافة عن الجدار «الذي قد يسقط». هنا تتّضح كيف تتحوّل الحرب من حدثٍ إلى بيئة، وكيف يغدو الخوف مهارةً اجتماعيّةً يتعلّمها الصّغار مبكّراً كأنّها من بديهيّات العمر.

بيروت.. الحزبية!

ومع انتقال السّرد إلى بيروت، ننتقل معه إلى فضاءٍ آخر، لا يقلّ هشاشة. المدينة التي بدت، للفتى، وعداً بالتّحرّر والتّعليم والصّحافة، تكشف سريعاً وجهاً آخر، بيروت المقسومة بخطوط تماس، المزدوجة الأسماء والوجوه. شارعٌ واحدٌ يمكن أنْ يكون، صباحاً، طريقاً إلى الجامعة، ومساءً، ممرّاً محفوفاً باختبار الهويّة على حاجزٍ مسلّح. يتعلّم الشّاب، في هذه المدينة، قراءة الخريطة على نحوٍ آخر، ليست أسماء الشّوارع والميادين ما يهمّ، بل من يسيطر على هذا المقطع أو ذاك، ومن يسمح لابن هذه المنطقة أنْ يمرّ في تلك الساعة أو لا يمرّ.

في التّفاصيل الصّغيرة – اختيار الطّريق الأطول لتجنّب حاجز، تأجيل موعد لقاءٍ بسبب اشتداد التّوتّر في حيٍّ معيّن، حفظ وجوه المسلّحين وأصواتهم – نرى كيف تتشكّل جغرافيا اجتماعيّة للحرب، حيث يصبح المكان شبكةً من الاحتمالات لا من المسافات فحسب. القرية والمدينة، الجنوب والبقاع وبيروت، يتحوّلان في السيرة إلى شخصيّات لها طباعها وجرحها، وإلى مسارح ثابتة في خلفية تشكيل الذّات.

على هذه الخلفية المكانية، يتطوّر في الوقت نفسه مسار الوعي السّياسي. الشاب الذي جذبته، في بداياته، عبارات العدالة والتحرّر والأمميّة، يجد نفسه تدريجياً في قلب منظومةٍ حزبيّةٍ يساريّة، تحمل أسلحتها وخطابها وتناقضاتها. يكتب هوّاري عن الاجتماعات الأولى، عن السّهرات التي تختلط فيها النّقاشات النّظريّة بحلمٍ حقيقيٍّ بعالمٍ أكثر إنصافاً، وعن شعور الانتماء إلى «عائلةٍ سياسيّةٍ» تتجاوز روابط الدّم والقرية والطّائفة. لكنّ النصّ لا يكتفي بهذه الرومانسيّة الأولى؛ بل يتتبّع، بلا رحمة، مسار الانكسار.

الهوية-الطائفة

مع طول فترة الحرب، تبدأ الشّعارات العليا في الاصطدام بالواقع، تحالفاتٌ تكتيكيّةٌ مع قوًى متناقضة، انشقاقاتٌ داخليّة، استغلال للسلاح في غير غايته المْعْلَنَة، انزلاق بعض التّنظيمات إلى ممارساتٍ تشبه ما كانت تنتقده. على هذا النّحو، تتعرّض الهويّة الأيديولوجيّة لضرباتٍ متتالية؛ ويتحوّل الانتماء الحزبيّ من مصدر فخرٍ إلى حقلٍ معقّدٍ من الولاءات والأسئلة. ينعكس هذا كلّه في قلق الجملة السّيريّة نفسها، في طريقة انتقالها من «نحن» الجماعيّة الواثقة إلى «أنا» الفرد المتردّد، ومن يقين البدايات إلى نبرة المتأمّل الذي ينظر إلى الوراء بحبٍّ وخجلٍ في آنٍ واحد.

إقرأ على موقع 180  طلال سلمان.. أرثيك وأبكي زماننا العربي الرديء

يتقاطع ذلك مع ضغط الطّائفيّة التي تغزو الفضاء العامّ والخاصّ معا. لا يعود كافياً أنْ يُعرّف المرء نفسه بوصفه يساريّاً أو قوميّا؛ في الشّارع، على الحاجز، في الحيّ، تُخْتَزَلُ الذّوات إلى طوائف. يروي الكاتب كيف تتحوّل تفاصيل بسيطةٌ – الاسم الأوّل، اسم العائلة، مكان السّكن – إلى مؤشّرات حياةٍ أو موت؛ وكيف يصبح الصّمت عن الهويّة أحياناً أداة نجاة، وأحياناً أخرى مصدراً للخطر. ما كان يظنّه انتماءً ثانويا، أو حتى معطى يريد تجاوزه، يعود ليفرض نفسه كبطاقة مرورٍ سياسيّةٍ وأمنيّة.

في سياق هذا المشهد، تحتلّ فلسطين مكانةً خاصةً في السّيرة الهوّارية. هي ليست فكرةً مجرّدة، بل حضورٌ يوميٌّ في المخيّمات، في الرّايات المرفوعة، في الحكايات عن فدائيّين مرّوا من القرية أو السّاحة. في صيف الاجتياح، أو في لحظات الخروج الفلسطينيّ من بيروت. لا يصف زهير هوّاري أحداثاً صحفيّةً بقدر ما يصف اهتزازاً في بنية هويّته ذاتها، سقوط أحلامٍ كانت مربوطةً بمدينةٍ محاصَرَة، وانكشاف جسد المدينة والقرية معاً على قسوة واقعٍ جديد. هكذا تتداخل دوائر الانتماء، لبناني/ فلسطيني وجدانا، يساريّ، ابن طائفةٍ معيّنة، مواطنٌ في دولةٍ هشّة؛ ويبحث في كل هذا التّشابك، عن نقطة توازنٍ أخلاقيّةٍ وإنسانيّةٍ لا تطيح بها أيٌّ من هذه الولاءات.

أخلاقيات البقاء

لا تظلّ هذه التحوّلات الكبرى على مستوى السّياسة وحدها؛ بل تمتدّ إلى أدقّ أنسجة الحياة، والعائلة. يتقدّم الأب والأمّ والأخوة في السّيرة كوسطٍ اجتماعيٍّ أوّل لاختبار آثار الحرب. الأب، الذي اعتُبِرَ طويلاً عماد البيت، ينكشف في كثيرٍ من اللحظات ككائنٍ هشٍّ أمام قذيفة، أو أمام فقدان عمل، أو أمام مرضٍ لا دواء له. صورته في عيون الابن تتقلّب بين المهابة والرّثاء، بين الحضور والغياب، بين سلطة الكلمة وارتباك العاجز. هذه الرحلة لا تُرْوَى ببرودة، بل بحساسيّةٍ تلتقط كلّ مرّةٍ كيف تُعَادُ صياغة الرّجولة نفسها تحت ضغط القوّة المجرّدة للعنف والسّياسة.

في المقابل، تظهر الأمّ والأخوات والنّساء في العائلة كحاملاتٍ متّصلاتٍ للخيوط التي تمنع النّسيج من التمزّق نهائيا. في مشاهد الملاجئ، تحضر الأمّ وهي تحاول أن تجعل من قاع بنايةٍ مكاناً صالحاً للنوم، ولو لساعات؛ في زمن النّدرة، هي التي تبتكر وصفات طعامٍ من فتات الموارد؛ في لحظات الحداد، هي التي تنظّم الطّقوس وتستقبل المعزّين وتوزّع الأدوار. هذه التّفاصيل لا تُطْرَحُ كـ«بهاراتٍ» عاطفيّة، بل كجزءٍ من فهمٍ أعمق لكيف يُعَادُ إنتاج الحياة داخل بيتٍ محاصر، وكيف تمتدّ يد النساء، بصمتٍ غالبا، لتعيير موازين التّماسك العائليّ من جديد.

إلى جانب البعد العاطفيّ، يقف الاقتصاد اليوميّ كأحد أكثر خيوط النّصّ قسوةً وواقعيّة. مع انهيار العملة، وتعطّل الأعمال، وغياب الضّمانات، يجد الراوي نفسه، مثل كثيرين من أبناء جيله، يتنقّل بين مهنٍ مؤقّتة، وبين فرص عملٍ مرتبطة غالباً بحساباتٍ سياسيّةٍ أو بحسابات السّوق السّوداء. يصف الكاتب كيف تنبت، في هوامش المدن والأحياء، شبكاتٌ جديدةٌ من الوسطاء والمهرّبين والمضاربين؛ وكيف يخلق ذلك منظومة قيمٍ مضادّةٍ تقريباً لما كانت تَعِدُ به الأيديولوجيا، قوّة المال السّريع، براعة التّحايل، مهارة الإفلات من القانون.

لكنّ النّصّ لا يقف عند التّنديد الأخلاقيّ السهل. بل يترك مساحةً لفهم تعقيد الموقف، وكيف يصبح الرجل الذي يهرّب المحروقات، مثلاً، في نظر بعض أبناء حارته، منقذاً لا مجرماً؛ وكيف تُفْهَمُ الهجرة – التي كانت تجسّد سابقاً كرمزٍ لهروب الكفاءات – كخيارٍ يكاد يكون وحيداً لحماية الأطفال من مستقبلٍ يضيق. في هذا المستوى، ينجح الكتاب في ملامسة ما يمكن تسميته «أخلاقيّات البقاء»: تلك المنطقة الرّمادية التي يتفاوض فيها الناس، يومياً، بين الصّواب والخطأ، بين القيم الرّاسخة وغريزة النجاة.

أرشيف الرائحة

في رواية زهير هوّاري، تُحاك كلُ الخيوط بلغةٍ لا تكتفي بالتّسجيل البارد، بل تستدعي الحواس بكثافة. لا يختفي طعم التّراب من الفم عبر الصفحات، في وصف الملاجئ المكتظّة، في ذكرى انهيار جدار، في مشهد فتح قبرٍ جماعيّ، في سيرة بيتٍ لم يبقَ منه سوى أساسٍ مغمورٍ بالعشب. يستدعي الرّاوي الرّوائح – رائحة الغاز المختلطة بالرّطوبة، رائحة العرق في الملجأ، رائحة الشّاي الذي يُعَدُّ على موقدٍ بدائيّ – كأنّه يستنطق الذّاكرة من عمق الجسد، لا من سطح الحكاية. وهكذا يغدو النّص، في النهاية، أرشيفاً حسّيّاً للحرب بقدر ما هو سجّلٌ أحداثيٌّ لها.

بهذا المعنى، لا يتوجّه «أحكي وفي فمي تراب» إلى قارئٍ مهتمٍّ بالماضي فحسب، بل إلى قارئٍ يعيش حاضراً مهدَّداً بحروبٍ جديدة، وصراعاتٍ تتكرّر بأقنعةٍ مختلفة. في مرآة هذه السّيرة، نرى كيف يمكن أن تُصْنَعَ كارثةٌ اجتماعيّةٌ من تراكم أحداثٍ تبدو، في حينها، «طبيعيّة» أو «حتميّة»؛ ونلمس، في الوقت نفسه، كيف يظلّ الإنسان، رغم كلّ شيء، قادراً على حفر مساحاتٍ صغيرةٍ من المعنى والكرامة في قلب الخراب. هذه المساحات هي، في جوهرها، ما يصرّ هذا الكتاب على تسميته، بصوتٍ خافتٍ وربما متردّد: حياة.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الخليج، مصر، تركيا.. أبرز الخاسرين من شرق أوسط نتنياهو!