إسرائيل تعترف بدولة “أرض الصومال”.. والهدف تطويق تركيا

في السنوات الأخيرة، شهدت منطقة الشرق الأوسط وفضاء البحر المتوسط تحولات جيوسياسية، اتخذت طابعًا متدرجًا لكنه عميق الأثر، وبينها توثيق التعاون بين إسرائيل وكل من قبرص واليونان، وصولًا إلى اعتراف تل أبيب بدولة "أرض الصومال"، وهي منطقة منفصلة عن الصومال ولا تحظى باعتراف دولي. هذه الخطوات، التي جرى تسويقها غالبًا ضمن أطر تعاون إقليمي أو اقتصادي، أثارت أسئلة جوهرية حول خلفياتها الاستراتيجية، وما إذا كانت تشكل محاولة لمحاصرة قوى إقليمية أساسية مثل مصر والسعودية وتركيا.

يستند هذا التحليل إلى مقاربات وتقارير صادرة عن مراكز بحثية دولية بارزة، من بينها المجموعة الدولية للأزمات، ومعهد بروكينغز، وتشاتام هاوس، ومؤسسة كارنيجي، مع التركيز على البعد الأمني والاقتصادي والسياسي لهذه التحركات. ومنذ البداية، يتضح أن هذه المبادرات لا يمكن قراءتها بوصفها قرارات منفصلة أو ظرفية، بل تأتي ضمن رؤية إسرائيلية طويلة المدى تهدف إلى تعزيز النفوذ في مناطق استراتيجية شديدة الحساسية.

وفي هذا السياق، شكّل اعتراف إسرائيل بدولة “أرض الصومال” محطة مفصلية، نظرًا لما تنطوي عليه من دلالات جغرافية وسياسية. فـ”أرض الصومال” تقع على ساحل خليج عدن، بالقرب من مضيق باب المندب الذي تمر عبره نسبة كبيرة من تجارة النفط العالمية، ما يمنح أي وجود فيها قيمة استراتيجية مضاعفة، ويفتح الباب أمام مراقبة واحدة من أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم. ومن هنا، لم يمر هذا الاعتراف من دون أن تثير دوافعه نقاشًا واسعًا، إذ تشير تقارير المجموعة الدولية للأزمات إلى أن “أرض الصومال” قد تشكل منصة مراقبة متقدمة في مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي في البحر الأحمر، لا سيما في ظل دعم طهران لجماعات مسلحة وشبه عسكرية في الإقليم، وسعيها إلى توسيع حضورها عبر شراكات اقتصادية وأمنية. وفي الوقت نفسه، يندرج هذا التحرك ضمن سياسة إسرائيلية أوسع لبناء شبكة تحالفات في القارة الإفريقية، حيث أعادت منذ عام 2016 تفعيل علاقاتها مع عدد من الدول الإفريقية، في محاولة لموازنة الحضور الإيراني والتركي المتزايد هناك.

إلى جانب ذلك، لا يمكن فصل الاعتراف بـ”أرض الصومال” عن البعد التركي في القرن الإفريقي، إذ تمتلك أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها خارج الأناضول في مقديشو، وتعد الصومال جزءًا من استراتيجيتها الإفريقية الممتدة. وتشير تقارير تشاتام هاوس إلى أن خطوة الاعتراف هذه تضعف شرعية الحكومة الفيدرالية الصومالية المتحالفة مع تركيا، وتشكل تحديًا مباشرًا للنفوذ التركي في المنطقة. ومن هنا، تباينت ردود الفعل الإقليمية، حيث تعاملت مصر مع التطورات بحذر واضح، إدراكًا منها لحساسية البحر الأحمر وأهميته لقناة السويس، لكنها في الوقت نفسه واصلت التعاون البحري والأمني مع إسرائيل ضمن مبادرات مشتركة لمواجهة التهديدات المتصاعدة. أما السعودية، فبقي موقفها أقرب إلى المراقبة الصامتة، إذ تنظر بقلق إلى النفوذ التركي في القرن الإفريقي، من دون أن تعلن موقفًا صريحًا في ظل غياب علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

التحركات الإسرائيلية لا تستهدف محاصرة مصر أو السعودية، بل تتركز أساسًا على احتواء تركيا، مع بعد تكميلي يتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني. فمصر تؤدي دور الجسر الاقتصادي والسياسي، والسعودية تراقب من موقع الحذر، فيما تواجه تركيا شبكة متزايدة من التحالفات التي تحد من قدرتها على المناورة. وفي هذا الإطار، تبرز أهمية متابعة تطورات منتدى غاز شرق المتوسط والعلاقة الإسرائيلية مع “أرض الصومال” بوصفها مؤشرات على اتجاهات الصراع الإقليمي، كما تبرز الحاجة أمام القوى الإقليمية، ولا سيما مصر والسعودية، إلى تنسيق مواقفهما بما يحول دون توظيف هذه التحالفات على حساب مصالحهما

في المقابل، رفضت تركيا الاعتراف بشكل قاطع، واعتبرته تدخلًا في الشأن الداخلي الصومالي، وسعت إلى تعزيز شراكتها مع الحكومة الفيدرالية في مقديشو، وفق ما تشير إليه تقارير كارنيجي. وبذلك، خلصت معظم التحليلات إلى أن هذه الخطوة لا تستهدف مصر أو السعودية بشكل مباشر، بقدر ما تندرج في إطار مواجهة مزدوجة، تتمثل في احتواء النفوذ الإيراني من جهة، وتعطيل التمدد التركي في القرن الإفريقي من جهة أخرى.

وبالتوازي مع هذا المسار الإفريقي، وسّعت إسرائيل تحركاتها في شرق المتوسط عبر تعميق شراكاتها مع قبرص واليونان، ولا سيما ضمن إطار منتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس عام 2020 ويضم إلى جانبها كلًا من مصر والأردن وفلسطين والإمارات. ويهدف هذا المنتدى إلى تنظيم استثمار احتياطيات الغاز الطبيعي في المنطقة، وفي مقدمتها الحقول الإسرائيلية الكبرى، وعلى رأسها حقل ليفياتان. وفي هذا الإطار، وقّعت إسرائيل اتفاقات لترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة مع قبرص واليونان، بما يتيح استغلال الموارد البحرية بشكل قانوني ومنظم. كما جرى الترويج لمشروع خط أنابيب غاز شرق المتوسط لنقل الغاز الإسرائيلي عبر قبرص واليونان إلى أوروبا، في مسعى لتأمين بدائل للطاقة الروسية.

غير أن هذه المشاريع لم تكن بمنأى عن التحديات، سواء من حيث الكلفة الاقتصادية المرتفعة أو من حيث المعارضة السياسية، وخصوصًا من جانب تركيا التي رأت في هذه التحالفات محاولة لعزلها عن موارد المتوسط. ويشير معهد بروكينغز إلى أنّ الشراكة مع قبرص واليونان، وهما دولتان عضوان في حلف شمال الأطلسي، تحولت إلى أداة جيوسياسية في مواجهة المطالبات التركية بالمناطق الاقتصادية الخالصة، ما أدى إلى تصعيد التوترات البحرية، كما ظهر في المناورات والاستعراضات العسكرية خلال السنوات الأخيرة. وفي المقابل، عززت إسرائيل موقعها عربيًا عبر هذه المنصة، إذ تشارك مصر بوصفها شريكًا استراتيجيًا أساسيًا، مستفيدة من استيراد الغاز الإسرائيلي وإعادة تسييله، فيما تشكل الإمارات والأردن عنصر دعم سياسي أوسع ضمن سياق اتفاقيات إبراهام.

إقرأ على موقع 180  المنطقة إلى "صفقة كبرى" أم "تفاهمات التهدئة"؟

وعند النظر إلى مواقف الدول المعنية، يتبين أنّ مصر ليست مستهدفة بهذه الترتيبات، بل تُعد شريكًا محوريًا فيها، إذ تحقق مكاسب اقتصادية وأمنية واضحة من التعاون في مجال الطاقة وأمن الحدود. أما السعودية، فتتابع هذه التطورات بحذر، من دون انخراط مباشر، في انتظار تبلور ظروف إقليمية وسياسية، ولا سيما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومستقبل الوضع السوري. في المقابل، ترى تركيا في هذه الشبكة من الاتفاقات تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا، ما دفعها إلى تعزيز تحالفاتها البديلة، سواء عبر ليبيا أو عبر توطيد علاقاتها مع إيران وروسيا، في محاولة لكسر العزلة المتنامية.

ومن خلال تحليل مواقف الدول الثلاث على حدة، يتضح أن مصر لا تقع في دائرة الاستهداف، بل تُعامل بوصفها شريكًا يمكن الاعتماد عليه، سواء في منتدى غاز شرق المتوسط أو في الترتيبات الأمنية المرتبطة بالبحر الأحمر وقطاع غزة. وبرغم قلقها من أي تطورات قد تمس استقرار الممرات البحرية في البحر الأحمر، ترى القاهرة أنّ التنسيق مع إسرائيل يظل أقل كلفة من الانخراط في صراعات مفتوحة أخرى في الإقليم.

أما السعودية، فهي تعتبر نفسها غير مستهدفة مباشرة، إذ تتركز أولوياتها الاستراتيجية على مواجهة إيران في الخليج واليمن، فيما يبقى أي تقارب مع إسرائيل مشروطًا بتقدم ملموس في الملف الفلسطيني. في المقابل، تبدو تركيا الطرف الأكثر تضررًا، سواء في شرق المتوسط حيث تُقوّض مطالباتها البحرية، أو في القرن الإفريقي حيث يتعرض حضورها في الصومال لضغوط إضافية، فضلًا عن الساحة الليبية التي تتقاطع فيها المصالح الإسرائيلية والمصرية ضد النفوذ التركي.

وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إنّ الصورة العامة تشير إلى أنّ التحركات الإسرائيلية لا تستهدف محاصرة مصر أو السعودية، بل تتركز أساسًا على احتواء تركيا، مع بعد تكميلي يتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني. فمصر تؤدي دور الجسر الاقتصادي والسياسي، والسعودية تراقب من موقع الحذر، فيما تواجه تركيا شبكة متزايدة من التحالفات التي تحد من قدرتها على المناورة. وفي هذا الإطار، تبرز أهمية متابعة تطورات منتدى غاز شرق المتوسط والعلاقة الإسرائيلية مع “أرض الصومال” بوصفها مؤشرات على اتجاهات الصراع الإقليمي، كما تبرز الحاجة أمام القوى الإقليمية، ولا سيما مصر والسعودية، إلى تنسيق مواقفهما بما يحول دون توظيف هذه التحالفات على حساب مصالحهما، في حين تبدو تركيا أمام خيار البحث عن تسويات دبلوماسية تقلل من مخاطر العزلة المتنامية في محيطها الإقليمي.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الثورات تنتكس ولا تموت.. مصر نموذجاً