

تشير تقديرات الحكومة اللبنانية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أنّ عدد اللاجئين السوريين المسجّلين وغير المسجلين في لبنان بلغ حوالي 1.5 مليون لاجئ حتى منتصف السنة الحالية 2025. ووفقًا لتقارير المفوضية ومصادر أخرى موثوقة حتى منتصف سنة 2025، فقد عاد أكثر من نصف مليون لاجئ سوري إلى بلادهم منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، في موجة نزوح معاكسة غير مسبوقة تركزت خصوصًا في المناطق الريفية والزراعية مثل البقاع، عكار والجنوب.
العمالة السورية في القطاع الزراعي اللبناني
يعد القطاع الزراعي من أكثر القطاعات اعتمادًا على اليد العاملة السورية، حيث شكّلت ما بين 60% و80% من القوى العاملة الزراعية حتى عام 2023 وفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية (ILO) ويُقدّر أنه من أصل 430,000 عامل سوري في لبنان يعمل حوالي 22–25% في الزراعة ما وفّر لهذا القطاع مرونة في التوظيف وتكاليف إنتاج منخفضة خصوصًا في الأعمال الموسمية مثل القطاف وتربية الماشية.
ويعود حضور العمالة السورية في لبنان الى ما قبل الأزمة السورية وخصوصاً مرحلة انتهاء الحرب الاهلية، حيث أرست المعاهدة بين لبنان وسوريا (1991) مبدأ تسهيل حركة الافراد والعمال وأسست لتدفق واسع للعمالة السورية الى لبنان ولكن من دون بنود تنظيمية واضحة للاتفاقات الثنائية، الأمر الذي انعكس سلبًا على القطاعات الريفية والزراعية. في المقابل، لا تتجاوز نسبة العمالة اللبنانية في هذا القطاع 3.5% من القوى العاملة الزراعية، بحسب أرقام البنك الدولي (2023)، ما يجعل أي خروج جماعي للعمال السوريين بمثابة صدمة مباشرة للقطاع.
لا تتوقف معالجة تداعيات النزوح السوري المعاكس على ملء فجوة ما في اليد العاملة، بل تتطلب إعادة بناء رؤية تنموية ريفية متكاملة، تعيد الاعتبار للقطاع الزراعي كركيزة للأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.. وحتماً لا بد من مقاربة شاملة لمستقبل العلاقات اللبنانية السورية، تستفيد مما كان جيّداً في العقود الثلاثة الأخيرة، وتسعى إلى تخطي السلبي منها
هيكلية القطاع الزراعي في لبنان
برغم أن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 3.1%، إلا أن القطاع يوفّر فرص عمل لحوالي 120,000 شخص، أي ما يعادل 3.5% من القوى العاملة الوطنية، بحسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) عام 2023.
ويتركز الإنتاج الزراعي في مناطق مختلفة من لبنان مثل البقاع، عكار والجنوب، ويُشكّل كلٌّ من الإنتاج النباتي والحيواني مصدر دخل أساسي للأسر الريفية وتعيش حوالي 20% من الأسر الريفية تحت خط الفقر، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) في ظل هشاشة الأمن الغذائي إذ يعتمد لبنان على استيراد أكثر من 70% من احتياجاته الغذائية الأساسية.
تداعيات النزوح المعاكس
تسببت عودة النازحين السوريين إلى سوريا بنقص حاد في اليد العاملة الزراعية الموسمية في لبنان. وسجلت تقارير ميدانية في بداية عام 2025 ارتفاعًا في أجور العمال الزراعيين بنسبة تراوحت بين 30 إلى 40% ما أدى إلى تأخير في مواسم القطاف في عدة مناطق (وزارة الزراعة اللبنانية، 2025).
ويُعتبر قطاع تربية الأبقار الحلوب من الركائز الأساسية للإنتاج الزراعي في لبنان، حيث يقدّر عدد الأبقار الحلوب بنحو 65,000 رأس (وزارة الزراعة، 2023). ويُقدّر أن كل 15 بقرة تحتاج إلى عامل متخصص، أي أن القطاع يحتاج إلى ما لا يقل عن 4,300 عامل مباشر دون احتساب العمال في مراحل الإنتاج والتوزيع.
وتشكّل اليد العاملة السورية النسبة الأكبر من العاملين في هذا القطاع نظرًا لخبراتهم وتكلفة تشغيلهم المنخفضة مقارنةً بالعمال اللبنانيين. وقد أدى غيابهم إلى نقص حاد في العمالة المؤهلة ما أثّر سلبًا على جودة الرعاية والإنتاج ورفع تكاليف التشغيل بنسبة قد تصل إلى 25%، الذي أدى إلى تراجع إنتاج الحليب وتضاؤل إمداده في السوق المحلي وبالتالي تهديد الأمن الغذائي وسبل العيش الريفية.
وقد أشارت بيانات وزارة الزراعة إلى تراجع إنتاج الحليب بنسبة 12% في الربع الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
الأمن الغذائي اللبناني
يعتمد لبنان على الواردات الغذائية لتغطية ما بين 70% و80% من احتياجاته، ما يجعله عرضة للصدمات الخارجية (البنك الدولي، 2024) ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة يعاني حوالي 15% من اللبنانيين من انعدام غذائي حاد في حين تواجه 21% من الأسر الريفية انعدامًا غذائيًا مزمنًا نتيجة تراجع الإنتاج المحلي وأزمة اليد العاملة إلى جانب الأزمات الاقتصادية المستمرة منذ عام 2019.
وقد أدت هذه الأزمات إلى تراجع القدرة الشرائية، وانخفاض الطلب على السلع غير الأساسية، وانتشار السلع المقلّدة، وتبدّل أنماط الاستهلاك الغذائي، ما عمّق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية في الريف.
الاستجابة الدولية ومبادرات دعم القطاع الزراعي
استجابة لهذه التحديات، أطلقت المؤسسات الدولية عدة مبادرات لدعم الزراعة والتنمية الريفية في لبنان؛ فقد أقرّ البنك الدولي مشروع (GATE) بتمويل قدره 200 مليون دولار لدعم 80,000 مزارع لبناني ورفع إنتاجية القطاع الزراعي وخلق أكثر من 2,200 وظيفة جديدة بحلول عام 2026 (World Bank).
كما تُموّل منظمة إيفاد (IFAD) مشاريع تنموية وزراعية بقيمة تتجاوز 100 مليون دولار تركز على تطوير البنية التحتية الريفية وتحسين خدمات المياه والطرقات، وتقديم دعم مباشر للمزارعين اللبنانيين (IFAD) .
بناءً على ما تقدم، شكّلت التحولات السياسية في سوريا، وما تبعها من موجات نزوح معاكسة، تحديًا مباشرًا للزراعة والتنمية الريفية في لبنان. فقد أدّت عودة قسم من النازحين السوريين إلى بلادهم إلى إحداث فجوة كبيرة في سوق العمل الزراعي، ما أثّر سلبًا على الإنتاج الغذائي المحلي، وعرّض الأمن الغذائي الوطني لمخاطر متزايدة، في ظل بنية زراعية هشّة أساسًا وتعقيدات اقتصادية متراكمة.
في هذا الإطار، لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالحلول الظرفية، بل بات من الضروري اعتماد مقاربة وطنية شاملة تعالج جذور الأزمة وتؤسس لقطاع زراعي مستدام ومرن في مواجهة الأزمات وعليه، يُمكن طرح مجموعة أفكار:
- تنظيم سوق العمل الزراعي من خلال إعداد قاعدة بيانات دقيقة للعمالة المحلية والأجنبية، وضمان حقوق العمال، وتأمين بيئة قانونية وعملية تحفّز الاستقرار الوظيفي في القطاع.
- إطلاق برامج دعم مباشر للمزارعين تشمل القروض الميسّرة، وتوفير المدخلات الزراعية الأساسية بأسعار مدعومة، وتشجيع الزراعة المستدامة والصديقة للبيئة.
- تعزيز البنية التحتية الريفية من خلال تحسين شبكات الري، وتعبيد الطرق الزراعية، وتوفير خدمات الإرشاد الزراعي والتقني للمزارعين.
- جذب الاستثمارات الزراعية عبر تقديم حوافز للمستثمرين المحليين والدوليين، وضمان الشفافية في المشاريع الزراعية المشتركة، وتسهيل الشراكات مع الجامعات ومراكز البحث.
- دمج الزراعة في سياسات الحماية الاجتماعية بما يضمن استقرار العائلات الريفية ويحد من الهجرة الداخلية، خاصة في صفوف الشباب.
- تعزيز التعاون الإقليمي مع الدول المجاورة لتبادل الخبرات، وضمان استقرار سلاسل الإمداد، خصوصاً في ظل الأزمات الجيوسياسية المتكررة.
في الخلاصة، لا تتوقف معالجة تداعيات النزوح السوري المعاكس على ملء فجوة ما في اليد العاملة، بل تتطلب إعادة بناء رؤية تنموية ريفية متكاملة، تعيد الاعتبار للقطاع الزراعي كركيزة للأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.. وحتماً لا بد من مقاربة شاملة لمستقبل العلاقات اللبنانية السورية، تستفيد مما كان جيّداً في العقود الثلاثة الأخيرة، وتسعى إلى تخطي السلبي منها.. وذلك على قاعدة مصلحة شعبي البلدين بقيام أفضل علاقات لبنانية سورية.