

ركزت فعاليات الورشة، التي نُظمت في 25 و26 حزيران/يونيو 2019، على الاستثمارات الاقتصادية كأساس للحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى هذا الأساس، قدّم جاريد كوشنر رؤيته لاستثمار نحو 50 مليار دولار أميركي، على مدى 10 سنوات، في الاقتصاد الفلسطيني، على أن يشمل ذلك المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) والجوار (الأردن ومصر). وتضمنت خطته مشاريع في مجالات الطاقة، والسياحة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، والزراعة، وذلك بهدف خلق مئات الآلاف من فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة. ووصف خطته بـ”فرصة القرن” للفلسطينيين، وقال إن التقدم الاقتصادي شرط أساسي للسلام السياسي، داعياً إلى تجاوز الصراعات التاريخية والتطلع نحو مستقبل يعتمد على الشراكات الخاصة والحكومية. وقال إن الفلسطينيين “يستحقون حياة أفضل”، مؤكداً أن إدارة ترامب “لم تتخلَ عن الفلسطينيين”.
ومن العبارات البارزة التي ذكرها كوشنر، وهو ممثل اليهودية الصهيونية الامبريالية المفترسة، في خطابيه- الافتتاحي والختامي- ما يلي:
– “الشخص الأكثر تفاؤلاً، هو الشخص الذي عندما يرى فرصة جيدة لعائلته، يوجه كل طاقته نحو الاستفادة من هذه الفرصة، بدلاً من لوم الآخرين على مصيره الحالي”.
– “الخطة التي عرضتها عليكم مفصلة ومعقولة، وإذا تم تبنيها فستجعل الاقتصاد الفلسطيني مزدهراً.. والاقتصاد القوي هو السبيل الأنجح لتحقيق السلام الدائم”.
– “الورشة حققت نجاحاً كبيراً.. إذا أرادوا تحسين حياة شعبهم، فقد وضعنا لهم إطاراً رائعاً للتفاعل”.
– “سنكشف عن الجزء السياسي من الخطة في الوقت المناسب”.
شارك في الورشة ممثلون عن دول عربية عدّة، من بينها السعودية والإمارات، وإسرائيليون جاءوا من الكيان العِرقبادي، ومسؤولون أميركيون؛ بينهم وزير الخزانة ستيفن منوشين. في حين قاطع الفلسطينيون أعمال الورشة، احتجاجاً على تجاهل القضايا السياسية الأساسية (مثل الدولة الفلسطينية والاحتلال).
وقد علّق الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على أعمال الورشة بالقول إنها “كذبة كبيرة” اخترعها كوشنر لإحراج الفلسطينيين.
إعادة تدوير “صفقة القرن”
في تقديرنا؛ نحن في “مبادرة فلسطين 100 – في لندن”؛ أن الخطة التي قدمها؛ قبل أيام؛ الرئيس دونالد ترامب، ما هي إلا محاولة تحوير وإعادة تدوير وتسويق لخطة “صفقة القرن” (أو لما تكلم عنه كوشنر خلال ورشة المنامة).
يمكن اختصار “خطة ترامب”؛ المُستحدثة؛ بالتالي:
– وقف “أعمال الحرب”- وهي ليست حرباً وإنما جريمة عِرقبادية ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين خلال 72 ساعة.
– تشكيل هيئة دولية، يترأسها ترامب ورئيس الحكومة البريطانية السابق طوني بلير، لتسيطر على قطاع غزة.
– استبعاد السلطة الفلسطينية وحركة حماس عن أي دور.
– نزع سلاح المقاومة بشكل عام، وسلاح حماس بشكل خاص، بمساعدة دول عربية.
– إبعاد قادة حماس نهائياً إلى خارج القطاع ومن المشهد السياسي.
النتيجة، أن نتنياهو- سفحياهو العرقبادي- يشكر ترامب، ويعتبره أعظم صديق لـ”إسرائيل” منذ نشأتها، ويهدّد حماس بأنها إذا رفضت “الخطة” سيواصل جرائم العِرقبادة ضد القطاع. ما يعني إما “الحل النهائي” الذي طبقه هتلر على اليهود أو الحل المالي الذي يريد ترامب تطبيقه على الفلسطينيين، إلى أن يتمكن من تدمير غزة كلها!
والخلاصة، أن ترامب “الصفقاتي” يريد إنهاء العِرقبادة التي أزعجت ضمير العالم كله (شعوباً وحكومات) بطريقة تُرضي غرور نتنياهو وتُخرجه من حرب غزة منتصراً. وهو الهدف ذاته الذي فشل نتنياهو في تحقيقه، طوال 726 يوماً، أي منذ بدء اقترافه العِرقبادة الأشد تدميراً ودموية في التاريخ.
ما الجديد؟
في تقديرنا، أن ترامب سيستعمل الأنظمة العربية والمال العربي لتولي مهمة إنهاء المقاومة الفلسطينية قُربةً للمشروع الصهيوني. وهذا ما يستحيل تحقيقه، لأن المقاومة الفلسطينية لا يمكن إنهاؤها، بل ستأخذ شكلاً آخر يتجاوز إسرائيل ويستهدف العدو الصهيو-إمبريالي أينما كان حول العالم – وهذا الاستنتاج يتأتى من خلال متابعة الشأن الفلسطيني على مدى نصف قرن ودراسة قرنين من التاريخ الفلسطيني.
صحيح أن مشروع المقاومة الفلسطينية ضعف عسكرياً (لعدم وجود الدعم اللازم- باستثناء الدعم الذي تقدمه إيران)، ولكن مشروع المقاومة أصبح اليوم أكثر قوة ثقافياً وسياسياً وقانونياً وإعلامياً، وقد حصل تحول كبير ومهم جداً في هذا الخصوص لم نشهده طوال العقود الثمانية- عمر المقاومة الفلسطينية. وبفضل استمرار الدعم من إيران، ومعه الدعم الآتي من اليمن والعراق- وربما سوريا قريباً- سيبقى مشروع المقاومة الفلسطينية قائماً حتى تحقيق كافة حقوق الشعب الفلسطيني.
لم يتم القضاء على المقاومة، بل أن نشاطها في الفترة الأخيرة أكثر من جيد ويتوسع عالمياً بشكل لم يسبق له مثيل. كما أن قوى المقاومة في غزّة تفضّل الاستشهاد على الوقوع في الأسر، أو الإبعاد (سيناريو 1982، عندما أجبرت منظمة التحرير على الخروج من بيروت، لن يتكرر).
في الوقت نفسه، طالما أن “خطة ترامب” لا تنص على تفريغ قطاع غزّة بالقوة، ينبغي استثمار هذه النقطة الجيدة على أفضل وجه. لأن غزّة المدمّرة قد تؤمّن ساحة مقاومة تولّد القتل والجنون لدى العدو. كما يجب الاستثمار في الإنقسامات الآخذة في التضخّم داخل المجتمع الإسرائيلي.
ويجب أيضاً أن نسأل أنفسنا كيف تمكنت المقاومة من مواصلة المواجهات البطولية والصمود والبقاء طوال سنتين متتاليتين! هل من وسائل لوجستية لا نعلم عنها تؤمّن لها ما يلزم من دون علم أقوى قوّة استخبارية وأمنية بذلك!
مبدئياً، وديموقراطياً، كان يجب أن يجرى استفتاء رأي في قطاع غزة والضفة الغربية لمعرفة ما يريده الفلسطينيون، في هذه المرحلة، إلا أن الوضع الصحي والمعيشي والنفسي لشعبنا هناك لا يسمح. كما أنه من الصعب إجراء استفتاء أو انتخابات في ظلّ الاحتلال، فكيف بالحري في عهد العِرقبادة؟
إن المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تُدمي القلب، غير أنه فيما يتعلق بالإنجازات المتتالية عالمياً لصالح قطاع غزة في الأمد القريب ولو بحجم متواضع وفعًال فإننا في وضع فيه أمل.
تجدر الإشارة هنا إلى أن فيتنام- على سبيل المثال والمقارنة- كان لديها حضن دول “حلف وارسو”، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي والصين. أما بالنسبة لنا فـ”خليها على الله”!
المهم في المرحلة الحالية الحفاظ على السلام الاجتماعي داخل دولنا والابتعاد عن مشاريع العدو في تغذية الاستفزاز والتحريض إذ أن أي زعزعة داخلية تُشكّل مكسباً للعدو.
لماذا يجب رفض “خطة ترامب-نتنياهو”؟
– لأنها وصفة للاستسلام، تمنح الاحتلال ما عجز عن تحقيقه عسكرياً.
– تنحاز لصالح “الكيان” وحده، وبشكل كامل، وتعرض على الفلسطينيين وعوداً غامضة.
– تُختزل القضية الفلسطينية في ملف إغاثي إنساني، وتلغي بُعدها السياسي.
– تُقصي الجميع: منظمة التحرير والفصائل الوطنية، وتهمش التمثيل الشرعي.
– تستغل الكارثة الإنسانية في غزة لفرض حلول سياسية قاصرة.
– تُجبر الفلسطينيين على مُقايضة حقوقهم السياسية بالغذاء وإعادة الإعمار.
– تستغل الانقسام الفلسطيني لتفكيك المقاومة ومحو المشروع الوطني.
– تفرض “الكيان الإسرائيلي” كأمر واقع من دون إطار عادل للتفاوض.
– تشرّعن الغطرسة الصهيونية العِرقبادية وتمنحها المزيد من المكاسب الأمنية.
– تمهد لتدويل الاحتلال، من خلال ما يُسمى “إدارة دولية” تُنفذ أجندة إسرائيل.
– تصوّر الضحية كـ”جلاد” والمحتل كـ”ضحية”. فهي تبرئ جرائم الاحتلال، وتتجاهل الحصار والمجازر والدمار.
– تتجاوز القانون الدولي وتلغي قرارات الأمم المتحدة.
– تضع الفلسطينيين تحت وصاية شاملة في السياسة والأمن وإعادة الإعمار، وتجردهم من حقوقهم.
– تمهد لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني برمته، وهدفها هو الشعب الفلسطيني بأكمله: تاريخه، أرضه، ثقافته، وعيه، سيادته، سرديته، موارده، وحقوقه.
– تهميش الضفة الغربية والقدس، وترك مصيرهما للاستيطان والضمّ.
– القبول بإنهاء المقاومة في فلسطين سيفتح شهية المحور الصهيو-أميركي على ارتكاب كارثة مماثلة في لبنان.
صحيح أن الوضع الإنساني في غزة مأساوي ومُفجع، لكن، وكما قلنا سابقاً، يمكن معالجة هذه المعضلة بمبادرات عالمية خلّاقة. لكن ما يُطرح أخطر بألف مرة، إذ يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
صحيح أيضاً أنه من الصعب إجراء استفتاء حالياً في ظلّ جرائم العدو وتهديداته – التي لا تتوقف – والحرب النفسية التي يمارسها، إلا أن من سيختار البقاء في غزة سيكون قد أدلى بصوته وقراره أو فراره. في الوقت نفسه، هناك أعداد متزايدة من الجنود الإسرائيليين الذين يرفضون القتال في غزّة (ازدياد حالات الانتحار مؤشر مهم). ؤومن شدّة حاجة جيش العدوّ لمزيد من التجنيد، زارت لجنة عسكرية فرنسا لحثّ اليهود الفرنسيين على الالتحاق بالجيش الإسرائيلي، والنتيجة لم تكن مشجّعة.
لهذا السبب، نعتقد أنه لا يمكن القبول بـ”خطة ترامب” الكارثية بأي حال من الأحوال، حتى لو قبلتها بعض الأنظمة العربية.
(*) يقترف جريمتي الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين.