المَزْبَلة 

في أحد النقاشات الصَّريحة المُوجِعة، تطرَّق الجالسون إلى أحوالِ معظم البلدان العربية؛ إذ تتعرَّض مدنها وضواحيها وعواصمُها واحدة تلو الأخرى للهَجمات البربريَّة، وتُستبَاح حدودُها من العدوّ الإسرائيليّ دون خِشية، ودون أن يُرى منها ردٌّ حاسم. كان الغضب باديًا على الوجوه وحاضرًا في نبرات الصَّوت؛ لكنَّ الحسرةَ بدت أكبر وأمضى، وبينما جعلَ البعضُ يندب الحالَ، وينعى ما أظهرت أمةُ العَرب من تخاذُل وضَعف وهوان؛ راح آخرون يُلوحون بمزبلةِ التاريخِ؛ التي ستحتوي عما قريب جملةَ المواقفِ المُخزِية والصَّفحات المَشمولة بالعار.

المَزْبَلة اسمُ مكانٍ من الفعل زَبَل؛ وهي مكان اجتماع القِمامة والجمع منها مَزابِل. الفاعلُ زابلٌ والمَفعول به مَزبول، والمَصدر زبْل بتسكين الباء، أما الزِّبل بكسر الزاي وتشديدها؛ فمفردة يُشار بها في أغلب الأحوال إلى فَضلاتِ الطيور.

***

إذا نَفَرَ الناسُ من شَخص واجتمعوا على الابتعاد عنه، ورَفضوا أن يلتحقَ بهم في أيّ مناسبة أو يشاركهم في ما يرتادون من مَحافلٍ؛ بل وتفرقوا ما ظهر وسَعوا للالتقاء في غيابه؛ قيل إنهم قد زَبَلوه. الاستعمالُ دارجٌ لا تأتي به المَعاجِم؛ لكن الصُّورةَ البلاغيةَ قويةٌ صارمة، تُظهِر مدى الاستياء والرَّفض اللذين يحظى بهما المزبول.

***

الزَّبالُ كما جَرت العادةُ بأغلبنا على وَصفِه؛ هو الشَّخص الذي يجمع النفاياتِ أينما وُجِدت. قد يُمارس عملَه في حماية صِيغة رسميَّة مُقنَّنة؛ فيرتدي الزيَّ المُقرَّر ويركب العربةَ الضَّخمة ذات المحرك، ويُسعده الحظُّ بقفازاتٍ تحمي يديه من المواد الخَطرة، وبحذاء ذي رقبة طويلة تقي قدميه الأوساخ التي يَخوض فيها، وقد يعمل لحسابه الخاص؛ فيستعمل ذراعيه العاريتين، ويمضي دون اتخاذ أيّ احتياطات أو إجراءات وقائية، بل دون أن يخشى إصابةً أو مرضًا. رفع القِمامة من أمامِ البيوت مِهنةٌ قديمة؛ احتكرها الزبَّالون الأوائل الذين عرفوا قيمةَ ما يتخلص منه الناس، واستطاعوا بجهود ذاتية تدوير بعضِ محتوياته؛ بل واستقلوا بأحياءٍ ومناطق كاملة، تسَع نشاطَهم المُتمَدد، وتَسمح لهم بمزاولته في أريحيَّة.

***

عُرِفت منشية ناصر بأنها “حيّ الزبالين”؛ أرضٌ واسعةٌ وأعدادٌ من البشر الذين لا يَعرف أغلبهم مِهنةً أخرى له، أما صاحبةُ أول مصنع تدوير للمخلفات؛ فسيدة مُوسرة تنتمي لكبار العائلات، ويقال إن لها سبق الالتفات إلى الثروة المَطمورة، وتكوين امبراطوريةٍ عظيمة تُعيد للأوراقِ والزُّجاج وما في حكمها من مُهمَلات؛ رونقها ومَجدها. اعتدتُ في وقت سابق على زيارة المكان، وابتياع الأوراق المقواة التي يُعاد تصنيعها، فتحمل ملمسًا خشنًا متميزًا، وتعطي الألوان والصبغات عند الرسم عليها مذاقًا شديد الخصوصية والجمال.

***

زَبلُ الأرضِ؛ تعبير قليل الاستخدام يشير إلى إضافةِ السِّماد الطبيعيّ؛ أيّ رَوث الحيوانات، بهدف تحسين جَودةِ التُّربة. بعضُ المزارعين يفضل استعمال المَواد الكيميائية والمُركَّبات التي ترفع مُعدَّلات الخُصوبة، وتدفع النباتات للنموّ والنضوج خلال زمن قصير؛ لكن شتّان الفارق بين ما تجيء به الطبيعة وما يَصنعه البَشر، بين ما يُترَك ليأخذ وقته وما يُستحثُّ عنوة لاختصار المُدَّة اللازمة، كذلك شتّان الفارق ما بين تأثير الوسيلتين المتاحتين على صِحَّة الجَّسد وسلامة أعضائه، وقدرته على مُقاومة شتى الكائنات التي قد تتجرأ في لحظة غدر على مُهاجمته.

***

بعضُ الأحيان تحلو النميمةُ وتأتي سِيَر الآخرين على الألسنة؛ فإن ذُكَر اسم بعينه؛ قفزت من الفمّ قولة جارحة: دا بني آدم زبالة. القَّصد لا يتعلَّق هنا بمَظهره إن كان مُشعثًا مُغبرًا، أو برائحته إن كانت غير طيبة أو حتى خبيثة؛ القَّصد ولا شك مَجازيٌّ، مُرتبِط بأخلاقه ومَسلكه وتعامُلاته. في أعراف السامعين؛ يتَّسم الشَّخص الزبالة – ما كان القولُ صادقًا – بأسوأ الصِفات، وإذ تحملُ الكلمة في ذاتها وقعَ السُّباب ووطأته؛ فالغرض أن المَوصوفَ يُماثل في قيمته الفَضلات؛ لا يحتاجها الناس ولا يتمنّون سوى التخلُّص منها.

***

ثمَّة كلامٌ هو بدورِه “زبالة”؛ لا يُعقَل ولا يُستسَاغ ولا يمكن قبوله تحت أيّ عنوان. كلامٌ مُنكَر يؤذي الأذن ويُجافي في مُجملِه الحسَّ السَّليم، ويعمد دون وجه حقّ لإضفاء الشرعية على كلّ ما يأباه العقلُ والمنطق والشعور. الكلامُ الزبالة يخرج عن إطار النقاش الجادّ الرزين؛ يتعذَّر معظم الأحيان الردُّ عليه أو حتى الإنصات لصاحبه، والأفضل أن يتجاهله الواحد ويمضي بعيدًا عنه، يتناساه ويعدُّه عدمًا. كلما تحدَّث رئيسُ الوزراء الإسرائيلي أو ظهر في حوار أو مؤتمر صحفيّ؛ كلما خرجَت من فمّه كلماتُ العنصريَّة والهمجيَّة التي تستوجب ردًّا مباشرًا صريحًا؛ لا في سياق الشَّجب والاعتراض والتنديد؛ بل في صورة فعلٍ ماديّ رادع، يصُدُّ التجاوزات المُفجِعة، ويضع النقاطَ فوق الحروف، ويُعيد ما انفلت من أمورٍ إلى نصابِها.

***

تشهد أماكنُ تجمُّع القمامة في الشوارع والميادين لقطاتٍ مثيرة. ثمَّة صراعاتٌ خفيَّة بين عربات الكارو التي يجرها حمارٌ مَسكين، وتلك ذات المُحركات الهَادرة التي تتبع الأحياء؛ وصراعاتٌ أخرى بين جحافلِ القطط الباحثة في ترفع عما يعجبها، الزاهدة دومًا فيما تكره، وبين قطعان الكلاب التي لا تمانع اقتناص ما يلوح أمامها، فضلًا عن صراعات وجود بين بشرٍ يرغبون جميعهم في التحصُّل على ما يكفيهم شرَّ سؤال المُوسرين، ويحفظ لهم ماءَ الوجوه. الصراعات في مُختلَف مستوياتها تستهدفُ الفوزَ بالغنيمة، والبَحثُ الحثيثُ عما يُؤكَل أو يُستخدَم أو يُباع يمضي على أشدَّه؛ بينما عموم الأحوال في انحدارٍ وتردّي.

إقرأ على موقع 180  لبنان و"حراك الأمم".. من يدفع الثمن الحريري أم باسيل؟

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ماذا يريد عرب الأهواز من الحكومة الإيرانية؟