أسواق لبيع الأوهام.. لكن من يشتري؟

يُقال إن المقياس الذي يقيس به الإنسان الأحداث والأفعال هو الأهم، وعليه تترتب نتائج تدير لعبة الحياة وتتحكم بمساراتها، ولكن منه أيضاً تبدأ الإشكالية، إذ كيف بإنسان لم يتعلم منذ صغره ولم يتدرب في بيئة سليمة على صحة المقاييس من عدمها أن يتعرف على هذا المقياس السوي الذي يقيس به هذه الأحداث والأفعال؟

مع الوقت اختلطت الأمور لديه – الإنسان – وتشابهت عند كبره، ولست في هذا المقام من الذين يبرّرون ذلك، بل من الذين ربما يضعون الأصبع على الجرح.

ما يتم عرضه على شعوبنا من سلام وتطبيع وازدهار يعد في بعض زواياه وخلفياته نوع محاكاة لواقع مرير تعيشه هذه الشعوب ينبىء عن مستوى تفكيرها وما وصلت إليه من الدرك الأسفل على المستويات كافة وما جبلت عليه من تسطيح انبهرت به إلى الحدود القصوى وأضحى بنظرها شطارة وطوق نجاة من ضغوطات الواقع وتحدياته.

فما يقدمه المستعمرون والمستكبرون يتناغم بشكل خبيث مع أحلام مكبوتة لشعوب وجد فيها هؤلاء أرضاً خصبة ليلقوا فيها ما يختارون لها من أفكار ودعايات وشائعات ومشاريع وفبركات وفقاعات إعلامية تصنع محتوى وعي هذه المجتمعات البائسة.

يوم تناسى الناس أو القيمون على صناعة وعيهم أهمية الكلمة التي لها فروع متصلة بلغة السماء تدنست الكلمة وصارت محض أرضية دنية لا أثر فيها ولا نفع، بل سموم تُبثها شياطين السياسة ومن يؤيدهم من شياطين الدين.

كل خذلان وتقهقر وانبطاح واستسلام وخضوع هو خيانة لأنفسنا ومشاركة طوعية في ذبحها ورميها في أحضان الكذب والزور بدل احترام التعبير الأعلى عن وعيها بالحرية والكرامة الرافضتين للأوهام والسالكتين درب القيامة الفعلية التي تأبى عبودية الضمير وانسلاخ الوعي وبيعه في أسواق الأوهام

لذا ترعرع الاستعباد وازدهر سوقه وبلغ بالناس الأمر وبحكامهم عندما التزموا حرفياً بالمقولة المشهورة “الناس على دين ملوكهم” أن وجدوا في عمالة بعضهم والسلام الزائف والتطبيع المزعوم فرصة لزيادة انسحاقهم ومسخ وعيهم أكثر أو لنقل الاستكانة والخنوع باتا مضجعيْن مريحيْن لأناس لم يحترموا عقولهم ولم يؤدوا حق عبادتها في تفكير سوي يجنح نحو تغيير حقيقي في منطلقات هذا التفكير وما فيه من انعكاس على السلوك الفردي والجماعي الذي يؤثر في سير الأحداث ورسم مسارها.

نعم، الإنجيل كما القرآن ركّزا على الحق الذي يدفع بالناس من حكام وغيرهم إلى التقيد به وحفظه بلا خضوع لباطل أو لزيف أو خداع ولا مساومة على حقوق وكرامات ولا مكان فيه لعنصرية وإبادة باسم الدين أو العرق أو أحلام توسعية كبرى لأبناء الله وأحبائه كما يزعمون.

عندما تخلت الأمة عن وحدتها ونصرة قضاياها المحقة ومنها قضية الشعب الفلسطيني المظلوم بات سلب الأرض وقتل الإنسان شيئاً عادياً لا يحرك ضميراً ولا حتى موقفاً مؤثراً وأصبح الصامتون والمتفرجون على القتل والإبادة كثيرين يصفقون لحفلات القتل بالجملة.

باعتقادي نحن في حلقة مفرغة تنتج وهماً فوقه وهم وننشغل بجنس هذا الوهم وكيف نخفف لاحقاً من آثاره على واقعنا فلا مناص من هزة ضمير وصرخة وعي ودهشة تفكير أمام هذا الزيف الصنمي بأسماء كثيرة والذي وجد ويجد مناصرين كثر يقدسونه ويعبدونه بشكل آلي.

المسيح كما محمد جاءا بالحق ولا شيء غيره فلا مواقف ضبابية ولا مهادنة مع الباطل فإما أن تكون أصيلاً تبرز تجليات كلمة الله في نصرة الحق وإقامة العدل وإما أن تكون من المطبّلين للباطل.

عنصران هامان نفتقدهما هما التحرر والإرادة وما دمنا لا نملك هذين العنصرين ونتربى عليهما لن تقوم قيامة الحق في نفوسنا قبل الواقع وستظل الأوهام تتناتشنا من كل الجهات.

تأتي ضرروة إشعال مصباح الوعي وإعلاء الصوت والكلمة ونبذ سياسة الوقوف على التل كي نحمي أنفسنا من أصنام كثيرة تقتات على صمتنا وتفرّجنا وتزحف إلى بيوتنا وضمائرنا.

كل خذلان وتقهقر وانبطاح واستسلام وخضوع هو خيانة لأنفسنا ومشاركة طوعية في ذبحها ورميها في أحضان الكذب والزور بدل احترام التعبير الأعلى عن وعيها بالحرية والكرامة الرافضتين للأوهام والسالكتين درب القيامة الفعلية التي تأبى عبودية الضمير وانسلاخ الوعي وبيعه في أسواق الأوهام.

لا شك أن الانغماس في الوهم هو أخطر من نتائج الحرب المادية كون الوهم يشكل مشروع جرح نازف في وعي الأفراد والشعوب يستغله الشجعون من أرباب السياسة والدين على السواء وفي كل العصور.

نعم، لا عدالة من دون وعي يصنعه الناس العاديون ويعتمدون فيه على قيمين شرفاء يميزون بين الحق والباطل ويطلبون قيامة الضمير الذي يربط بين طريق السماء وطريق الأرض بلا انقطاع وإلا فإن الشياطين سيتبقى تتفنن في أشكال إغرائنا وتزين لنا لبوس العبودية.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  مستقبل العالم بيد أمريكا.. استحالة القيادة المنفردة!
Avatar

باحث وكاتب، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  كتاب عبري يؤرخ لعوالم الحشيشة: إسرائيل ومصر ولبنان!