

سبق احتفالية شرم الشيخ خطابٌ مطوّلٌ ألقاه ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي بلهجة المنتصر والمهدِّد، ولا سيما قوله: «لدينا أسلحة لا يحلم بها أحد، ونتمنى ألا نستخدمها».
لم تخلُ كلماته في إسرائيل من التهديد والوعيد، كما لم تخلُ في شرم الشيخ من الوعود بالسلام والازدهار، من دون تحديد إطارٍ واضح لهذا السلام، علماً أن لغة المجاملات لكل رئيس وفد كانت هي الطاغية على ما عداها في كلمة الرئيس الأميركي.
وإلى جانب اللقاءات الجانبية والاستعراضات السياسية والإشارات اللافتة إلى غياب إسرائيل وقادة السعودية والإمارات، تبيّن أن جوهر الاحتفال لم يكن سوى مذكرة رئاسية (Presidential Memoranda) صادرة عن البيت الأبيض، وقّعها ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني.
المذكرة الأميركية
عنوان المذكرة الرئاسية الأميركية هو الآتي: «إعلان ترامب للسلام والازدهار الدائم».
تستهل المذكرة بالترحيب بالالتزام باتفاقية ترامب للسلام، التي – بحسب نصها – تنهي أكثر من عامين من المعاناة وتفتح فصلاً جديداً في المنطقة عنوانه «الأمل والسلام والرؤية المشتركة للسلام والازدهار». (لكن أين هي هذه الاتفاقية)؟
وتضيف المذكرة أنّ الموقعين يقفون خلف جهود الرئيس ترامب لإنهاء حرب غزة والتوصل إلى سلام دائم في الشرق الأوسط، وسيبذلون جهودهم لتحقيق السلام والاستقرار لشعوب المنطقة، بمن فيهم الإسرائيليون والفلسطينيون. هذا السلام – كما تقول المذكرة – يحقق الازدهار للشعبين بما يضمن الأمن وحقوق الإنسان وكرامته.
كما يؤكد الموقعون إدراكهم الدلالة التاريخية والروحية العميقة لمنطقةٍ احتضنت الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، ويشددون على احترام الأماكن المقدسة وحمايتها، ويعربون عن عزمهم على تفكيك كل أشكال الإرهاب والتطرف، وتوفير التعليم والفرص والاحترام المتبادل كركائز للسلام الدائم.
ويتعهّد الموقعون بتسوية النزاعات المستقبلية عبر التفاوض والدبلوماسية من دون استخدام القوة أو إشعال النزاعات، مدركين أن الشرق الأوسط لا يحتمل مزيداً من دورات العنف أو توقف المفاوضات أو التطبيق الانتقائي لنتائجها.
وتضيف المذكرة أن المآسي التي شهدتها المنطقة خلال السنتين الماضيتين يجب أن تكون حافزاً لتذكير الجميع بأن المفاوضات أفضل كثيراً من الفشل.
وتتابع: «نسعى إلى التسامح والاحترام وضمان تكافؤ الفرص، كي تكون هذه المنطقة مكاناً لتحقيق طموحات الجميع في الأمن والسلام والازدهار الاقتصادي، بغضّ النظر عن المعتقد أو العرق أو الإثنية».
وفي هذه الروحية، ترحب المذكرة بالتقدّم الذي تحقق في إقامة ترتيبات سلام شامل وعادل في قطاع غزة (لكن ما هي هذه الترتيبات؟)، وكذلك في تعزيز علاقات الصداقة والمصالح المشتركة بين إسرائيل وجيرانها.
وتتعهد بالعمل المشترك على تنفيذ هذا “الإرث” والمحافظة عليه، وبناء المؤسسات التي تنشأ فيها الأجيال القادمة.
إلى هنا انتهت المذكرة الأميركية.
لكن، هل نصدّق أن هذا ما وقّع عليه القادة الأربعة وظهر في الإعلام كحدثٍ تاريخي، فيما هو فعلياً لا يحمل أي بندٍ عملي يتعلق بالسلام؟
مقارنة مع الاتفاقات السابقة
إذا قارنا هذه المذكرة باتفاقية كامب ديفيد عام 1978، نجد أن الأخيرة تضمنت بنوداً تفصيلية حول انسحاب إسرائيل واستعادة السيادة المصرية وتسوية الحكم الذاتي في فلسطين.
كما أن اتفاقية أوسلو عام 1993 تضمنت بنوداً واضحة بشأن الأراضي المحتلة، ولا سيما مبدأ «غزة وأريحا أولاً»، ثم الانسحابات اللاحقة وتحديد مناطق النفوذ الأمني.
أما الاتفاق الحالي، فلا يتعدى الأدبيات العامة حول السلام، ولا يتطرق إلى أي بندٍ عملي عن إنهاء الحرب أو انسحاب إسرائيل أو إعادة الإعمار أو تدفق المساعدات.
إنه عرسٌ كبير أقيم بغياب العريس والعروس؛ حضر أولياء العرسان والمدعوون المقربون، فكيف يكون هذا زواجاً وسلاماً دائماً كما يُروّج إعلام ترامب؟
المذكرة الرئاسية
ما هي أبرز الملاحظات على المذكرة الرئاسية؟
- لا تتضمن أي تعهد بحقوق الفلسطينيين، ولا سيما حقّهم في تقرير المصير، الذي ورد في جميع الاتفاقات السابقة على اختلاف أنواعها.
- تغيب الإشارة إلى عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، التي عملت عليها الإدارات الأميركية منذ نصف قرن؛ إذ حُصرت المشكلة في غزة من دون توضيح ماهية “تسويتها”، ولم يرد أي ذكر لحلّ الدولتين الذي يبني عليه ثلاثة من الموقعين آمالهم.
- لا تتضمن المذكرة أي إشارة إلى انسحابٍ إسرائيلي من غزة، ولا إلى جدولٍ زمني أو ضماناتٍ أمنية للفلسطينيين بعدم تجدد النزاع أو وقف الاعتداءات.
- على خلاف الضجة الإعلامية، اقتصر ما جرى فعلياً على تبادل أسرى، بينما بقي نحو 9100 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، واحتلت القوات الإسرائيلية أكثر من نصف مساحة القطاع، وهاجمت في اليوم التالي فلسطينيين وقتلت نحو ثلاثين منهم، ولم تفتح معبر رفح بذريعة عدم تسلم جثامين الأسرى الإسرائيليين القتلى.. وهذه بداية غير مشجعة.
- تغيب أي إشارة إلى ما يُسمى “اليوم التالي”؛ اليوم الذي تُرك مفاجأة للرؤساء الموقّعين: من يحكم قطاع غزة انتقالياً؟ ولِكم سنة؟ ومن هي السلطة وكيف تتشكل؟
- نشرت بعض وسائل الإعلام تفاصيل عن خطة توني بلير لإنشاء “هيئة الإدارة الانتقالية الدولية لغزة” (GITA)، وهي هيئة لا تتبع للأمم المتحدة وتفتقر إلى الشرعية الدولية، ولا تتضمن انتخاباتٍ ديموقراطية لتشكيل السلطة التي تحكم غزة في المرحلة المقبلة.
كما أن هذه الهيئة مقطوعة الصلة بالسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، التي تمتلك مؤسساتٍ إدارية وأمنية وعسكرية لإدارة القطاع، علماً أن سياستها لا تعادي أياً من الموقعين على المذكرة الرئاسية؛ وبالتالي يُمكن القول إن هذه الخطة، في جوهرها، هي شكلٌ جديدٌ من الانتداب الأجنبي المفروض على الشعب الفلسطيني في غزة. - لا تتطرق المذكرة إلى الضفة الغربية والاستيطان والسيادة على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولا إلى الحدود أو الوضع النهائي، وكأن غزة قضية معزولة بالكامل عن قضية فلسطين.
- تغيب عن المذكرة أية إشارة إلى القرارات الدولية، ولا سيما القرارين 242 و338 اللذين ينصّان على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة عام 1967، أو إلى الدولة الفلسطينية وحلّ الدولتين برغم الاعترافات الدولية المتزايدة، مثلما تغيب أية إشارة إلى القرار 194 الذي ينص على حق العودة.
أسئلة غائبة.. وسلام موهوم
ماذا عن لبنان، الذي يعيش حالة حربٍ مستمرة من الجانب الإسرائيلي ووقف إطلاق نار من الجانب اللبناني، فيما تواصل إسرائيل احتلال أراضٍ لبنانية؟
وماذا عن سوريا حيث تحتل إسرائيل، إضافة إلى الجولان، جبل الشيخ وثلاث محافظات جنوبية؟
هذا كله من دون أن نذكر إيران واليمن وسائر الأعراق والقوميات في المنطقة.
فكيف يمكن الحديث عن سلام شامل؟
إنها حملة أو بالأحرى حفلة علاقات عامة قوية، لكنها لا تقدم حلولاً أو تسوياتٍ حقيقية، والخشية أن تكون مقدمة لاعتداءاتٍ إسرائيلية جديدة بأساليب مختلفة، تحت شعار «السلام بالقوة»، أي بالحرب.
ما شهدناه ونشهده حتماً ليس سلاماً.