التوريث السياسي في لبنان.. المقعد النيابيّ منصبٌ عامٌّ أم “مِلْكٌ عائليٌّ”؟

مع اقتراب موعد الاستحقاق النيابيّ في ربيع العام 2026، تتجدّد في المشهد السّياسيّ والإعلاميّ ظاهرةٌ ثابتةٌ، تتجلّى في ظهور جيلٍ جديدٍ من المرشّحين ينتمون إلى صُلْبِ البيوتات السّياسية التّقليديّة، يستعدّون لتسلّم "الرّاية" من الجيل الذي سبقهم. لا يُنْظِرُ إلى هذا الأمر كاستثناءٍ، بل كقاعدةٍ، وكأنّ المقعد النّيابي مُلْكيّةٌ خاصةٌ تتوارثها الأجيال.

لا تتناسب ظاهرة التوريث السياسي مع أبجديّات الأنظمة الجمهوريّة الديموقراطيّة، غير أنها في النموذج اللبناني تُعبّر عن بنية تعود جذورها إلى زمن الإقطاع وتستمدّ شرعيتها اليوم من آلياتٍ معقّدةٍ، أهمّها نظام “الأبويّة المستحدثة” (Neopatrimonialism) وشبكات الزبائنيّة (Clientelism). لذا ثمة سؤال: كيف أصبحت الانتخابات مجرّد طقسٍ شكليٍّ لِشَرْعَنَةِ التّوريث؟ وما هي آليات بقاء “الإقطاع السّياسيّ” حتى اليوم؟

يتجاوز تّحليل المشهد السيّاسي اللّبناني دراسة السّيرة الذّاتيّة للقادة، ليركّز على كيفيّة انتقال السّلطة والشّرعية ضمن الهياكل الاجتماعيّة التّقليديّة. فالزّعامة السّياسيّة هنا ليست بالضرورة وظيفةً كاريزميّةً أو حزبيّةً حديثةً، بل تمثّل نمطاً تقليديّاً يغلب ولاؤه على الولاء الوطنيّ. يفسّر هذا المنظور كيف يتحوّل الدّور القياديّ من كاريزما فرديّة إلى وظيفةٍ بيروقراطيّةٍ-عائليّةٍ. المقعد النيابيّ يُورّث بالمعنى الحرفيّ للكلمة، حتى للأفراد الذين قد يفتقرون للكفاءة والخبرة السّياسيّة. هذا التحوّل يشير إلى أنّ شرعية القائد لم تعد مستمدّة من قدراته، بل من سيطرة العائلة على شبكةٍ واسعةٍ من الموارد والزّبائنيّة. بالتالي، فإن الزّعامة هي في جوهرها واجهةٌ سياسيّةٌ لـ”كيانٍ عائليٍّ سياسيٍّ” يهدف إلى استغلال موارد الدّولة، وليس كياناً يهدف للتّمثيل الشعبيّ.

ولفهم استمراريّة هذه الظّاهرة، يجب إدراجها في إطار النّظام السّياسيّ الأوسع. يوصف النّظام اللّبناني بـ”النيوباتريمونالي” أو “الميراث الجديد”، وهو نظامٌ هجينٌ يدمج التّسلسل الهرميّ الاجتماعيّ التّقليديّ مع المؤسّسات القانونيّة للدّولة الحديثة. في هذا النّظام، تُسْتَخْدَمُ موارد الدّولة بشكلٍ غير رسميٍّ لتأمين ولاء الأفراد. إنّ التّوريث السّياسيّ هو نواة هذا النّظام، إذ تسعى القوى المهيمنة إلى الجمع بين الإثراء الخاص (Kleptocracy) والبقاء السّياسيّ للعائلة. وعندما تصبح السّلطة السّياسيّة أداة لمراكمة الثّروات الشّخصيّة، فإنّ توريث المقعد السّياسيّ يصبح ضروريّاً لحماية هذه الثّروات والمصالح الاقتصاديّة المتشابكة. التّوريث، في هذه الحالة، هو آليّة حمايةٍ اقتصاديّةٍ بامتياز.

منصب عام أم ملكية عائلية؟

ظاهرة التّوريث السّياسيّ ضاربة الجذور في التّاريخ اللّبناني، وتمتدّ إلى ما قبل فترة الاستقلال. تتشابه الأجواء السّياسيّة اليوم بتلك الموجودة في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث لا يزال توارث الإقطاع السّياسيّ قائماً ويشكّل جزءاً مهمّاً من السّياسة اللّبنانيّة. هذه البيوتات التّقليديّة لم تقاوم قيام الدّولة الحديثة، بل أظهرت استراتيجيّة تكيّفٍ لافتةً لضمان استمراريّة السّلطة في أيّ ظرفٍ. فخلال فترات التّحوّل، كانت هذه البيوتات توزّع الأدوار السّياسيّة بين أبناء البيت الواحد لضمان بقاء ممثّل للأسرة في السّلطة أيّاً كان المنتصر. هذا التّكيّف التّاريخيّ يفسّر كيف بقيت البيوتات نفسها مهيمنةً على المشهد السّياسيّ عبر جميع التّحوّلات الكبرى.

التّوريث السّياسيّ ليس عمليّةً عشوائيّةً، بل هو تحضيرٌ ممنهجٌ وإعدادٌ للأرضيّة وتجهيزها للوريث المُنْتَظَرِ لزعامة المنطقة. فبعض الآباء يقدّمون أبناءهم (من الجيل الثّاني أو الثّالث أو الرّابع) عبر خطابٍ يركّز على التّضحية والقيمة العاطفيّة، مثل القول: “أقدّم لكم أغلى ما عندي”. هذا الخطاب الأبويّ يهدف إلى استبدال الشّرعية الديموقراطيّة المفقودة بالشّرعية الموروثة (العائلية والإقطاعية). فهو يبرر حقّ العائلة في المقعد النّيابيّ بتحويل المنصب العامّ إلى مُلْكيَّةٍ عائليّةٍ خاصّةٍ يتمّ التّنازل عنها.

إنّ ما يضمن استمراريّة هذه البيوتات ليس فقط التّاريخ، بل البنية الطّائفيّة والاجتماعيّة التي حوّلت “الولاء السّياسيّ إلى عملةٍ لشراء الخدمات”. في ظلّ التّدهور غير المسبوق في الخدمات العامّة، يصبح الولاء السّياسيّ هو العملة لشراء هذه الخدمات. فالنّظام السّياسيّ يعتمد على تقاطع الكليبتوقراطيّة والبلوتوقراطيّة والزبائنيّة ورأسماليّة المحسوبيّة. الزّعيم السّياسيّ يعمل كـ”المؤسّسة البديلة” للدّولة الغائبة. المواطن يصوّت للوريث ليس اقتناعاً ببرنامجه، بل لأنّه يراه راعياً (Patron) يمتلك النّفوذ لتأمين فرصة عملٍ أو غطاءٍ صحّيٍّ. هذا العقد الاجتماعيّ غير الرّسميّ يضمن استمراريّة مؤسّسة الخدمات العائليّة التي تخدم الزّعيم، مما يجعل التّوريث أمراً حتميّاً لضمان بقاء هذه الآليّة.

الحفاظ على الشبكة الزبائنية

وإلى جانب ذلك، يشكّل النّظام الانتخابيّ المعتمد في لبنان جزءاً أصيلاً من المشكلة. هذا النّظام صُمّمَ ليكون حصصاً بين الطّوائف، ممّا يتناقض جذريّاً مع قواعد التمثيل في الأنظمة الديموقراطيّة. والإشكاليّة الأعمق تكمن في أنّ “من صنع قوانين الانتخاب، هو نفسه الذي ينتخبه المواطن”، ممّا يضمن تكريس وجود المنتخبين ومصالحهم عبر هذا النّظام. هذا التّحايل القانونيّ يشرعن احتكارهم للمناصب، ويؤكّد أنّ التّوريث هو نتيجة نظامٍ قانونيٍّ وهندسيٍّ مصمّمٌ مسبقاً لضمان فشل أيّ محاولةٍ لإفراز نخبٍ جديدةٍ.

وفي كلّ دورةٍ انتخابيّةٍ جديدةٍ، يتّضح أنّ عدد المرشّحين المنتمين إلى البيوتات السّياسيّة ازداد بدل أنْ يتضاءل، حتى بعد الحراك الشّعبي في تشرين/أكتوبر 2019. هذا الإصرار على ضخّ وجوه الجيل الجديد يُمثّل محاولةً لـ”امتصاص” الغضب الشعبيّ، إذ يتمّ تقديم الوريث كوجهٍ شابٍ ومتعلّمٍ قادرٍ على التّكيّف مع التّطورات، بينما يتمّ الحفاظ على البنية التّقليديّة والشّبكة الزبائنيّة التي تضمن الاستمراريّة الهيكليّة للنّظام. لكنّ هذا الجيل يواجه انتقاداتً واسعةً لافتقاده للمقوّمات الأساسيّة للعمل السّياسيّ، من “علمٍ وخبرةٍ وكاريزما وحنكةٍ وقدرةٍ”. وفي نظر النقّاد، فإنّ هؤلاء الورثة لا يضيفون جديداً سياسيّاً، بل “يعيدون إنتاج حقبة رجعيّة ماضويةّ تُعيدنا إلى زمن العشيرة والعائلة”. إنّهم يشكلون “حجر عثرةٍ أمام تطوير النّظام السّياسيّ عبر ضخّ دمٍ سياسيٍّ جديدٍ وفرز نخبٍ شابةٍ جديدةٍ”.

إقرأ على موقع 180  إيران الإلكترونية تكتفي ذاتياً.. و"الحرب" تطال كل منشآتها

وأخيراً، تبقى ظاهرة التّوريث السّياسيّ في لبنان قائمةً وثابتةً لأنّ التّغيير يبدو مستحيلاً في ظلّ حلقةٍ مفرغةٍ من الفشل الهيكليّ المتضافر. يتمثّل هذا الفشل في محاور ثلاثة متكاملة تبدأ بـالفشل السّياسيّ والقانونيّ، حيث يغيب مبدأ المحاسبة وتُصمّم قوانين الانتخاب خصيصاً لتكريس النّخب الحاكمة القائمة. ويتفاقم الوضع مع الفشل الاقتصاديّ المتمثل في نظامٍ ريعيٍّ وكليبتوقراطيٍّ يضمن تدفق الثّروات التي تُسْتَخْدَمُ لتمويل الزبائنيّة وشراء الولاءات. وأخيراً، يكتمل المشهد بـالفشل الاجتماعيّ والثّقافيّ، حيث يتحوّل الولاء الطّائفيّ إلى عملةٍ انتخابيّةٍ فعّالةّ، ما يُعمّق اعتماد المواطن على الزّعيم لضمان نجاته في ظلّ دولةٍ فاشلةٍ. هذا النّظام المستدام يضمن بقاء النّخبة الحاكمة عبر تسخير موارد الدّولة لمصلحتها الخاصة، بينما ينظر اللّبنانيّون إلى وطنهم كـ”غنيمةٍ” يُتَقاتَلُ عليها.

إنقاذ الكيان اللبناني يتطلب كسر صنميّة الاحتكار السياسي الطائفي الفاسد المسيطر، وذلك عبر إعادة بناء مؤسسات الدولة لتوفير الحقوق الأساسية بشكل مستقل عن الولاءات السياسية. هذا من شأنه أن يفقِد الزعيم أداته الرئيسية في تأمين الأصوات لورثته، وبالتالي، تفكيك النظام النيوباتريمونالي من القاعدة.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كامالا هاريس.. الثالثة ثابتة!