

قد يكون للرئيس الأميركي في ضوء محاولته الناجحة لوقف الحرب في قطاع غزة، كل المبررات للشعور بسعادة غامرة وسط كرنفال “عبادة الشخصية” الذي حظي به في القدس المحتلة، لكنه يعرف أنه لم يكن ليُحقّق ما اعتبره هدفه الأول وهو استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، من دون قبول حركة المقاومة الفلسطينية بـ”الصفقة”، ذلك أن تحريرهم بالقوة من ضمن ثلاثية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (سحق حماس وتحرير الأسرى بالقوة وإزالة أي تهديد مستقبلي في غزة)، لم يكن متاحاً برغم سنتي التدمير والإبادة والتجويع.
تدوير الزوايا
يعتمد ترامب والفريق العامل معه في البيت الأبيض نوعاً هجيناً من الدبلوماسية حيث كل العملية تقوم على العلاقات الشخصية المتشابكة وميزان القوى المتحول. وهو لا يجد أنه يتعين وضع الإسرائيليين والفلسطينيين على قدم المساواة في إطار محدد للتفاوض لمصلحة الجانبين، لأنه بكل بساطة قرّر تجاهل الحقوق الوطنية والسياسية الثابتة للشعب الفلسطيني، كما في خطته الإبراهيمية عام 2020، مُفضلاً التركيز على هدف مباشر يتعلق بشعبيته في المجتمع الإسرائيلي حيث بات يوصف بأنه “المخلّص”، وهذا الهدف يتمثل في تحرير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين عند المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، إضافة إلى اعتبارات اقتصادية كفيلة بتدفيع دول الخليج العربية فاتورة الحرب كونها الخزينة المالية التي لا تنضب.
وبفضل شطارته في تدوير الزوايا، يتصوّر ترامب أن بإمكانه تحويل قبول حركة حماس بالمرحلة الأولى من خطته العشرينية إلى قبول شامل ونهائي لكل ما يُبنى عليها. مثلما أنه يعتبر أن الحرب قد انتهت إلى غير رجعة وهو الأمر الذي يعارضه شريكه “العظيم” نتنياهو، تاركاً في جدول “اللوجستيات والطوارئ” كل المسائل التي لا تزال معلقة، ومنها إعادة الإعمار وإدارة قطاع غزة بعيداً عن سيطرة حركة حماس.
هل بين القادة العرب الذين اجتمعوا حول ترامب في شرم الشيخ من تجرأ على سؤاله عن تغطيته العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة؟ ألم يفتح ترامب أفقاً سياسياً لتحالف اليمين المتطرف والصهيونية الدينية في إسرائيل عبر اقتراحه تحويل قطاع غزة إلى ريفييرا وتهجير سكانه الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة التي سارعت إلى رفض ذلك بشدة؟
وكان لافتاً للانتباه تصريح ترامب في الطائرة قبل وصوله إلى إسرائيل، وقال فيه إن واشنطن وافقت على أن تقوم حماس لـ”فترة محدودة” بدور أمني لقمع عصابات الإجرام التي تعيث فساداً في غزة. واستناداً إلى موقع “أكسيوس” فإن الجهود لإطلاق الأسرى الإسرائيليين العشرين الأحياء قادت المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي، إلى عقد لقاء حاسم في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول مع رئيس وفد حماس خليل الحيّة في القاهرة.
ويرى مراقبون في واشنطن أن ثمة فوائد تتأتى من نزوع ترامب إلى التحرر من قواعد الدبلوماسية التقليدية المعتمدة دولياً، كأن يُصار على سبيل المثال إلى الاتصال مباشرة بحركة حماس من قِبل إدارة ترامب، أو تجاوز نتنياهو للتعامل جدياً مع “لعم” حماس التي استندت إلى الاجماع الفلسطيني للتحفظ عن بنود عدة في خطة ترامب.
تغطية الإبادة
على أن قصة “النجاح” الأميركي التي دفعت الأطراف المعنيين إلى الاصطفاف حول ترامب في قمة شرم الشيخ، لا يُمكن أن تُغرِِقْ في بحر التعمية والنسيان، المسؤولية القانونية والأخلاقية عن حرب الإبادة الجماعية والتهجير والتدمير التي شنّتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني أولاً والشعب اللبناني ثانياً، وصولاً إلى العدوان على إيران. هل بين القادة العرب الذين اجتمعوا حول ترامب في شرم الشيخ من تجرأ على سؤاله عن تغطيته العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة؟ ألم يفتح ترامب أفقاً سياسياً لتحالف اليمين المتطرف والصهيونية الدينية في إسرائيل عبر اقتراحه تحويل قطاع غزة إلى ريفييرا وتهجير سكانه الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة التي سارعت إلى رفض ذلك بشدة؟
وإذا كانت واشنطن اضطرت إلى إعادة صوغ مقاربتها الغزاوية تحت وطأة الفشل الإسرائيلي في القضاء على حركة حماس وتهجير سكان القطاع، فإن البيت الأبيض عرف كيف يستثمر في الدينامية الناتجة من تطورين بارزين:
الأول؛ المبادرة الدبلوماسية التي قادتها السعودية وفرنسا من أجل الاعتراف بدولة فلسطين والتي سمحت بكشف عزلة إسرائيل الدولية التي ما لبث ترامب أن استغلها في مداولاته وضغوطه على نتنياهو. وقد تكون هذه المبادرة التي قوبلت بتشكيك أميركي للوهلة الأولى، قد أفسحت المجال للتفكير في مقترحات وصيغ ومسارات عمل أمام إدارة أميركية تحتاج إلى خبرات عملياتية.
الثاني، الضربة الإسرائيلية التي استهدفت وفد حركة حماس التفاوضي في الدوحة، وأثارت صدمة عميقة لدى الحكام العرب خصوصاً في منطقة الخليج. وعلى أثرها جاءت الرسالة المُوجّهة من القمة الدولية والعربية والإسلامية إلى واشنطن وتحمل عنواناً واضحاً: رفض السيطرة الإسرائيلية على المنطقة ولجم السلوك المتهور لنتنياهو.
“حديقة الإمبراطور”
عندها لم يكن من خيار أمام واشنطن سوى العمل لاحتواء مضاعفات الأزمة المستجدة، وكانت الأولوية لإرضاء الحليف القطري “الاستراتيجي”، وإجبار نتنياهو على تقديم اعتذار علني إلى القيادة القطرية، على أن يلي ذلك محاولة إخراج إسرائيل من العزلة السياسية على النطاق الدولي عبر فرض وقف حرب الإبادة والتجويع في غزة، وإفهام نخبة الدولة اليهودية أنها لا تنفك تلعب في “حديقة الإمبراطور” ولا يمكنها بالتالي أن تتجاوز مصالح الإمبراطورية الأميركية لتصبح قوة سياسية مهيمنة في الشرق الأوسط!
وفي هذا السياق، وأخذا بالاعتبار علاقة الارتباط العضوي بين الإمبراطورية ومحميتها، كان طبيعياً أن يطلب الرئيس الأميركي من على منصة الكنيست في القدس العفو عن نتنياهو الذي يخضع للتحقيق القضائي في قضايا من شأنها أن تُودي به إلى السجن. ولم تكن هذه المرة الأولى الذي يتعرض فيها نتنياهو للإذلال على يد ترامب، بعدما فَرضَ عليه وقف النار في غزة والرضوخ لمطالب حركة حماس في شأن عملية تبادل الأسرى.