نقابات المهن الحرة في لبنان.. أداة حقوقية أم طائفية؟

تهدف هذه المقالة إلى كشف الدور الخطير الذي باتت تلعبه نقابات المهن الحرة في تعزيز الانقسام المذهبي والطائفي، وتحويلها من مؤسسات مهنية تهدف إلى الدفاع عن حقوق منتسبيها إلى أدوات سياسية بيد الأحزاب الطائفية. مقاربةٌ هدفها فتح نقاش جريء وإصلاحي يُفضي إلى إعادة النظر في ماهية ودور ووظيفة النقابات.

لم تكن فكرة النقابات في لبنان وليدة الانتداب الفرنسي فحسب، بل ظهرت في أواخر الحقبة العثمانية، حين بدأت التجمعات العمالية والجمعيات المهنية تتوالد لمواجهة ظروف العمل الجائرة والظالمة في ظل غياب أي تشريع يحمي حقوق العمال. جاءت هذه المبادرات في سياق تحولات اجتماعية واقتصادية عديدة، منها التوسع في التجارة، ظهور السكك الحديدية، مصانع التبغ والتنباك، وترافق ذلك مع نشوء طبقة عمالية مسحوقة.

في العام 1911 ظهرت أولى التجمعات النقابية العمالية بين عمّال المطابع وسكك الحديد، الذين نادوا بتحسين الأجور وتخفيض ساعات العمل. كانت هذه الجمعيات تحمل معاني التضامن أكثر من كونها مؤسسات منظمة، ولم تكن تُعرف حينها باسم “النقابة”، لكنها شكلت إرهاصات الحركة النقابية.

وفي ظل الانتداب الفرنسي (1920-1943)، بدأت الدولة بوضع إطار قانوني للتجمعات وكيفية تسجيلها. وبحلول ثلاثينيات القرن الماضي، ظهرت النقابات بشكلها الرسمي، مثل نقابات الصحافة والمحامين والمعلمين. كان الهدف آنذاك خلق توازن اجتماعي في مجتمع بدأ يشهد توسعاً اقتصادياً وتفاوتاً طبقياً. لكن، ولسوء الحظ، بدأ النظام الطائفي، ركيزة الدولة المولودة، يتغلغل داخل هذه النقابات، فتخلّت عن وظيفتها الأصلية وتحولت إلى امتداد جديد للصراع الطائفي السياسي.

حماية حقوق العمّال أم حقوق الطوائف؟

كما ذكرنا، كان الهدف من إنشاء النقابات حماية حقوق العمال وتشكيل سدٍّ منيع في وجه الاستغلال. وقد لعبت دون شك دوراً مهماً في فرض قوانين العمل وتحديد ساعات العمل. لكن بعد نهاية الحرب الأهلية، وتحديداً في تسعينيات القرن الماضي، شهدنا تراجعاً في دور النقابات لصالح الطبقة السياسية التي نشأت بعد ولادة اتفاق الطائف وانهاء الحرب الأهلية.. وبالفعل، سارعت الإدارة السورية من خلال ممثليها في السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى تفريخ عشرات لا بل مئات النقابات، حتى تشظى الاتحاد العمالي وتم تفريخ العديد من نقابات المهن الحرة، بحيث صارت النقابات جزءاً لا يتجزأ من الصراع بين حماة النظام الطائفي من جهة والساعين إلى تغييره من جهة ثانية.

ومع الوقت صار الجميع يُلاحظ كيف أصبحت نقابات كبرى كالمحامين، والمهندسين، والأطباء، عبارة عن أجنحة حزبية طائفية، والدليل ما رأيناه مؤخراً في انتخابات نقابة المحامين، حيث ظهرت التكتلات الطائفية والمذهبية، وشعارات لا تمت بصلة للقانون أو العدالة أو المهنية. ورُبّ سائل هل سنصل إلى مرحلة نشهد فيها ولادة نقابة صيادي سمك السلطان إبراهيم مقابل نقابة صيادي سمك العرموت؟

الانقسام داخل النقابات نفسها

ولا يخفى على أحد اليوم أن الانقسام المجتمعي بات يهدد كل مفاصل الدولة والمجتمع في لبنان، ولم يسلم منه حتى الجسم النقابي، إذ تحولت النقابات إلى مرآة للطوائف والمذاهب، لتدخل بدورها في لعبة الانحيارات والانقسامات السياسية والطائفية، ما يؤدي تلقائياً إلى إضعاف الدولة وهيبتها. أما الخطر الحقيقي، فهو أن النقابات باتت اليوم تُستخدم كحصن قانوني لحماية الفاسدين والمرتكبين، حيث نشهد صعوبة كبيرة في محاكمة محامٍ متورط، أو طبيب أخطأ، أو مهندس لا يستوفي المعايير، وذلك بسبب حماية نقابته له من المساءلة.

للأسف، لم تعد النقابات اليوم تُجسّد القيم الأخلاقية والمهنية التي تأسست عليها، لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نظام المحاصصة الطائفية والزبائنية السياسية. لم يعد للنقابات دور في توفير الحماية الجماعية للمنتسبين إليها، بل باتت جزءاً من دولة منقسمة على ذاتها في الخيارات الصغرى والكبرى على حد سواء. وبالتالي تصبح مهمة إعادة تعريف دور هذه النقابات وكيفية ممارسته واجباً وطنياً وأخلاقياً، وذلك بهدف إعادة الثقة بين المواطن والدولة (الحقوق والواجبات والثواب والعقاب إلخ..)

إن ما جرى في انتخابات نقابة المحامين الأحد الماضي خيرُ دليل على أن النقابة ليست بمنأى عن الانقسام القائم في البلاد، وبدل أن تكون صوتاً للعدالة والقانون، أصبحت رهينة الاستقطاب السياسي والطائفي.

ليس المطلوب اليوم تفكيك النقابات بل المطلوب تفكيك المنظومة الطائفية-المذهبية التي تسيطر على كل شيء في بلدنا من تقديم وتأخير الساعة حتى مياه الشرب المعبأة مروراً بكل تفاصيل حياتهم العامة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  آثار سياسات الحمائيّة على دول الجنوب العالميّ
نجا حمادة

باحث في علم التاريخ، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  آثار سياسات الحمائيّة على دول الجنوب العالميّ