جين بينغ في مئوية الشيوعي الصيني.. تجديد شبابية النموذج
Chinese Vice President Xi Jinping speaks to local athletes at the Olympic Games equestrian venue in Hong Kong on July 6, 2008. Xi Jinping arrived in Hong Kong on July 6 on a three-day trip to monitor the city's preparations for hosting the Olympic equestrian events for the Beijing 2008 Games. AFP PHOTO / POOL / BOBBY YIP (Photo credit should read BOBBY YIP/AFP via Getty Images)

يصح القول في خطاب الرئيس الصيني زي جين بينغ بمناسبة احتفالات مئوية الحزب الشيوعي الصيني إنه خطاب تاريخي بكل معنى الكلمة. لماذا؟

من ناحية، يحيي ذكرى حزب استطاع توحيد الصين التي جزّئها المستعمر الأوروبي في القرن التاسع عشر، كما استطاع نقل الصين من التبعية للغرب والتخلف الاقتصادي الذي أوجده ذلك الاستعمار، ومن وحشية احتلال اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي. لكن من ناحية أخرى، يعرض الرئيس الصيني نموذجاً ناجحاً للنهوض، مختلفاً عن النموذج الغربي، ليس في موضوع التنمية فحسب بل أيضاً في مفهوم العلاقات الدولية.

وفي الحقيقة، يستحق خطاب الرئيس الصيني أكثر من مقال أو وقفة لاستخلاص العبر التي أوردها. سنحاول عرض بعضها في هذا المقال لأنها تعكس الفوارق الشاسعة بين النموذج الصيني والنموذج الغربي المسيطر على عقول النخب العربية بشكل عام واللبنانية بشكل خاص.

زي ماو تسي تونغ

يمكن النظر إلى خطاب الرئيس الصيني من عدة زوايا. فالزاوية الاولى هي عرض لإنجازات الحزب الشيوعي، وهذا أمر طبيعي ومتوقع بينما الشكل والمضمون يشكّلان المفارقة مع خطابات قيادات عالمية أخرى. أما الزاوية الثانية، فهي المقاربة التلقائية لقارئ الخطاب بين أسلوب القيادة الصينية والقيادات الغربية. فمن ناحية، تكلّم الرئيس الصيني بكل ثقة ووضوح وكأنه الحاكم الأوحد، كما تكلّم عن المشاركة لسائر القيادات الصينية ولدور الشعب في تحقيق الإنجازات. والزاوية الثالثة هي منظومة القيم التي تخلّلت مسيرة النهضة الصينية والتي شكّلت مرتكزاتها التي استوعبت واستبطنت عبر الماضي ومقتضيات الحاضر والمستقبل.

كما أن الخطاب مميّزٌ بالشكل والمضمون. فمن ناحية الشكل، خاطب الرئيس الصيني “الرفاق” و”الأصدقاء” في إطار واحد ليعطي بعداً لخطابه أبعد من المنتسبين إلى الحزب والذي يقارب عشرة ملايين منتسب. فالخطاب رسالة أيضاً لأصدقاء الصين وللعالم ما يشير إلى دور النموذج الصيني المعروض على العالم أجمع. كما يدّل على أن الوضع الداخلي في الصين ليس منفصلاً عما يحصل في العالم. من ناحية أخرى، إرتدى الرئيس الصيني زَيَّ ماو تسي تونغ ليعبّر عن ديمومة وليس عن انقطاع مع الماضي حيث إعتبر العديد سياسته انقطاعاً عن المسار الاشتراكي الذي قاده ماو تسي تونغ. وهنا تكمن الميزة الأساسية للخطاب، وهي تبنّي التاريخ الصيني الذي لم يبدأ مع الثورة الصينية بل يعود إلى أكثر من 5 آلاف سنة على حد تأكيد الرئيس الصيني. فخلافاً لـ”الثورات” التي تشكّل نظرياً انقطاعاً مع الماضي، تأتي الثورة الشيوعية الصينية لتحتوي الماضي والتاريخ لما له من عبر.  وهنا تأتي المفارقة مع الأحزاب العربية “الثورية” التي ألغت الحقبة التي سبقت وصولها إلى السلطة، وكأن التاريخ بدأ مع ذلك الوصول!

تجديد الأمة الصينية

في الخطاب الذي تجاوز 5200 كلمة، حرص الرئيس الصيني على ذكر مختلف المحاولات التاريخية للخروج من التبعية للقوى الخارجية ومن التجزئة التي فرضها الاستعمار، فأعطى الحق لحركات الإصلاح التي امتدت على مدى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي فشلت لأسباب عديدة فكان لا بد من “أفكار جديدة” تستعين بها القيادات للخروج من المأزق التي كانت فيه الصين. وهنا كان دور الحزب الشيوعي في إعادة بث الأمل في توحيد الصين ومن ثم نهضتها. هذا درسٌ للنخب العربية أن لا نهضة قبل وحدة الوطن، ولا وحدة وطن قبل التحرّر من التبعية للخارج الذي يعمل على تعزيز الهويات الفرعية لتكريس التجزئة!

ولقد شدّد الرئيس الصيني أكثر من مرّة أن هدف الحزب هو ما يسمّيه إعادة الشبابية للأمة الصينية (rejuvenation) أو ما يُسمّى في دول أخرى بالتجدّد وأن التجدّد لن يأتِ في كنف التجزئة بل عبر الوحدة.

لن تقبل الصين من الآن فصاعداً أن تستمع وتقبل عظات من الذين يعتقدون أن لهم الحق بإلقاء تلك العظات، ويقصد هنا دول الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. وبناء على ذلك، أعلن الرئيس الصيني أن الصين ستزيد من وتيرة تحديث الوسائل الدفاعية

أما الهدف الثاني فهو “سعادة” الشعب الصيني. قد نكون مخطئين ولكن لم نرَ في خطابات قيادات العالم الحرص على “سعادة” الشعب بل الحرص على أهداف أخرى قد تتنافى مع سعادة الشعوب. وهنا يمثل أمامنا الرئيس الصيني ليؤكّد للعالم أن النهضة في الصين كانت نتيجة الوحدة التي قادها حزب ثوري. هذه الفكرة تستحق وقفة منفصلة لأنها تحاكي بشكل مباشر الواقع العربي وأن ما هو صحيح في الصين هو صحيح أيضاً في الوطن العربي. هنا نستذكر المشروع النهضوي العربي والدراسات الاستشرافية لمركز دراسات الوحدة العربية التي شكّلت أرضية المشروع النهضوي العربي وفيها أن التجزئة في الوطن العربي بأشكالها كافة هي سبب التراجع والضعف وان هدف النهضة المنشودة سعادة الانسان العربي، أي بمعنى آخر تأمين مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص للجميع.

الإشتراكية الصينية

النقلة التي حقّقتها الصين لم تكن مُمكنة لولا الثورة الاشتراكية التي اتى بها الحزب الشيوعي. فالاشتراكية الصينية استطاعت القضاء على نظام اقطاعي قمعي استغلالي وفاسد وتابع ما يدلّ على أن الشعب الصيني يستطيع تدمير نظام بائد وبناء نظام آخر يؤمّن الكفاية والرخاء وبالتالي يجدّد حيويته. والاشتراكية التي اتبعت اتسمت بما سمّاه بالخصوصية الصينية، وفقاً لتوصيات المؤتمر الثامن عشر للحزب، والخصوصية القومية برهنت جدواها فحسمت جدلاً عبثياً في طبيعة ومفهوم الاشتراكية لا نريد الخوض فيه في هذه المقاربة. يكفي أن تأكيد الرئيس الصيني على الخصوصية الصينية للاشتراكية المتبعة تعطي حقاً لطرح الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر وفكرته عن الاشتراكية العربية والتي تنكّر لها العديد من “اليساريين” العرب.

إقرأ على موقع 180  دروس غزة: دولٌ "تشيخ".. ودولٌ تزدادُ "برودة"!  

شدّد الرئيس الصيني على دور التاريخ الذي تُستخلص منه العبر. قال إن الحزب الشيوعي درس وتفهم أسباب نهوض وأفول الدول والامبراطوريات واستخلص العبر، وهذه الدروس تتجلّى في أسلوب التعامل مع الشعب ومع الدول. من هنا نفهم أسس السلوك الصيني على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي الهدف الأساسي هو “سعادة” المواطن الصيني، ومن هذا المنظور نفهم مثلاً الإجراءات التي تتخذها السلطات الصينية بحق الشركات الصينية العملاقة الخاصة في ميدان التكنولوجيا التي تحاول أن تتخلّص من قبضة الدولة. فهذه الإجراءات هي لكبح الممارسات الاحتكارية لأن الاحتكار يقوّض الإبداع.. والإبداع ضرورة حيوية للتقدم ورفاهية المواطن. وهنا نرى المفارقة مع النموذج الغربي حيث الأولوية هي لإرضاء المساهم وليس المواطن وربما على حساب الأخير. المهم هنا هو أن الاشتراكية المتأثرة بالخصوصيات الصينية تسعى إلى نمط تنموي بأبعاد متعدّدة: المادي، السياسي، الثقافي، الأخلاقي، الاجتماعي، وأخيراً البيئوي. هي نظرة متكاملة استفادت من تجارب الماضي وبنت خططها من الواقع وليس من الافتراضات النظرية.

النموذج الخارجي.. والندية

ما لفت نظر المراقبين الخارجيين هو مقاربة الرئيس الصيني للبعد الخارجي للنموذج الصيني. وهذا البعد الخارجي هو نتيجة اعتزاز بتاريخ عريق يعود إلى 5 آلاف سنة وبإنجازات الحزب خلاب المائة سنة الأخيرة. وهذه الإنجازات لا ولن تمنع من الاستفادة من تجارب وثقافات شعوب أخرى تسعى الصين إلى نسج وتوثيق علاقاتها معها. لكن، وهنا نقطة الفصل، لن تقبل الصين من الآن فصاعداً أن تستمع وتقبل عظات من الذين يعتقدون أن لهم الحق بإلقاء تلك العظات، ويقصد هنا دول الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. وبناء على ذلك، أعلن الرئيس الصيني أن الصين ستزيد من وتيرة تحديث الوسائل الدفاعية (هنا يجري التركيز على الوسائل الدفاعية وليس الهجومية لأن لا طموحات صينية للهيمنة).

لن تسمح الصين لأي دولة ولأي قوة أن تضغط عليها لإجبارها على تغيير أهدافها وسلوكها وأن من يحاول ذلك سيصطدم مع 1.4 مليار صيني

هذه الملاحظة البالغة الأهمية هي اعلان استقلال الصين عن التبعية للقوى الخارجية، وأتت هذه الملاحظة تتويجاً لمواقف بدأت تظهر في الأشهر الماضية حيث أبدت الصين مواقف أكثر جزماً (assertive) رافضة للخضوع للمشيئة الأميركية. والولايات المتحدة تتهم تلك المواقف بـ”العدوانية” لأنها ترفض الهيمنة الأميركية. بات ذلك واضحاً في محادثات انكوراج في ولاية الاسكا في شهر آذار/مارس 2021 وفي المحادثات مع نائب وزير الخارجية الأميركية ويندي شرمان. فالأخيرة طلبت التفاوض مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، فكان الرد أن مرتبتها لا تؤهلها إلا للتفاوض مع نظيرها الصيني نائب وزير الخارجية له يو تشنغ. بالمناسبة، تتماهى هذه المواقف الصينية مع مواقف القيادة الروسية في ما يتعلّق بمطالبة وتطبيق الندّية في التعامل معهما.

تحصين الصين بالوحدة

الندية المعلنة تتكامل مع الدعوة والرغبة والعمل على توثيق العلاقات مع الدول المحبّة للسلام لتحقيق التقدم والرفاهية للجميع. فسعادة الشعب الصيني مرتبطة بالتعاون مع شعوب العالم. ليس هناك من سعي لتحقيق “رسالة” أو فرض منظومة قيم على الآخرين. وهنا تظهر المفارقة مع سعي الغرب وخاصة الولايات المتحدة لفرض منظومة نظم وقيم تعتبرها عالمية بينما هي بالفعل خاصة بمجتمعاتها وتهدف فقط إلى فرض السيطرة والهيمنة على العالم. التعاون من منظور صيني هو لإنتاج ربح للجميع بينما يقين العلاقات بالنسبة للأميركيين مبني على قاعدة اللعبة الصفرية حيث هناك غالب ومغلوب. الصين تريد أن تربح جميع الدول والشعوب بينما تريد الولايات المتحدة الهيمنة.

شدّد الرئيس الصيني في خطابه على أن لا طموحات خارجية للصين وأن الصين لم تضطهد الشعوب خلافاً لما قامت وما تقوم به دول أخرى، وبالتالي لن تسمح الصين لأي دولة ولأي قوة أن تضغط عليها لإجبارها على تغيير أهدافها وسلوكها وأن من يحاول ذلك سيصطدم مع 1.4 مليار صيني!

تعمل الصين على تحصين أمنها بصورة شاملة وهي مهمة تتطلّب المزيد من الوحدة والتوازن الداخلي، ويجب أن تستكمل بتوحيد الشعب الصيني في كل من هونغ كونغ وماكاو وتايوان. ما زال إلتزام الصين بمبدأ شعب واحد في نظامين يثير في وعينا مقولة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن لبنان وسوريا شعبٌ واحدٌ في دولتين. الصين ستستمر في العمل من أجل التوحيد التدريجي السلمي ولن تسمح للقوى الخارجية بالعبث في ذلك الهدف.

Print Friendly, PDF & Email
زياد حافظ

باحث؛ كاتب إقتصادي ـ سياسي؛ وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والإجتماعي

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الفوضى الخضراء.. الجغرافيا السياسية الجديدة للطاقة (1)