عندما تتحطم التماثيل.. تسقط الأسطورة والفكرة

في خضمّ التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها العالم العربي خلال العقود الأخيرة، برزت مشاهد إسقاط التماثيل وتمزيق الصور وإزالة الشعارات الرسمية كأيقونات بصرية بالغة الدلالة، لا تعبّر فقط عن غضب جماهيري آني أو انفجار انفعالات مكبوتة، بل تكشف عن تفكك منظومة رمزية وسياسية تمّ تشييدها عبر سنوات طويلة من تعبئة الوعي الجمعي وتوجيهه.

لم يعد سقوط التمثال يعني مجرّد تحطيم قطعة معدنية أو حجرية، بل بات يمثل الذروة الدرامية لانهيار سردية السلطة، وسقوط هندسة رمزية كاملة كانت بمثابة العمود الفقري لشرعية الأنظمة الشمولية. فمشهد هدم التمثال ليس لحظة عابرة داخل التاريخ السياسي العربي، بل هو لحظة انكشاف؛ انكشاف للفراغ خلف جدار الأسطورة، وللسياسة التي قامت على صناعة القائد أكثر ممّا قامت على بناء المؤسسات.

وما يمكن تسميته بـ”صناعة القائد” لم يكن مجرّد تفاعل عفوي بين السلطة والمجتمع، بل عملية تتسم بالتعقيد والدقة، اسْتُخْدِمَتْ فيها أدوات الدولة الحديثة من إعلام، وتربية مدرسية، وفنون بصرية، وطقوس جماهيرية، وأجهزة أمنية، بهدف إنتاج نموذج القائد الذي يتجاوز صفات البشر إلى مرتبة الأسطورة. فالزعيم في العديد من الأنظمة العربية لم يقدَّم بوصفه رئيسًا أو حاكمًا، بل بوصفه نبوءة سياسية، وضرورة تاريخية، وضمانة لوجود الدولة نفسها. هكذا ارتبط الأمن بوجوده، والاستقرار بحكمه، والتنمية برؤيته، والشعب بولائه الشخصي له. عملياً، تم استبدال دولة المؤسسات بالقائد بوصفه رمزًا وفكرة ومركزًا وجوديًا، ما أدى إلى تحويل الوطنية إلى ولاء شخصي، والمواطنة إلى امتياز مشروط برضا الحاكم.

تحطيم تمثال صدام حسين في بغداد عام 2003

في هذا الإطار، يمكن فهم كيف تمّت هندسة شخصية القائد عبر نصوص مدرسية تعيد تشكيل الذاكرة الوطنية، وخطاب إعلامي يُضفي عليه صفات ما فوق البشر، واحتفالات جماهيرية تُظهره مركزًا للكون السياسي. وما دامت هذه الرمزية متماسكة، بدا النظام صلبًا لا تهزّه الأزمات. إلا أنّ هذه القوة الظاهرية تحمل في أساسها عنصر هشاشة بنيوية؛ فكلما ارتفع البناء الرمزي للشخص – القائد، تقلصت قدرة الدولة على العمل بمعزل عنه، وزادت إمكانية انهياره بفعل أي صدمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية.

تبدأ عملية الانهيار، داخل المخيال الاجتماعي ذاته؛ إذ تحدث لحظة الانفصال الرمزي، حيث يبدأ التناقض بين الصورة المروّجة للقائد وبين معاناة المواطن اليومية. مع الوقت، لا تجلب الشعارات الطمأنينة، ولا الخطب تُلهب جذوة الأمل، ولا الوعود تقنع الواقع، بل تتآكل القدرة التعبيرية للرمز. هذه اللحظة ليست دائمًا صاخبة، بل قد تكون صامتة وممتدة في الزمن، لكنها تقوّض الأساسات العميقة التي يقوم عليها النظام. هنا، لا يعود القائد هو التجسيد السامي للأمة، بل يتحول إلى مرآة تعكس إخفاقات المرحلة، ويصبح التمثال تذكيرًا مرئيًا بما صار التاريخ يريد تجاوزه.

وعندما تبلغ هذه اللحظة ذروتها، تنتقل الأزمة من مستوى الرمز إلى مستوى الجسد المادي، فتتحول التماثيل والصور إلى أهداف مباشرة للغضب الجمعي.

إنّ مشهد إسقاط تمثال أو حرق صورة لا يعني العودة إلى لحظة بدائية من العنف، بل هو إعلان صريح عن نهاية فصل أسطوري في العلاقة بين السلطة والمجتمع. أما القائد الذي قُدِّم لسنوات بوصفه شخصية استثنائية فيصبح فجأة جسدًا هشًّا، يمكن لمطرقة أو حبل أو حذاء أن يزيل عنه هالة القدسية..

لكن السقوط لا ينتهي عند حدود الصورة؛ بل يفتح الباب على سؤال أكثر خطورة: ماذا بعد انهيار الرمز؟

تمثال حافظ الأسد محطما في إحدى المدن السورية عام 2024

في الأنظمة التي بُنيت على شخص القائد، لا يكون السقوط حدثًا بصريًا فقط، بل أزمة مؤسسية وانكشافًا لغياب البدائل. ففي حالات معينة، أدى غياب الرمز إلى انهيار الدولة نفسها، كما في العراق بعد 2003، أو إلى انفجار صراعات محمومة حول من يحقّ له وراثة الرمز، كما في ليبيا. بينما شكّلت التجربة التونسية نموذجًا مختلفًا، حيث استطاع النظام الانتقال إلى ما بعد الرمز دون انهيار مؤسسات الدولة، لأن صور زين العابدين بن علي لم تكن مرتبطة بمنظومة رمزية مطلقة بقدر ارتباطها بمرحلة سياسية قابلة للاستبدال.

تمثل هذه اللحظات دعوة لإعادة التفكير في طبيعة السلطة العربية، لا بوصفها سلطة بلا مؤسسات فقط، بل بوصفها سلطة تستثمر في الخيال الجمعي أكثر مما تستثمر في القانون والسياسات العامة، وإذا كان إسقاط التماثيل يُعلن نهاية مرحلة، فإنّ السؤال الأكثر عمقًا لا يدور حول سقوط الرمز، بل حول كيف يمكن بناء فضاء سياسي جديد لا ينهض على شخص واحد، بل على عقد اجتماعي حيّ ومؤسسات مستقلة؟

في الخلاصة، تحطيم التماثيل في العالم العربي ليس لحظة انتقام، بل لحظة استعادة للفضاء العام من قبضة الصورة الواحدة. إنها لحظة تستعيد فيها الجماعة حقها في إعادة إنتاج المعنى، وفي إعادة تعريف السلطة بوصفها علاقة تُبنى على المشاركة لا على القداسة، وعلى المؤسسات لا على الأبوة السياسية. وعندما تُسْقَطُ التماثيل، لا يسقط القائد فقط، بل تسقط أيضًا الفكرة التي تقول إنّ التاريخ لا يُكتب إلا بيد رجل واحد.

إقرأ على موقع 180  دوامة الديون الأميركية.. ووهم احتواء الصين!

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الحرية، الهوية.. والثورة التي لا تهدأ (2)