الإشتباكات الدولية والإقليمية أكثر من أن تحصى وتعد. لنركز على الإشتباك الأميركي ـ الإيراني. دولتان لا تريدان الحرب، والشواهد كثيرة في الشهور الأخيرة، لكأن الدولة العميقة في الولايات المتحدة، باتت تفضل حروبا من نوع آخر. حروب لا تزج فيها عسكرها ولا تبدد ميزانياتها.
في الأمن، أخذ مايكل داندريا على عاتقه أن ينجح بمهمته الإيرانية كما نجح في تنفيذ مهمات كثيرة من قبل، وحتما هو أخفق في بعضها الآخر. هو ليس صانع سياسات بل منفذ عمليات. المشرف الأول على عمليات الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه” في إيران والمعروف بإسم “آية الله مايك” أو “الملاك الأسود” أو “أمير الظلام”، وجد نفسه هذه المرة في مواجهة مباشرة مع قائد “لواء القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني. يستخدمان كل ما ملكت أيديهما من أوراق مستورة أو مكشوفة. يتقنان لعبة حافة الهاوية. هل يمكن أن تنزلق أبعد من ذلك أم تبقى ضمن مربع عض الأصابع ومن يصرخ من الوجع أولاً؟
هذا في الأمن، لكن ماذا في السياسة؟
تشي المعلومات من مصادر متعددة، محلية وخارجية، أن واشنطن وطهران تخوضان مفاوضات غير مباشرة منذ أشهر عدة، عن طريق أكثر من عاصمة إقليمية ودولية. عليكم أن تدفعوا أكثر مقابل إتفاق نووي جديد. قالها الإيرانيون، فماذا يمكن أن يعطي الأميركي للإيراني أكثر مما أخذ في الإتفاق الأول، وماذا يمكن أن تقدم إيران للأميركيين في المنطقة؟
في هذا السياق، يمكن إستعراض مجموعة وقائع بصورة مكثفة. إتفاق إيراني إماراتي متعدد الأبعاد، يُخرج الإمارات من اليمن جزئيا ويشمل الإفراج عن أموال وتبادل معتقلين ومعلومات والتنسيق في أمور عديدة، أبرزها أمنية. تبادل رسائل إيرانية سعودية. خرق في جدار الحصار الخليجي لقطر. وزير خارجية قطر يزور سراً الرياض. وفود سعودية وحوثية تتبادل الزيارات بين صنعاء والرياض بالتزامن مع الحديث عن بدء العد العكسي لإنتهاء حرب اليمن. مسؤول ملف الشؤون الخارجية في سلطنة عمان الوزير يوسف بن علوي المتعدد المهام يزور واشنطن. أدوار كويتية وعُمانية على خطوط متعددة، تؤدي كلها إلى طهران. إجتماعات فرنسية أميركية بريطانية متتالية يخصص معظمها لملف إيران. الرسائل الخليجية والغربية إلى النظام السوري تتوالى. وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو يتصل مؤخرا بالمدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم ويبدي إستعداده لفتح قنوات مع سوريا مشروطة بملفات محددة. دمشق ترد: لا قنوات أمنية سرية بل علنية ومن دولة إلى دولة.
السؤال الأول الذي يتبادر إلى أذهان كثيرين: كيف نقول إن الإشتباك الإيراني الأميركي قائم، وفي الوقت نفسه، نشهد مثل هذه الوقائع المعاكسة؟
عندما إستهدف الحوثيون بالمسيرات المفخخة، قلب السعودية النفطي (حقل بقيق)، في أيلول/سبتمبر الماضي وأقلقوا حركة سفن الشحن النفطية في الخليج، من دون أن تحرك واشنطن ساكناً، بدا أن الإيرانيين ربحوا بالنقاط هناك، كما في اليمن، وهم يتقدمون بالنقاط على الأميركيين في سوريا والعراق ولبنان، وفي المقابل، إنبرى من يردد “لا يُعوّل على واشنطن”، وهو لسان معظم حلفاء الولايات المتحدة في الخليج.
قابلية التفاوض ونبذ الخيار العسكري
في السياسة، تفرض موازين القوى إما وقائع جديدة أو تقود إلى مفاوضات. مسألة التوقيت فرضت نفسها. ما هي مصلحة دونالد ترامب في التوصل إلى إتفاق مع الإيرانيين قبل موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية في خريف العام 2020؟ هل يفيده التوصل إلى هكذا إتفاق قبل الإنتخابات أم أن القضايا الأميركية الداخلية أكبر وأعقد من أن تؤثر في ميزانها الوازن توجهات خارجية (الإتفاق النووي نموذجا)؟
يسري الأمر على الإيرانيين. أيهمُ أنسب لهم. إتفاق مع ترامب قبل الإنتخابات أم بعدها أو مع من يأتي محله إذا خسر. مع ترامب الآن، فإذا ربح يكون مضمونا وثابتاً وإذا خسر يكون مهدداً ورجراجاً؟ وماذا يضير إذا بدأنا المفاوضات مع ترامب ولا نبرم الإتفاق معه إلا بعد الإنتخابات مباشرة؟ الإحتمالات كثيرة، ولكل منها حساباته في عقل الإيرانيين، كما عند الأميركيين، لكن المشترك الأبرز بينهما، قابلية التفاوض ونبذ الخيار العسكري.
لا يختلف عادل عبد المهدي في العراق عن ميشال عون في لبنان. الأول هو نتاج تسوية قبل بها الأميركيون والعراقيون، وأفسحت المجال أمام بديل للموقع الشيعي الأول من خارج نادي حزب الدعوة التقليدي الذي أمعن في نهب العراق منذ العام 2003 حتى الأمس القريب. الثاني هو نتاج تسوية فرضها الإيرانيون على الأميركيين، بعد إقفال القصر الرئاسي اللبناني لأكثر من سنتين.
تندلع الإحتجاجات في العراق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، تليها إحتجاجات مماثلة في بيروت بعد حوالي الأسبوعين. الأسباب متوفرة وكثيرة في العاصمتين، وبالتوازي، يندلع حراك غير مسبوق بحدته وإتساعه في إيران. عنوانه واضح أيضا: زيادة كبيرة ومفاجئة في أسعار الوقود، بنسبة مئتين في المئة خلال يوم واحد.
أُربك الإيرانيون برغم أنهم كانوا قد تلقوا تقارير تتضمن معلومات متضاربة من جهات متعددة، فهل كان هذا أو ذاك من الحراكات الثلاثة متوقعاً؟
لنتحدث عن بيروت. ضابط لبناني برتبة كبيرة جدا ينصح المقربين منه في ربيع العام 2019 بسحب ودائعهم من المصارف اللبنانية قبل حلول تشرين الثاني/نوفمبر 2019. مصرفيون كبار يطلبون من أبرز مودعيهم سحب ودائعهم في الصيف الماضي. سفيرة الولايات المتحدة في بيروت تقول لأحد الوزراء السياديين في حكومة سعد الحريري السابقة (2016 ـ 2018): من حظك ألا تكون عضوا في حكومة (تألفت في مطلع العام 2019) لن تعمر طويلا وتنتظرها أياما صعبة. ثمة مصارف لبنانية غير مجهولة الغايات (وكذلك محلات صيرفة) تورطت في شهر أيلول/ سبتمبر، وما تزال، في لعبة الضغط على الليرة.. فجأة تُرجأ عملية البدء بالتنقيب عن الغاز من كانون الأول/ديسمبر الحالي حتى العام 2020.
ماذا تقول هذه الوقائع اللبنانية؟
وفق زوار واشنطن، فإن خيار اللاحرب لا يعني الإنسحاب من الساحات. الإخلاء ـ في مرحلة الإستعداد للتفاوض أو التفاوض غير المباشر ـ يجعل الإيرانيين يراكمون المزيد من الإنجازات. لا بد من الإشغال. هذا الأمر يربك الإيرانيين وحلفاءهم في المنطقة. لذلك، لا بد من إستثمار أي معطى في هذه الساحات، من دون الإخلال بقواعد الإشتباك.
هل ينزع هذا الأمر المشروعية عن أي من هذه الحراكات؟ حتما لا.
الأسباب تشي بأن نزول الناس إلى الشوارع والساحات قد تأخر، لكن السؤال هل أدى تعامل حلفاء إيران مع المشهد المستجد والصادم إلى إعطاء مفاعيل عكسية؟
قد يكون الجواب مبكرا، لكن العديد من الوقائع تبرز ليس الإرباك وحسب، بل تقديم ما من شأنه تسهيل الإستثمار الخارجي، بينما كان بالإمكان حدوث العكس. لا يسري ذلك على معادلة محاربة الفساد التي تم تصويرها كخطر إستراتيجي على لبنان، وفجأة صار حلفاء إيران في طليعة المتهمين بـ”حماية الفساد والفاسدين”، بل وعلى معادلة الإستقرار اللبناني وحماية السلم الأهلي وموقع لبنان الإقليمي، وكلها عناوين يفترض أنها تعني حزب الله ويحرص عليها.
لكل منطقته وبيئته!
زاد الطين بلة عندما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر أنه “إذا ذهب البلد إلى الفوضى، يمكن أن يأتي وقت لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تدفع فيه رواتب وينهار الجيش والقوى الأمنية وإدارات الدولة ويخرب البلد، لكن أنا أؤكد لكم أن المقاومة ستظل قادرة على دفع الرواتب”.
هذه الجملة وحدها كانت كافية لنبش مخاوف وخرائط ومشاريع. هل يُدان فقط رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وكل من أعطى إشارة إلى بناء ذلك “الجدار” ـ الرمز في نفق نهر الكلب في ذلك المساء الخريفي الممطر؟ كيف نُفسر أن يبادر وليد جنبلاط إلى تحرير الأراضي الزراعية في الشوف وعاليه وحاصبيا وراشيا تمهيدا لزرعها بالحبوب وينظم إحصاء لتحديد العائلات الدرزية الأكثر فقرا تمهيدا لتأمين معونات غذائية شهرية والتكفل بتأمين المازوت للمدارس الرسمية في فصل الشتاء، فضلا عن إجراءات أخرى للطلاب الجامعيين، وربما إجراءات موازية في الأمن لحماية بيئته؟
كيف لنا أن لا ندرك أن “القوات” رسمت “الخطة باء” لإقفال مناطقها، والتعامل معها أمنياً وإجتماعياً وأنه من حق سليمان فرنجية أن يخاف على جماعته، فتكون أولويته حماية البيئة الزغرتاوية من اي إختراق تحت أي مسمى كان؟ هل يضع حزب الله في الحسبان “إقفال” مناطقه، أمنياً وإجتماعياً؟
لم تُرفع الخرائط عن الطاولات في المنطقة، وما ينتظر سوريا في الأسابيع المقبلة، يشي بأيام صعبة، ولن يُفاجأ أهل النظام السوري إذا كانت شرارة أي حراك شعبي إحتجاجا على الأوضاع الإجتماعية وتردي سعر صرف الليرة السورية، إنطلاقُ تظاهرة في طرطوس أو اللاذقية، وعلى الحوثيين أن يتأهبوا منذ الآن لما سينتظرهم من تحديات إجتماعية وإقتصادية وإعمارية ـ إذا إنتهت الحرب ـ قد تزلزل الأرض تحت أقدامهم، فيقبلون عندها بما لم يقبلوا به في الميدان.
أما العراق، فله خرائطه في أدراج من يعيدون ترسيم خرائط النفوذ الدولي والإقليمي في المنطقة. ثمة أسئلة بسيطة: هل يحتاج تنفيذ صفقة القرن إلى تهجير كتلة مليونية فلسطينية جديدة من الضفة والقطاع إلى غرب الأنبار، وهل هناك من يريد للعراق أن يكون عراقاً سنيا أو كرديا أو شيعيا متصارعين، وهل سيكون التفتيت هناك ممراً للتفتيت في سوريا وإيران وهل يكون لبنان بمنأى عن ذلك؟
الحراك الشعبي في لبنان، كما في العراق، كان أجمل من أن يصدقه أغلبية المنخرطين به، لكن ذلك لا يجب أن يجعل أهل الحراك يغفلون عما يدور من حولهم، وكذلك حال القوى الحريصة على وحدة مجتمعاتها وسلمها الأهلي.
“لقد تحولت منطقة الشرق الأوسط، “إلى أرض اختبار للجغرافيا السياسية الأميركية. هناك تم استخدام تقنيات “الفوضى المضبوطة” (التي يمكن السيطرة عليها) و”الحرب الهجينة” للمرة الأولى على نطاق واسع”، والأمثلة كثيرة، يقول نيكولاي باتروشيف، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي، ومنها تلك الخرائط التي سلّمها إياها نظيره الإسرائيلي يوسي كوهين بحضور نتنياهو، وتحدّد بالألوان، الكيانات الفيدرالية الجديدة في كل من سوريا والعراق ولبنان.