مثالي، طوباوي، نرجسي، أصولي… ايريك بسباوم، المولود في العام 1917 في مدينة الإسكندرية في مصر لأب بريطاني وأم نمساوية، انتقل إلى فيينا بعد وفاة والده ليعيش مع والدته، ويتابع دراسته في برلين، قبل أن تنتقل عائلته إلى لندن سنة 1933 .
انضمّ إلى الحزب الشيوعي الإنكليزي، وهو في سن الثامنة عشرة (في العام 1935)، وظل ماركسياً حتى آخر أيامه (توفي في العام 2012)، أطلق عليه لقب مؤرخ ثورات القرنين التاسع عشر والعشرين.
قبل وفاته بثلاث سنوات، كتب “رسالة إلى العالم” نشرتها صحيفة “الغارديان” البريطانية، أدان فيها “مذابح غزّة على يد الجيش الإسرائيلي المستمر في الهجوم على فلسطين منذ 60 عاماً”. وأسّس مع مثقفين يهود بريطانيّين هيئة “أصوات يهودية مستقلّة”، أعلنت تمايزها عن إسرائيل واعتبرت أن الانتماء اليهودي يمكن أن يكون غير عنصري ومعادياً لإسرائيل في الوقت نفسه.
هوبسباوم الحالم الدائم، عازف ماهر لموسيقى الجاز، وله دراسات وكتاب مطبوع في هذا المجال، وآخر عن الترابط بين الجاز والمقاومة والاحتجاج. صارت لهذا المؤرّخ شهرة واسعة من خلال رباعيته: “عصر الثورات”، “عصر رأس مال”، “عصر الإمبراطوريات”، “”عصر التطرُّفات: القرن العشرون القصير”، “الإمبراطورية، الديموقراطية، والإرهاب”، “الأمم والقوميات”، “مقاومة الناس العاديين”، “الكابتن سوينغ”.
يقول هوبسباوم في مذكراته: “شاهدتُ بأُم عيني زوال الإمبراطوريات الاستعمارية وهي تنهار الواحدة تلو الأخرى.. شاهدتُ دولاً عظمى تتفكّك وتتراجع إلى مصاف الدول الثانوية في العالم. شاهدت انهيار الرايخ الثالث الألماني الذي كان يتوقَّع أن يخلد ألف سنة، كما شاهدتُ انهيار سلطة ثورية كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أنها ستخلد إلى الأبد. ولا أراهن كثيراً على أنّني سوف أشهد نهاية “العصر الأميركي” لكن بوُسعي أن أقول واثقاً، ومن دون أن أجازف بارتكاب خطأ، بأن بعض قرّاء هذا الكتاب سوف يشهدون زوال ذلك العصر”.
الكاتب أمير طاهري (إريك هوبسباوم والربيع العربي، الشرق الأوسط، 7 أكتوبر 2012)، وهو من المهتمين بكتابات هوبسباوم، والذي التقاه أكثر من مرة في لندن، ينقل عن صاحب كتاب “عصر التطرّفات” قوله: “حسناً، حتى الآن لم أكن أستطيع أن أزعم سوى أنني مصري المولد. أما الآن، فيمكنني أن أقول إن قلبي مصري”، وكان ذلك خِلال الأيّام الأولى للثورة المصرية، حيث كانت الأنظار متّجهة إلى ميدان التحرير. وفي إطار استشرافه لمستقبل هذه الثورة ونظيرتها، أرهَصَ هوبسباوم إلى أنّ “نجاح ثورة أو فشلها لا يمكن أن يقاس بنتائجها السياسية المباشرة وحدها، إن حقيقة أن المجتمعات العربية أظهرت أنها تمتلك إمكانية وقدرة العمل الثوري تعد نجاحاً في حد ذاتها”، ويمكن للثورات في المنطقة العربية الإسلامية أن تنتهي إلى “فشل سياسي مبدئي، لكنها بالتأكيد سوف تلهم الأفكار الإصلاحية على المدَييْن المتوسط والبعيد”.
حركات التمرد/الإحتجاج
يرصد ايريك هوبسباوم الحركات الإجتماعية من زاوية مغايرة لما درج عليه المؤرخون، بحيث يحرص على مقاربة تخالف النمطية السائدة بأن حركات التمرد مجرد هوامش لحركة التاريخ. ويرى أن هذا النهج التقليدي في مقاربة النزعات التمردية خاطئ، داعيا الى دراسة أكثر عمقا لطبيعة تلك الحركات بأفقها السياسي والاجتماعي وصولا إلى وضعها في الإطار التاريخي المناسب. وفي هذا الصدد، يركز المؤلف على ان هذه الحركات وان كانت تعد خارجة على القانون فهي متعددة بالشكل والأسلوب ولكن مضمونها واحد.
يرصد ايريك هوبسباوم الحركات الإجتماعية ضمن مقاربة تخالف النمطية السائدة بأن حركات التمرد مجرد هوامش لحركة التاريخ
هنا يفرق هوبسباوم بين نوعين من حركات التمرد. الأولى، عصابات مسلحة تبحث عن كيفية الثأر من الأغنياء ورموز السلطة، والثانية، عصابات أكثر تطورا ذات قوة دفع اجتماعية تبحث عن التغيير والإصلاح.
يشرح المؤلف ان العناصر التي تشكل حركات التمرد تنتمي الى عالم ما قبل السياسة على حد وصفه، وهو عالم تسود فيه لغة الانتقام والثأر الجماعي من دون رؤية واضحة واهداف محددة، الأمر الذي يستجلب الحنين الى العالم القديم الذي كانت تسوده قيم العدل والانصاف والوطنية.
بلغة تحليلية، يشير الكاتب الى ان تلك الحركات البدائية ليست ساكنة، بل هي في حالة تفاعل مستمر للوصول الى درجة اعلى من النضج. ويعزو نظرته هذه إلى ان تلك الحركات امامها طريقان لا ثالث لهما: التحلل والهزيمة أو التحول التدريجي الى الثورة.
الطريق إلى الثورة يشترط توفر الأفق السياسي والاستراتيجي والأسلوب التنظيمي، أما قدرة تلك الجماعات البدائية على الاستمرار في حركيتها، فيعتمد بالدرجة الأولى على مقدرتها على استغلال الظروف السياسية الاقتصادية والاجتماعية لمصلحتها.
يشرح الكاتب ان التفريق بين الظلم الاجتماعي والاقتصادي من جهة وبين القهر السياسي والثقافي والمعنوي من جهة ثانية، ضروري لفهم نشأة التمرد/ الإحتجاج ككل. ومن خلال هذا التفريق، يمكن للباحث الاستنتاج ان تلك الحركات لا تتمتع بدعم وتأييد العناصر الخاضعة للظلم الاجتماعي والاقتصادي فقط، بل غالبا ما تجد دعما من الأوساط الطبقية التقليدية التي تعيش هاجس الغزو الخارجي لأنماط حياتها ونظام قيمها، ويخلص هنا إلى انه في كثير من الأحيان سنجد تعبيرات وصياغات ذات طابع ديني تختلط بالخطاب التحريضي الذي تتبناه تلك الحركات.
ويشير ايريك هوبسباوم إلى ان قائد حركة تمرد ما، يجد نفسه في موقع ريادي تبعا لحادثة شخصية حصلت في الماضي. فالخروج على القانون يكون مع وقوع اضطهاد من رجل شرطة او رجل سلطة على سبيل المثال، او في حالة الجماعة عندما يصدر حكم قاس غير عادل (مثل الضرائب غير المبررة). عندها يدفع هذا الحدث الشخص الى التحدي والتمرد. في كتابه، وبمادة تاريخية باذخة، يرسم الكاتب صورة لهذا القائد تحاكي “روبن هود”، الشخصية الانجلوساكسونية التي ترمز للصراع الطبقي بين الفلاحين المتمردين والإقطاع الظالم والمستبد.
يقارب الكتاب شخصية التحركات الإحتجاجية وليس الأفراد، مفصلا المركبات المكونة لحالات التمرد الجماعية، مترجما العوامل النفسية الفردية حين تتخطى الواحد لتصبح جامعة ومحركة للمجموعات، مطلقا عليها مصطلح “Social Banditry”. وهو ما صاغه بإسهاب في كتابه الأخر بعنوان “Banditry”. في هذا المؤلف، اثار هوبسباوم الكثير من الجدل في الدوائر الأكاديمية لناحية الرومانسية التحليلية تجاه المتمردين.
في طبعات الكتاب اللاحقة، أعاد هوبسباوم شرح موقفه قائلا “ان رأيه في هذه الحركات المتمردة ليس صائبا بالمطلق، لكنه يؤكد مركزية روبن هود في الوجدان التمردي”.
ومما يساهم في ترسيخ نموذج “روبن هود” في شخصية الحركات التمردية هو ما تقوم به تلك الجماعات من سرقة ونهب أموال الأغنياء وتوزيع الغنائم على الفقراء (مثال تكسير محلات باتشي في بيروت وطرابلس في شمال لبنان وهي محلات للشوكولا مملوكة من الوزير اللبناني محمد شقير). ومن ناحية أكثر دراماتيكية، يعتبر الكاتب ان اللجوء الى العنف والرغبة في القتل يكون تحت شعار “الدفاع عن النفس” و”الثأر”. ثم يشير الى ان اللحظة المفصلية في هذه الشخصية هي تحول “المتمرد البدائي” الى “مجرم” مما يتيح للسلطة تقويض مكانة التحرك التمردي، الأمر الذي يؤدي الى فقدان التعاطف من قبل الناس.
ما يساهم في ترسيخ نموذج “روبن هود” في شخصية الحركات التمردية هو ما تقوم به تلك الجماعات من سرقة ونهب أموال الأغنياء وتوزيع الغنائم على الفقراء
إلا أن الخيانة والوشاية يظلان الأساس في سقوط القادة أو “روبن هود” كما يشير هوبسباوم، هؤلاء تتم تصفيتهم وقتلهم. وقد قدم الكاتب قصة قائد العصابات التشيكية (Nikola Shuhaj) الذي كان يقوم بعمليات السلب والنهب مقتبسا المانفستو الشهير له “نحن ننشط للثأر من عدم العدالة والظلم. ونأخذ الثروات التي سرقوها من الناس”.
وإستنادا الى المادة التاريخية لبعض القادة منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، يتناول هوبسباوم حركة التمرد البدائية في الجنوب الإيطالي، ويشرح كيف يتمتع القائد بحامية شعبية وقفت امامها السلطة الإيطالية عاجزة عن القبض على المتمردين او تصفيتهم (في لبنان يخلق النظام الطائفي بيئة الحماية)، ما أضاف قيمة لموقع القائد تصل الى حد وضعه في مصاف نصف الآلهة وبقدرات خارقة. من هؤلاء الزعيم الإيطالي انجيليليو (1760 ميلادية) الذي قيل انه كان يمتلك خاتما سحريا يصد طلقات الرصاص الموجهة اليه! هم خارجون عن القانون بعيون السلطة واساطير بعيون الشعب، وبالتالي، هم مصدر غنى للفولكلور الشعبي.
عامة الناس تشارك في ظاهرة تحرك اجتماعي مطلبي وتمردي يكون عادة مدفوعا بالعاطفة وليس بالعقل
يغوص الكاتب أكثر في المركبات النفسية للمتمرد. يحاول الإجابة على أسئلة ما تزال محط جدال عنيف عند كل حدث او حراك او ثورة. ما الذي يدفع الناس الى التمرد؟ وكيف يمكن اخماد النزعة التمردية؟
يجيب ان عامة الناس تشارك في ظاهرة تحرك اجتماعي مطلبي وتمردي يكون عادة مدفوعا بالعاطفة وليس بالعقل. وأن التجمهر والتمرد الجماعي يزيد من الهيجان العاطفي مستقطبا تعبيرات وخطابات مناسبة للشخصية المتمردة. عملية تدوير ذاتية للطاقة التمردية اشبه بالتكنولوجيا الحديثة لتدوير الطاقة الشمسية. في النهار وفي عز الضوء، تمتلئ بطاريات التمرد لتفرغ في المساء، وهكذا. من يملأ البطارية الثورية هو الشعور بأن التغيير يحصل ولا بد من المشاركة فيه. لهوبسباوم رأي لا لبس فيه تجاه الحركات التمردية: الحراك الشعبي لا قدرة له على تغيير النظام وحده. له فقط أن يصنع الشعور الوهمي للمقهورين بأن التغيير ممكن.
(*) كتاب “المتمردون البدائيون: دراسات في أشكال بدائية اتخذتها الحركات الاجتماعية في القرنين التاسع عشر والعشرين”، 1959. 174 صفحة.
(Primitive Rebels: Studies in Archaic Forms of Social movement in the 19th and 20th Centuries)