مفاوضات لبنان.. هل يجوز مقارنتها بصلحي الحديبية وبريست ليتوفسك؟

ننطلق في هذا المقال من مبدأ يقول إن المفاوضات اللبنانية مع العدو الإسرائيلي لتطبيق قرار مجلس الامن ١٧٠١، بوساطة أميركية، وما سيليها من مفاوضات قد لا تُفضي إلى إعطاء "إسرائيل "، العدو الوجودي، صك استسلام وشرعية وجود، بل يُفترض أن نتحصن برؤية مختلفة.

تخوض المقاومة اللبنانية صراعاً سياسياً ـ دبلوماسياً قاسياً خلال المفاوضات مع “إسرائيل”، وذلك في زمن تفرق فيه العرب “أيدي سبأ” حيث يلهث حكّامهم وبعض أصحاب القرار في هذه العاصمة أو تلك وراء سراب نعيم التطبيع والاعتراف بالكيان الغاصب للأرض العربية المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان؛ لعل هؤلاء الحكّام يريدون الاعتراف بالهزيمة المادية والمعنوية والنفسية التي أصابتهم وتغلغلت في أعماق نفوسهم، فأصبحوا هباء منثوراً لولا صمود المقاومة في لبنان.

إن بعض اصحاب القرار في لبنان يُنظرّون في مجالسهم الخاصة إلى أهمية ما يُسمى “الحل السلمي” المفترض مع “إسرائيل” من دون فهم لا حركية الناس، ولا سيما أبناء الجنوب، ولا حركية مقاومة تسعى للتقليل من الخسائر في زمن التطبيع والتخاذل الشاملين، وهي مقاومة تتبنى استراتيجية رفض الاحتلال، مُعتمدةً تكتيكات ذكية تنطلق من استراتيجية رفض الوجود الصهيوني، في تناغم قلَّ نظيره بين التكتيك والاستراتيجية.

ثمة اعتقاد أن المقاومة تعتمد في حركتها على الوقت، وعلى عدم الهرولة للحصول على الجزء في مقابل خسارة الكل، وعلى عدم قبول الشروط الإسرائيلية المذلة، وعدم تجاهل انحياز الطرف الأميركي المطلق إلى “إسرائيل”.. وكل هذه العناصر تتطلب من المقاومة جهوداً جبارةً وسياسةً مرنة ومناورة محسوبة في زمن لا تستطيع فيه خوض الحرب الشاملة ضد “إسرائيل”، بل ربما الفوز بالنقاط في معركة قد تستمر عقوداً من الزمن.

إننا ذاهبون إلى مفاوضات لبنانية-إسرائيلية غير مباشرة، لن تنتهي إلى اعتراف بشرعية الإحتلال أبداً، فالعلم الإسرائيلي لن يُرفع في سماء بيروت حتى لو ارتفع في سماء كل العواصم العربية من المحيط إلى الخليج، لأن بيروت كانت وستبقى عصيّة على التطبيع

إن بعض أصحاب القرار في لبنان لا يريدون أو في أحسن الأحوال لم يوفقوا في إطلاق حركة رفض للحلول التي تُفرض على لبنان تحت السقف المبدئي للثوابت التي تحفظ سيادة لبنان كي يُحصّنوا الموقف اللبناني الرسمي من الانتهازيين، فبدل بعث حركة رفض تتناغم مع موقف المقاومة المناور، نرى بعض أصحاب القرار السياسي وأبواقهم يتوزعون كالآتي:

-إما أصحاب عبارات فضفاضة ملتهبة داعمة للمقاومة ضد العدو وهي في النهاية لا تقدم وتؤخر ولا تُساعد في مفاوضات ولا تُغني عن مقاومة.

-وإما مُهلّلين لهذه “المفاوضات” التاريخية ويتباهون في مجالسهم الخاصة بتشبيهها بصلحي الحديبية وبريست ليتوفسك، من دون فهم عميق لما جرى تاريخياً ولما يجري حاضراً.

لم يعقد صلح الحديبية في آذار/مارس ٦٢٨ بين شعب معتدى عليه وبين كيان معتدٍ مغتصب، بل كان بين أبناء الأمة الواحدة؛ بين النبي محمد وبني قومه الذين لم يؤمنوا بنبوته، فكان صلح الحديبية، فاعترفت به قريش وبالدولة الإسلامية وبحق المسلمين في زيارة البيت العتيق في مكة وفي اقامة شعائر الحج على الطريقة الإسلامية. فكان أن قويت شوكة المسلمين، ما مكّن النبي محمد من الدخول إلى مكة بعد سنتين بعشرة آلاف مقاتل واخضاع قبيلة قريش..

أما صلح بريست ليتوفسك الذي وقّعه السوفيات في آذار/مارس ١٩١٨، بتوجيه من الزعيم الشيوعي فلاديمير إيليتش لينين – على الرغم من معارضة رفيقه تروتسكي الذي اقترح إعلان انتهاء حالة الحرب وتسريح الجيش واعادة الجنود إلى بيوتهم من دون توقيع الصلح من جهة  وبرغم معارضة الشيوعيين اليساريين الذين أيّدوا استمرار الحرب الثورية من جهة ثانية – فكان أن وُلِدَ هذا الصلح المذل بين أمتين تاريخيتين هما الدولة الألمانية التي فرضت شروطها على السوفيات، والتي كانت تضيف إليها شروطاً جديدة كلما تباطأ السوفيات بالتوقيع عليها، والدولة السوفياتية الفتية التي أقامتها الأمة الروسية (ثورة 1917).. فقرر لينين قبول الصلح، وقاتل من أجله، على الرغم من وصفه له بالصلح الفظ والمهين، واستطاع لينين إلغاء هذا الاتفاق المذل بعد أشهر لم تتجاوز التسعة، أي في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩١٨، فحفظ بذلك الدولة السوفياتية واستعاد سيادتها على كل أرضها.

إننا ذاهبون إلى مفاوضات لبنانية-إسرائيلية غير مباشرة، لن تنتهي إلى اعتراف بشرعية الإحتلال أبداً، فالعلم الإسرائيلي لن يُرفع في سماء بيروت حتى لو ارتفع في سماء كل العواصم العربية من المحيط إلى الخليج، لأن بيروت كانت وستبقى عصيّة على التطبيع؛ عاصمة للثقافة؛ عاصمة للكفاح؛ عاصمة للكتاب؛ بيروت هي أم الشرائع، بيروت عاصمة الطموح والمستقبل الواعد، بيروت ليست مقاومة بل هي المقاومة؛ بيروت تبقى بيروت إذا استطاعت أن تنجو من فخ المفاوضات، فوضعنا الآن يختلف عن وضع النبي محمد في صلح الحديبية كما يختلف عن وضع لينين في صلح بريست ليتوفيسك..

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لبنان رهينة "عصابة الـ 14"!
تمّام عصام نور الدين

صحافي لبناني مقيم في باريس

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ملاحظات على الورقة الفرنسية: 25 عاماً إلى الوراء