فلسطين: صفقةٌ وتصفيقٌ وصفاقة!
A Palestinian man walks next to a wall with graffiti showing U.S. President Donald Trump with a footprint on his face and Arabic that reads, "For al-Quds (Jerusalem) and the right of return we resist," in Gaza City, June 23, 2019.- Israel will attend an upcoming conference on the economic aspects of Washington's peace plan aimed at resolving the Israeli-Palestinian conflict, Foreign Minister Israel Katz has said. The June 25 and 26 gathering will see the unveiling of the economic aspects of the US initiative spearheaded by President Donald Trump's son-in-law Jared Kushner. (Photo by Majdi Fathi/NurPhoto via Getty Images)

تمر صفقة القرن على الشعوب العربية كخبرٍ عاديٍّ من الأخبار المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وكأنَّ الناس سئمت سماع كل جديد عنها. حتى التضامن و" الترندات" الشاجبة تبدو فعل مبدأ لا حركة وجدان، أو أنها مجرّد موجة استنكارٍ لأن الاستنكار واجبٌ لتحديد الاصطفافات فحسب، لا للمباشرة بحراك حقيقيٍّ يساهم عملياً في إجهاض هذه "الصفاقة" وتعريتها.

كيف يُعقل أن تكون صفقة القرن في بنودها أخطر من وعد بلفور اللعين، ولا نشهد سوى تحركات خجولة على الأرض هنا أو هناك؟

فلسطين التي عُلّقت شمّاعة في الكثير من الخطابات، استهلك البعض الحديث عنها لمجرد الحديث، ونظم الكثيرون الشعر فيها لمجرّد النّظم، لا بل كتب بعضهم الكتب فيها لمجرد الكتابة أيضاً، وهذا غير مستبعد عند شعوب عربية بات أغلبها يعبد المظهر ويكفر بالجوهر.. ولذلك لم يعد مستغرباً أن نسمع خطاباً رناناً عن القدس والأقصى وفلسطين، في حين يعمل مُلقي الخطاب نفسه خلف الكواليس، أو حتى علناً، كي يطبّع مع العدو، ويحل القضية الفلسطينية بأقل ضرر ممكن على مصالحه.

وللتطبيع أوجه ومعايير، منها أن تساهم في تحقيق الغايات التي يسعى لها العدو حتى تستحيل القضية الفلسطينية معها أمراً هامشياً، فتساهم في تسعير الخلافات المذهبية، وتكريس الواقع الطائفي، والسعي إلى استلاب عقول الناس، وتعزيز إضعافهم على صعدٍ شتّى، حتى يغدو العاقل منهم فاقداً للأمل يائساً، والضعيف منهم تابعاً تستهويه الشعارات، دون أن يستفزه الواقع لمعرفة سبل تطبيقها… فتُجند كلتا يداه لحمل اليافطات، ويجند لسانه لترديدها، وقد يجند جسده ودمه للعمل بها فعلاً، ثم تأتي الطعنة من الخلف، سياسيةً محض، أو اقتصاديةً محض! طعنةٌ سببها إما الجهل، وإما التآمر، وإما تزاحم الأولويات. أما من يحدد الأولويات، أو ما يحدّدها، فكلٌّ وفق مصالحه أو أيديولوجيته.

هكذا تذوب القضية ذوباناً على أرض الواقع. يموت الوجدان. لا بل أكثر من ذلك، يتحرك للتعبير عن الملل من كل ما يتعلّق بها. ثمّ من عين الملل تخرج المواقف الانهزامية المستسلمة، أو تلك التي تسعّر خطاب النصر حد المبالغة الكبيرة… والموقفان يكادان يكونا في نهاية المطاف صورتين لمشهد واحد: اهل فلسطين وحدهم، لا بل بالأحرى بعضاً منهم، ومعهم قلة من الخلّص أصحاب الضمائر الحيّة، حافظوا على وجدان يتفاعل بألم وأمل، وعلى عقول تؤمن بيقين بأن قضية فلسطين هي قضية الدول والشعوب العربية بأكملها، فإن ماتت انتهت الدول، وإن عاشت استفاقت.

في ظل هذا الواقع، يأتي الإعلان عن صفقة القرن. يحاول ترامب أن يصوّرها الإنجاز الأعظم في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وبوابة الانفراجات في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تخرج بعض الكتابات من الصحافة الإسرائيلية لتلمّح بأن الصفقة تأتي في غير وقتها، وفي أنها تعقد في سياق الانتخابات الأميركية، صفّق بعض العرب لها، وبكل صفاقة روّجوا لفوائدها!

لا عجب من أن المفاهيم تبدلت، فالاستسلام أضحى في ذهنية البعض سلاماً، والسلام خيرٌ وأبقى، وأنه لفي الصحف الأولى! أي خير وأي صحفٍ تمجّد صفقاتٍ يعقدها جانبٌ واحدٌ من طرفي الصراع!  لا عجب في أنَّ المناخ التطبيعيّ يزدهر، فالتطبيع خيارٌ كان مطروحاً منذ بدايات الصراع العربي الإسرائيلي، ثم توسّع بفعل المصالح السياسية والتجاذبات الإقليمية. لكن العجب أن ينظر البعض فعلاً للكيان الصهيوني بوصفه حضارة! فيما ينظر البعض الآخر لتحرير القدس بمجرد كونه أمراً الهياً غيبياً.

لعلّ المشكلة اليوم، عند جيل الشباب خصوصاً، تكمن في جهلهم لعمق الصراع العربي الإسرائيلي، فمعظهم لا يدرك التطورات التي سبقت وعد بلفور، والأهداف التي جعلت من أجلها فلسطين وطناً لليهود، كما أنه لا يدرك حجم الاطماع الإسرائيلية وأهدافها، ولا يدرك حجم الويلات التي لحقت بالأمة بفعل تأسيس هذا الكيان الغاصب.

الإدراك عندهم مبنىّ إما على أسس ميتافيزيقية أو وفقاً لمعايير سطحية يأخذونها من الإعلام المضاد. وفي حين يوسع الإعلام الغربي من الدعاية التي تصور العرب كمتخلفين فقط أو كـ”مخربين”، لا يبدو الإعلام المقاوم مضطلعاً بدوره التثقيفي الشامل، على قدر قيامه بدوره كناقل للواقع ومناصر لمبدأ المقاومة.

لماذا مثلاً تغيب عن هذا الإعلام الدعايا التي تركز على بعض الدراسات الهامة كتلك التي أجراها مركز “بيو” الأميركي للأبحاث الاستقصائية، الذي نشر في تموز/يوليو عام 2019، أن حرية الاعتقاد الديني في إسرائيل مماثلة لتلك الموجودة في دول مثل السعودية، وأن إسرائيل من بين الدول العشرين الأكثر تقييداً لحرية الدين (اعتقاد وممارسة) حول العالم! وأنها تحتل المرتبة الخامسة في العالم بـ”العداء الاجتماعي على خلفية الأعراف الدينية”، والسادسة عالمياً في “التوترات والعنف بين الأديان المختلفة”! لماذا لا تنتشر أخبار من قبيل أن  إسرائيل أعلنت في أيار/مايو من العام 2017 عن عملية تثقيف للتلاميذ في المدارس يتم خلالها عرض تمثيلي لإعدام شاب فلسطيني بإطلاق الرصاص نحوه وهو ملقى على الأرض، أو إطلاق كلاب جائعة على شاب فلسطيني لتمزيق جسده، وأنه في يوم العلاقات بين الشرطة والمجتمع بدأ تنفيذ العملية أمام مئات من التلاميذ في المنتزه البلدي في مدينة رمات هشارون قرب تل أبيب!

إقرأ على موقع 180  أخطر 75 يوماً في عهد بايدن

هذه الصور اللاحضارية لهذا الكيان لماذا لا يصار إلى “عملقتها”؟!

لا يبدو الإعلام المقاوم مضطلعاً بدوره التثقيفي الشامل، على قدر قيامه بدوره كناقل للواقع ومناصر لمبدأ المقاومة

ثم هل تجرى دراسات كافية لمعرفة أنماط التدين الموجودة في الكيان الصهيوني؟ ماذا عن التيار اليهودي الإصلاحي؟ ألم يهاجم بنيامين نتنياهو منذ بضعة أعوام حاخامات ونشطاء من التيار اليهودي الإصلاحي  بسبب إدخالهم كتب توراة إلى باحة حائط المبكى؟ ألم تنقل الاخبار أن من شأن استمرار تهجمات اليهود الحريديم والمتدينين الأرثوذكس على أتباع التيار الإصلاحي أن يصعد النزاع المذهبي داخل اليهودية، وخاصة بين الكيان الغاصب ويهود أميركا الذين ينتمي أكثر من 85% منهم إلى التيار الإصلاحي؟ ألم يؤيد 55٪ من المستوطنين فتح المحال التجارية يوم السبت بحسب آخر الإحصاءات، و56% أيدوا الزواج المدني؟ ماذا عن حركة المؤرخين الجدد؟ أين أصبحت حركتهم اليوم؟ ماذا عن المقالات المناهضة للصهيونية؟ لماذا لا يتم تظهيرها.

لقد كتب الصحافي الإسرائيلي يوسي كلاين على سبيل المثال مقالاً في نيسان/ابريل عام 2014، في صحيفة “هآرتس” يقول فيه: “المتدينون الوطنيون خطيرون. إنهم أخطر من حزب الله. إنهم أخطر من السائقين الذين يدهسون والبنات مع المقص. ماذا يريدون؟ الاستيلاء على الدولة وتنظيفها من العرب. وطنيتهم الدينية وطنية متطرفة مغلفة بالخوف من الخالق. إنها تتغلغل في جهاز التعليم وتتعزز في الجيش وتؤثر في المحكمة العليا”…

ألم تضطر حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى الشروع بمخطط بناء منطقة مختلطة للصلاة في أحد جوانب حائط البراق بالبلدة القديمة في القدس المحتلة إرضاءً لبعض لبعض التوجيهات الدينية الجديدة…

ثمة معلومات كثيرة يجب أن تدرس عن التحولات في الداخل الإسرائيلي، وأن يصار إلى تكثيف إبرازها في العلن، لأن دراسة التحولات والمفاصل الدقيقة في الحياة العامة داخل الكيان الصهيوني من شأنها أن تقدم لنا مواد باستطاعتنا استثمار ها بقوة في إطار التأكيد على المشروع المقاوم.

 ربما أتبع صفقة القرن بعض الإهمال، أو التصفيق من هنا، أو كثيراً من الصفاقة من هناك. ربما يتقاعس الوجدان العربي عن نصرة هذه القضية، لكن جزءاً من الشعب الفلسطيني سيبقى يقاوم ولن يتعب بسهولة، وسيظل يستنهض الهمم مهما تخاذلت الأمم لأن ” شعباً يقاتل من أجل اغتصاب أرضه لا يتعب بسهولة.. أن يتابعوا الحرب ولا يتعبوا أسهل عليهم منا نحن”، كما قال دايفيد بن غوريون عام ١٩٣٨… وقد أصاب!

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ترامب يورّث بايدن "البركان" الإيراني