“يبقى الإعلام المسؤول الشريك لنا في العمل على رفع منسوب الوعي والتثقيف للحدّ من انتشار فيروس الكورونا”… قد يكون هذا الكلام لوزير الصحّة العامّة اللبناني حمد حسن الجملة الوحيدة المفيدة، من بين كلّ ما صرّح وغرّد به منذ تسلّمه مهامّه في 21 كانون الثاني/يناير الماضي. وهذا الإشراك لوسائل الإعلام في معركة الصمود والتصدّي لفيروس الكورونا بنسخته الجديدة المعروفة بـ”كوفيد-19″، ليس مردّه، بالتأكيد، لوعيٍ بدور وأهمية الإعلام من قِبَل وزيرنا الذي عاجل الفيروس الصيني وزارته الوليدة بالضربة القاضية. بل هو جزء من الحملة التي بدأها الدكتور حمد حسن ضدّ وسائل التواصل الاجتماعي (خالِطاً بينها وبين وسائل الإعلام) كي “لا يتحوّل مفبركو الإشاعات ومنظّرو العلوم إلى أبطال في عالمهم الإفتراضي، يُرهِبون من دون رحمة أو حساب”. ومن خلال هذه التعابير الإنشائية لتظهير تأثير هذه الوسائط السلبي على المواطنين، كان الوزير يناشد الوسائل الإعلامية اللبنانية مُحِقّاً (هذه المرّة) للعب دورها الذي غيّبته المؤسسات الإعلامية، المحطات التلفزيونية بخاصّة، بداعي أنّ الكلام عن الصحّة والبيئة والتربية والتوجيه يهجّر الإعلانات (ما تبقّى منها؟) والجمهور و…المال. لذا أصبح إعلام لبنان لا يلعب دوره بل دور غيره، وهنا بيت القصيد. كيف؟
أعاد قدوم فيروس كورونا إلى بلاد الأرز المنكوبة التداول بأخبار ثلاث فضائح، هي: الأولى، عمقُ الضحالة والعجز وعدم الكفاية لدى الشخصيات التي تشغل مواقع القرار وتتولّى السلطة في لبنان؛ الثانية، العيوب البنيوية في السياسات الصحّية المتّبعة مدعومة بالتواطؤ، بين أهل السلطة وأصحاب المستشفيات الخاصّة، لضرب مؤسسات الإستشفاء الحكومي؛ الثالثة، نقص المهارات والكفايات المهنية لدى الإعلاميّين والصحافيّين اللبنانيّين لمواكبة تطورات وحيثيات تفشّي الوباء في البلاد، بحيث تبيّن كم إنّ غياب الإعلام الصحّي (غير الموجود بالأصل) كان مدويّاً، بالأمس كما اليوم كما غداً ودائماً.
ولمن لا يعلم نذكّره، بأنّ الصحافة اللبنانية قد عرفت، عبر تاريخها، أربعاً وأربعين دورية متخصّصة بالطبّ والصحّة، من ضمنها ثلاث بالفرنسية وواحدة بالإنكليزية، ولقد توارت كلّها مع الزمن، لتبقى على شكل أخبار حدثية، من هنا وهناك، وتقارير ميدانية تبرز إلى الواجهة “غبّ الطلب”، ومع تفجّر أحداث صحّية أو بيئية كبيرة. أمّا في الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، فحضور “الصحّة”، رسالةً ومضموناً، ليس فعل تواصل وتنمية، كما هو مطلوب، عادةً، بل إنّه حضورٌ يخضع لقانون العرض والطلب، أيضاً وأبداً، ومتى احتاجت الإذاعات والتلفزيونات إلى الدعاية والتسويق والاستعراض واستجداء المساعدات سبيلاً.
هذا ما حصل البارحة، عندما انطلقت حملة إعلامية (تحت هاشتاغ “خلّيك بالبيت”) عبر مقاطع فيديو شخصية لبعض الإعلاميّين والفنانين ووجوهٍ معروفة، تطالب اللبنانيّين بـ”النأي الاجتماعي” وبعدم الخروج من منازلهم كإجراء وقائي وحيد، بهدف التخفيف من انتشار وباء الكورونا المسجِّل إصاباتٍ بنسبة 30 في المئة يومياً في لبنان. وبحسب عمليةٍ حسابية بسيطة أجرتها إحدى الشاشات المحلية، سيصيب الوباء خمسمئة وثمانيةً وعشرين شخصاً في لبنان، بحلول 20 آذار/مارس، أي بعد شهر، بالتمام والكمال، على ظهور أوّل إصابة بالكورونا لدى سيدة لبنانية عائدة من إيران.
الإعلام اللبناني الفخور بنفسه، وبحجم الحرية والوعي الذي يتمتع بهما، إنّما هو يجهل أبسط أصول ممارسة الإعلام الصحّي، ويقف منذ زمنٍ طويل عند حدود هذا الجهل
بظلّ سوء التدبّر والوقاية الذي يتأكّد باضطراد لدى الجهات اللبنانية المعنية مباشرةً بمكافحة الكورونا، قد تكون هذه الحملة الإعلامية الدعائية مفيدة، لكنّها بمفهوم استراتيجية المواجهة الإعلامية لا تساوي شيئاً. فالإعلام اللبناني الفخور بنفسه، وبحجم الحرية والوعي الذي يتمتع بهما، إنّما هو يجهل أبسط أصول ممارسة الإعلام الصحّي، ويقف منذ زمنٍ طويل عند حدود هذا الجهل. لماذا؟
إذا كانت الصحّة مطلباً إنسانياً واجتماعياً تسعى البشرية جمعاء لتحقيقه، أفراداً ومجتمعات ودولاً، وأحد أهمّ المعايير التي تضعها المنظّمات والهيئات الدولية لتحديد درجة الرفاه الاجتماعي لأيّ مجتمعٍ من المجتمعات، فإنّ الإعلام الصحّي له الدور الأساسي في هذا الإطار. إذْ تقع على عاتق هذا النوع المتخصّص في الإعلام، مسؤولية رسْم سياسة إعلامية صحّية، ووضْع استراتيجيةَ مواجهة للمشاكل والقضايا الصحّية المتنوّعة، لتمنح المواطنين، أفراداً وجماعات ومؤسّسات، التوعية التثقيفية اللازمة، بهدف المساهمة من تقليل نِسَب الإصابات بالأمراض ومن نِسَب الأخطاء العلاجية، ربّما. ودور الإعلام الصحّي لا يبدأ عندما تقع الواقعة، فنرسل مراسلاً يغطي انتشار الوباء، كما يغطي انفجاراً أو حريقاً أو اجتماعاً أو تظاهرة…، بل وظيفة هذا الإعلام وإعلاميّيه يجب أن تبدأ قبل ذلك بكثير. فالإعلام الصحّي يتّخذ صفة المُدافع عن مستقبل الحياة السليمة والمعافاة والنظيفة والمرتاحة على الأرض، لذا نراه يركّز (عند غيرنا من البلدان) على الحسّ بالمسؤولية والتشجيع على المبادرات الإنقاذية والحضارية، ولا سيّما مع تنامي المخاطر المهدِّدة للصحّة والحياة والبيئة.
فهو يهدف، وبشكلٍ أساسي، إلى نشر ثقافة صحّية بين الناس، وتوعيتهم على المخاطر المرتقبة، ودعوتهم إلى الإسهام في عملية الإنقاذ البيئي، أي بكلام آخر، إنّه يرمي إلى تحقيق التوازن بين ما يجب أن يعرفه الناس، وما يجب أن يتجنّبوه وما يجب أن يقوموا به. دور الإعلام الصحّي، إذن، ثلاثيّ الأبعاد: تحذيري وعلاجي وتضامني، من هنا يمكننا الجزم، بأن لا إعلام صحّياً في لبنان، وعلى كافة الصعد المطلوبة سواء الغذائية واللياقة البدنية واللقاحية، أو الوبائية والعلاجية والجنسية، أو الصحّة النفسية والاحتياجات الخاصّة…إلخ. لا شيء من كلّ ذلك في لبنان. بينما كلّ ما يعرف الإعلام صنعه، هو مجرّد اللهاث وراء بضعة معالجات خبرية لأحداث تطرأ (من المفضّل أن تكون ذات بُعد طائفي أو عنصري يزيد من إمكانية زيادة نِسَب المشاهدة)، وتفرض نفسها على الأجندة اليومية للوسائل الإعلامية (ظهور حالات تسمّم في منطقة معينة، إقفال بعض المراكز الصحّية، إعلان وزارة الصحّة عن تدبير معيّن،…إلخ).
للإعلام سبعُ وظائف أساسية تسعى الميديا في الدول المتقدّمة في سلّم الحضارة، غالباً، إلى تلبيتها؛ أبرز هذه الوظائف، هي الوظيفة الإخبارية المعنيّة بالإخبار والإنباء وإعطاء المتلقّي المعلومات عن وقائع حصلت وتحصل وستحصل، وتتّصل الوظائف الباقية، بكلّ ما له صلة بالتنمية والتوجيه والتعليم والإرشاد والتوعية والترفيه. إرتأى إعلام لبنان، ولا سيّما شاشاته الصغيرة، أن يحصر دوره بوظيفتيْن فقط، الإخبار والترفيه، وأن ينأى بنفسه عن سائر الوظائف التي يحتاجها جمهوره اليوم بشدّة، مع تفشي الكورونا في ديارنا.
كلمة أخيرة. كتب أحدهم يوماً يقول: “إنّ إعلام لبنان يدخل شيخوخته القاتلة، وتسيطر عوارض الموت على القسم الأكبر منه، وتشتدّ الحاجة إلى تحديد الوظيفة والدور. لكن لا تزال إدارات إعلامنا حبيسة الغرف المغلقة، ولا تريد مجرّد الإقتراب من غرفة النقاش، أو طرْق الباب حتى. بينما يسير العالم، من حولنا، نحو تلبية ما هو حقيقي في حاجات الناس”. إقتضى التنبيه.
(*) أستاذة في الجامعة اللبنانية، كلية الإعلام