لمساعدة إيطاليا، التي تختنق – حرفياً – تحت نير الفيروس التاجي، أرسلت روسيا 14 طائرة عسكرية محمّلة بالأفراد والمعدات الطبية.
قوبلت هذه البادرة بثناءٍ في أوروبا، ولكن جزءاً من المجتمع الروسي نظر إليها بشكل غامض: هل يجب إنفاق الموارد على دول “حلف شمال الأطلسي” عندما نكون في حاجة إليها؟
الإجابة ببساطة: نعم، هذا أمر مطلوب، وإليكم السبب.
في تصنيف الدول الأكثر شعبية بين السياح، والمفضلة، من حيث المبدأ، في العالم، تحتل إيطاليا، وبشكل تقليدي، مكانة رائدة. يمكن أن تقتصر نظرة الكثيرين إلى إيطاليا على أمورٍ مثل المافيا، الفاشية، الفقر في الجنوب، أزمة القمامة في نابولي، وفوضى الشركات… ولكن ثمة ما هو أهم من ذلك: روما العظمى، عصر النهضة، قوارب الجندول (البندقية)، البيتزا، الواقعية الجديدة، الأزياء الراقية.
بعدما كانت “الحبيب” في زمن السلم، تعرضت إيطاليا للخيانة من قبل أقرب حلفائها في أصعب الأوقات. لقد تعطّلت إجراءات التكامل بين الدول الأوروبية منذ الأيام الأولى لأزمة فيروس “كورونا”. تموضع كل منها داخل “الشقق” الوطنية، واختبأ الجميع خلف الحدود.
من بين أمور أخرى، انهارت السوق الموحدة للأدوية والمعدات الطبية، وهو ما تحتاجه إيطاليا اليوم أكثر من أي بلد آخر في أوروبا، وتجاهل الجميع تلك الصدمة اليومية التي يواجهها الإيطاليون: بكاء على كبار السن المتوفين، وجوه الأطباء المدموغة بآثار الأقنعة الواقية… فيما راح المدوّنون في الفضاء الالكتروني الإيطالي يكررون الحديث عن “الخيانة”.
بعدما كانت “الحبيب” في زمن السلم، تعرضت إيطاليا للخيانة من قبل أقرب حلفائها في أصعب الأوقات
لم يقتصر الأمر على ما سبق. ربما يمكن تفهّم إحجام “الجيران” عن تشارك الأساسيات في زمن الأزمات – يمكنك أن تفهم بطريقة أو بأخرى تبريرات من قبيل “الكل خائف” و”ما لدينا.. بالكاد يكفينا” – لكن إيطاليا تعرضت بالفعل للسرقة في ما يخص احتياجاتها. على سبيل المثال، استولت الجمهورية التشيكية ببساطة على مساعدات إنسانية من أقنعة وأجهزة تنفس أرسلتها الصين للإيطاليين!
في ذروة الأزمة، اتصل فلاديمير بوتين بالحكومة الإيطالية وعرض تقديم المساعدة. لماذا؟ يمكنك أن تشرح الأسباب مطوّلاً، وهذا ما سأفعله، لكنني أؤمن أن ثمة دافعاً صادقاً، لا سيما حين يتعلق الأمر بدول حافظت على علاقات خاصة معنا حتى في العصر السوفياتي.
قَبل رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي المساعدة الروسية، وشكر بوتين نيابة عن الشعب الإيطالي.
حسنًا، دعنا نرى ما فقدناه جراء هذه البادرة: “أرسلت قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي مختبراً متنقلاً من أصل 15، و20 آلة للمعالجة الخاصة من أصل 2065، و66 جنديا من القوات الكيميائية الروسية من أصل 20 ألفاً”، بحسب ما أوضح قائد هذه القوات الفريق إيغور كيريلوف.
بمعنى آخر، لم يحرم أحد نفسه من شيء لصالح “الغرباء” (الاتحاد الأوروبي ، الناتو ، الغربي) جراء هذه الخطوة.
المنتقدون في روسيا نسوا فجأةً البلد الذي يعيشون فيه: منذ عقود يستعد الجيش الروسي، من بين أمور أخرى، لسيناريوهات حرب تشمل استخداماً نشطاً للأسلحة الجرثومية.
من خلال تقديم المساعدة السريعة للإيطاليين، أمكن للقوات الروسية التركيز على الخطوات العملانية: تلقي الأمر، التحميل، الانتقال.
لحسن الحظ، فإن قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي قوية بشكل أساسي من الناحية النظرية، ولكن الآن بات بإمكانها أن تتدرب في “نقطة ساخنة” من أجل تطبيق المعرفة المكتسبة لاحقاً في إنقاذ أرض الوطن.
هذا في الجانب العملي، ولكن هناك أيضاً مسألة سياسية. مثل هذه المبادرات تشكل إضافة حتمية لـ”القوة الناعمة” – الشكل الفعال الوحيد لمقاومة الدعاية الموجهة ضد روسيا، التي نشكو منها كثيراً، والتي أصبحت منذ فترة طويلة نظاماً قائماً في الاتحاد الأوروبي.
ويجب أن نفهم أنه في حالة إيطاليا، فإنّ الدعاية الموجهة ضد روسيا ليست مجرّد نظرية، فهي جزء من السياسة الداخلية. لقد وُصفت الحكومة الإيطالية السابقة، التي كان يرأسها كونتي نفسه، بأنها الأكثر تأييداً لروسيا في أوروبا، حتى وقعت أزمة سياسية، وخرج منها ماتيو سالفيني، زعيم “رابطة الشمال”. بعد ذلك بعامين، تتاح للرابطة، التي تقدر التعاون مع روسيا بشكل كبير، وتتعاطف مع موسكو في الصراع مع كييف، وتدافع بشدة عن إنهاء حرب العقوبات، فرصة أن تعود إلى الحكم مرّة جديدة، ولذلك كان لا بد من محاربتها عبر تخويف الناخبين من “النفوذ الروسي”.
ببساطة، نحن في حدود إمكانياتنا، ومصلحتنا الخاصة، نساعد صديقاً قديماً وحليفاً محتملاً في آنٍ معاً.
وفي وقت كان التضامن الأوروبي يُستجدى في بروكسل، كانت الصين البعيدة (قبلنا بقليل)، وإدارة ترامب البخيل للغاية (بعدنا بقليل) تقدمان المساعدة للإيطاليين. حتى كوبا، الدولة التي تعاني من فقر مزمن ولكنها تملك أدوية متطورة للغاية، أرسلت فريقاً من الأطباء إلى جبال الأبنين.
يمكنك اعتبار مبادرة بوتين تجاه الشعب الإيطالي استثماراً فعلياً في الصورة، أو ربما استثماراً طويل المدى في الجغرافيا السياسية. يمكنك اعتبارها عملية خاصة لجيش القوات الكيميائية الروسية لاكتساب الخبرة والاستطلاع في الظروف القاسية. يمكنك أن تعتبرها تذكيراً غير ملزم لأي شخص بأن روسيا ليست دولة “أوركية”، وبأنها ليست عدوة لأوروبا… ولكن لا يمكننا القول أنه في عمل التضامن والدعم هذا قد حرمنا أنفسنا وشعبنا. هذه كذبة في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال، هذه نفسها الدعاية المعادية لروسيا.