“أجمل التاريخ كان غداً” : شاهد على حقبة

إختار إيلي فرزلي للكتاب ـ السيرة عنواناً جذاباً:"أجمل التاريخ كان غداً". إستعار مقطعاً من قصيدة "مُرّ بي" للشاعر اللبناني سعيد عقل، التي غنتها السيدة فيروز، من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب. عنوانٌ موسيقيٌ جميلٌ حوّل السيرة الذاتية إلى درس حي في التاريخ، يقدمه أحد المشاركين في المطبخ اللبناني ـ السوري بـ"صياغة المؤامرات" وصناعة التخريجات وأحياناً فبركة الأبطال. درس يريده أن يكون بتصرف كل الباحثين في المستقبل عن تاريخ مضى، لكنه أسّس للحاضر وللآتي من تاريخ. الكتاب من 820 صفحة، يتوزع على 17 قسماً، وكل واحد منها يتضمن العديد من الفصول. أصدره دار سائر المشرق، بطبعته الأولى في مطلع العام 2020.

طلب السوريون يوماً من نائب رئيس مجلس النواب إيلي فرزلي إبلاغ صديقه الوزير السابق جان عبيد أنه لا يملك فرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية. التقى فرزلي عبيد بينما كانا متوجهين لتقديم العزاء لنائب رئيس الحكومة ميشال المر بوفاة والدته. كان الأول يقود سيارته بنفسه بينما قرر الثاني أن يسير راجلاً لتفادي الإزدحام. تولى فرزلي إقلال عبيد، ورأى أن الفرصة ملائمة لإيصال الرسالة. بدأ الحديث موارباً:

– أستاذ جان.. ما الفائدة التي ستجنيها من مقعد نيابي؟ أنت مثقف كبير. وليس في مجلس النواب من يماثلك في وعيك ومعرفتك.

رد عبيد شاكراً المجاملة. ليتابع فرزلي:

– أستاذ جان.. ما هو المنصب الوزاري بالنسبة لك؟ إن مقالاً تكتبه يضاهي بياناً وزارياً كاملاً.

مجدداً أبدى عبيد امتنانه للطف محدثه. ثم ضرب فرزلي ضربته:

– استاذ جان.. حتى رئاسة الجمهورية ليست أمراً مغرياً لواحد مثلك.

هنا طلب جان عبيد من محدِّثه أن يوقف السيارة.. ثمَّ ترجل قائلاً:

– بقي أن تقول لي: “ولَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُوْلَى”.

بالرغم من أن إيلي فرزلي لم يأت على ذكر الحادثة في كتابه الجديد، “أجمل التاريخ كان غداً”، إلا أنها تبدو ملائمة للدخول في أجواء الكتاب الذي يقدمه صاحبه بوصفه أطروحة سردية تقارب، من منظور تاريخي، تركيبة لبنان السياسية، وترصد مكامن الخلل المانعة لتحول الكيان إلى وطن مكتمل الأبعاد والمواصفات.. الرجل الخبير في التركيبة اللبنانية ودهاليزها يفك تحالفه مع الوقت، ويعلن رفع حصانته عن الزمن ليقدمه عارياً إلى أولئك الذين سيتعين عليهم أن يتعاملوا معه، ويتحملوا أعباءه.. هذا هو لبنان الذي أدرنا زواياه السياسية والإجتماعية طويلاً دون جدوى، وهذا هو “مجمع الطوائف” الذي عجزت الجهود المضنية عن صهر مكوناته البشرية ليكونوا شعباً واحداً موحداً.

يستعرض فرزلي المسار التاريخي لعائلته المنخرطة في العمل السياسي منذ عشرينيات القرن الماضي، لا يفعل ذلك لتبيان استمرارية العمل الوطني الهادف، وانما لتأطير مشكلة مستعصية تواجه الشعب اللبناني، وتضعه دائماً في موقع المتفرج على صناعة مصيره، دون أن يكون له دور، أو حتى رأي، في ذلك المصير.

تجربة سياسية ممتدة على مساحة قرن من الزمن، كانت كافية لأن تمنح صاحبها الوارث فرصة الزعم أن الكيان اللبناني قد صيغ عمداً ليكون مولداً للأزمات، بكل ما يطرحه الإستنتاج من مخاطر متوقعة ومقلقة. لعل ذلك ما يبرر إقحام البعد المستقبلي في عنوان كتاب يستمد دلالاته من الماضي.. كتاب كهذا لا يُقرأ من عنوانه، بل هو يصوغ مشروعيته اعتماداً على الخاتمة.

يسرد الكتاب فصولاً شيقة من تاريخ عائلته السياسي منذ الجد ملحم فرزلي، الطبيب القادم من أميركا ليخدم في الجيش العثماني، قبل أن ينخرط في الشأن المحلي، مروراً بالعم أديب، بلبل الندوة النيابية، وبالأب المحامي نجيب، وصولاً إليه نفسه، باعتباره وريث العائلة التي قدمت في تاريخ غير محدد من جنوب سوريا ليستقر بها المقام في القرعون، بعد مرور في بلدة الفرزل البقاعية التي حملت اسمها.

يعرض الكتاب للتاريخ السياسي للبنان الحديث بعد نيله الإستقلال، واضعاً أحداثه تحت مجهر التحليل، راصداً تفاصيل مراحل متعاقبة جاءت الحرب اللبنانية عام 1975 لتضع حداً دموياً لها، وتسفرفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي عن اتفاق الطائف الذي يعني في أحد جوانبه إطلاق اليد السورية في الشأن اللبناني، وهي الفترة التي تفاعل معها إيلي فرزلي من موقعه كنائب لرئيس مجلس النواب، وناشط على خط التواصل مع السلطة السورية يوم كان لبنان يدار من عنجر، ثم كان ما يسميه بـ”الزلزال” الذي أحدثه إغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، ما أدى إلى إنسحاب سوريا من لبنان.

أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ، ذلك التشابه المذهل بين الأمس واليوم حيث التجاذب الطائفي هو العامل الحاسم في ترسيخ السلطة، وحيث الإستناد إلى الجهات الدولية والإقليمية النافذة هو معيار النفاذ نحو جنة الحكم والإحتماء بظله، كذلك ثمة دافع نحو إعادة النظر بكون لبنان قابلاً لأن يتحول وطناً سوياً تسري عليه قواعد الدولة بمفهومها القانوني والقيمي. ذلك أنه، في حقيقته، أقرب إلى وعاء جغرافي محكوم دوماً بأن ينوس متأرجحاً بين والي عكا ووالي الشام. هكذا يصير الكتاب رحلة شائكة في مسار معقد يتيح استنتاجات شتى في مقدمها أن كثيرين ممن دخلوا إلى التاريخ المفترض للبنان الحديث إنما تسللوا إليه خلسة من زواريب المال والمحسوبية، ولا يزال كثيرون غيرهم يفعلون ذلك، والأرجح أن كثيرين آخرين سيسعون إلى الأمر نفسه في المستقبل.

بين ما يتناوله فرزلي مرحلة الحرب، بل الحروب، في مدينة زحلة ذات الخصوصية المميزة، وهي اختبرت تجارب مثيرة للإهتمام: حيث أمكن للسلاح الميليشيوي أن يقلص نفوذ الإقطاع السياسي ذات معارك شرسة، لكن النتائج التي ترتبت على هذا التحول ألهبت الحنين إلى ذاك النفوذ، على قاعدة رب يوم بكيت منه.. فلما صرت في غيره بكيت عليه.

اسم اللواء غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، هو أكثر الأسماء تكراراً في كتاب فرزلي، يجد الأمر تفسيره في كون الرجل قد مثّل الحاكم الفعلي للبنان طيلة مرحلة خصبة امتدت لسنوات، كان فرزلي خلالها أحد الذين يعتمد عليهم الضابط السوري في استيعاب خفايا ودهاليز العمل السياسي، وكشف ألاعيب الساسة اللبنانيين الذين يبرعون في الجحود مقدار براعتهم  في الخضوع، كما في صياغة الوصفات السياسية وتمريرها عبر القنوات الدستورية المناسبة.

اسم اللواء غازي كنعان، هو أكثر الأسماء تكراراً في كتاب فرزلي، يجد الأمر تفسيره في كون الرجل قد مثّل الحاكم الفعلي للبنان طيلة مرحلة خصبة امتدت لسنوات، كان فرزلي خلالها أحد الذين يعتمد عليهم الضابط السوري في استيعاب خفايا ودهاليز العمل السياسي

ثمة أسماء بدا واضحاً أنها شكلت ممراً إلزامياً للطامحين للسياسة في البقاع. أحد أبرز هؤلاء هو جوزف سكاف، الوزير والنائب والزعيم الإنتخابي الذي كان بوسعه أن يمنح، أو يحجب، تصاريح المرور نحو الكراسي النيابية بقاعاً.. هو كان، تبعاً لموقعه، معبراً إلزامياً لكل الطامحين إلى دخول جنة السلطة، وكان آل فرزلي في مقدمهم.. يروي ايلي فرزلي أحاديث كثيرة، لا مجال لتكرارها هنا، تؤطر تجربة عائلته مع آل سكاف بدءاً من الجد ميشال طعمة، مروراً بالإبن جوزف، وصولاً إلى الحفيد إيلي، يسعى بجهد واضح لأن يكون منصفاً في سرد السيرة السياسية للعائلة التي كانت تختزل البقاع يوماً، لكنه لا يتردد في التصويب على كثير من المفاصل السلوكية التي اعترت أداءها، كقوله أن آل سكاف هم أول من أدخلوا المال في لعبة السلطة، يشير إلى صلة عائلته بجوزف سكاف، لكنه يقدم مساراً مستقلاً لعلاقته الشخصية بـ”البيك”، فهو لم يجد نفسه معنياً بأن يرث الخصومة التي قامت بين أديب فرزلي وجوزف سكاف، ثمة هنا ما يبرر زعماً، يحتمل النقاش، بأن ابتعاد عمه عن حليفه الإنتخابي شكل حافزاً للشاب الطامح إلى السياسة، الذي كانه إيلي فرزلي حينذاك، على التقرب من الزعيم.

تأرجحت العلاقة بين إيلي فرزلي وجوزف سكاف بين مد وجزر، تقارب تبعه جفاء، ليكون، من ثم، تحالف فرضته الضرورة المتمثلة بتحول زحلة إلى معقل لأحزاب اليمين اللبناني، وساحة لسلاح متفلت امتلك الأمرة على الشارع، وأحال أصحاب البيوتات السياسية العريقة إلى تقاعد قسري. لاحقاً صار للفرزلي مشروعه المستقل الذي لا يسع سكاف أن يكون جزءاً منه.. خفتت العلاقة بانتفاء مبرراتها، ثم ذوت برحيل الزعيم الذي فقد في الزمن الميليشيوي الكثير من مباعث ألقه.

الغوص في متاهات السياسة الزحلية لا يستقيم دون التوقف عند الياس هراوي، النائب الماروني الذي سعى طويلاً للتفلت من هيمنة آل سكاف الكاثوليكية، وكان له ذلك بعد أن أوصلته الدروب الملتوية إلى قصر الرئاسة المؤقت ليدلف منه نحو بعبدا.

يتحدث فرزلي، بكثير من الرصانة، عن مساهمته في الدفع بهراوي نحو سدة الرئاسة، ومما يرويه في هذا السياق أن القيادة السورية كانت تستأنس برأيه في العديد من القضايا المفصلية ومنها إنتخابات الرئاسة، هكذا عندما سأله غازي كنعان عمن يعتقده ملائماً ليكون رئيس جمهورية لبنان بعد الطائف، رد عليه بمذكرة مكتوبة ترشح الياس هراوي مع تعليل الأسباب..

يصارح الراوي قراءه بأنه لم يكن محايداً حينها: “كانت علاقتي مع جوزيف سكاف قد بلغت حضيضها في الفتور والتباعد حتى بتُّ أعتبره خصماً يستهدفني.  كنت أدرك تماماً أن انتخاب الياس هراوي رئيساً للجمهورية من شأنه أن يقوِّض دور جوزيف سكاف، وربما زعامته في زحلة. والحقيقة أنني عندما كتبت مطالعتي للسوريين استحوذت هذه المسألة على تفكيري من حيث المواءمة بين المصلحة العامة على المستوى الوطني، وبين مصلحتي الشخصيَّة والمصلحة الزحلية المحليَّة”.

إقرأ على موقع 180  حوارات بوتين: من عمادة سانت بطرسبورغ إلى الكرملين

عُرض الإقتراح على القيادة السورية فانقسمت الآراء حياله.. زكاه البعض مثل عبد الحليم خدام، وحكمت الشهابي وعلي دوبا وغازي كنعان، لكن الرئيس حافظ الأسد حسم الأمر مفضلاً رينيه معوض الذي كان يحظى بتأييد الولايات المتحدة ودول الخليج العربي.. هكذا أنتخب معوض رئيساً للجمهورية في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1990.

يروي فرزلي أنه بتاريخ 22/نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1990 كان يتناول طعام الغداء في “بارك أوتيل” مع غازي كنعان عندما علم الأخير بإغتيال رئيس الجمهورية المنتخب رينيه معوض، بعد تبادل مشاعر الأسى، سأله كنعان: “ما رأيك”؟ رد فرزلي دون تردد: “ليس هناك سوى الياس هراوي”. بالطريقة الحاسمة نفسها قال كنعان: “إذهب وجس نبضه”.

يضيف فرزلي: “مساء ذلك اليوم ذهبت إلى بيت الياس هراوي في حوش الأمراء فوجدته جالساً متدثّراً بلحاف من الصوف على قدميه، وإلى جانبه زوجته منى.

قال لي:”نعم”.

بسبب من معرفتي الوثيقة به، تيقّنت من نبرة صوته أنه يستشف هدفاً معيَّناً تنطوي عليه زيارتي، فتعمَّدت عدم مفاتحته في ما كلّفني به غازي كنعان.

أمضيت ما يزيد عن نصف ساعة في تبادل الحديث معه عن رينيه معوَّض، فلم يوفر أمامي انتقاده بسبب رفضه توزيره. وكانت زوجته منى تتدخَّل كلّما شطح أو اشتطَّ في شتائمه أو عباراته المهينة.

قلت له عندئذ: “الله يساعد الذي سيُنتخب رئيساً بعده”.

قال:  “لماذا”؟

قلت: “كيف لماذا؟ إنها معركة سيكون فيها دم”.

ردَّ قائلاً: “فليكن”.

قلت: “هل تتجرّأ أنت على أن تكون رئيساً للجمهورية في مثل هذا الوضع”؟

قال: “أنا الذي أتجرّأ”.

قلت: “ماذا تستطيع أن تفعل مع ميشال عون”؟

قال: “أنزل إلى “البنكر” وأُمطره بالمدافع”.

لم أعقِّب على جوابه هذا، وأنهيت الزيارة بعد وقت قصير، وكانت قد استغرقت قرابة ساعة ونصف الساعة.

خابرت غازي كنعان عبر خط هاتفي هوائي من حوش الأمراء، فاستغرب طول المقابلة وسأل عن الحصيلة، فأطلعته على الوقائع.

سأل: “ما هو البنكر”؟

قلت: “ينزل إلى تحت الأرض ويقصف بالمدافع من فوق”.

قال وهو يضحك على العبارة تلك:”إذهب وائتِ به”.

عدت إلى منزل الياس هراوي، وما أن أبصرني حتى قال لزوجته منى: “ألم أقل لك”؟

ذهب إلى غازي كنعان في عنجر، فصحبه فوراً إلى دمشق. مذ ذاك أصبح رئيساً للجمهورية”.

يقول ايلي فرزلي أنه ما كاد ينهي ما كلفه كنعان قوله على مسامع الحريري حتى تغيرت ملامح الأخير، أمسك سبحته بإنفعال وغضب ورماها بقوة على الأرض لتتناثر حباتها فوق السجادة. ثم قال لمن حوله: “افتحوا الأبواب”

كان الظن لدى فرزلي أن الياس هراوي سيحمل له الإمتنان بشأن جهوده في تزكيته للرئاسة، لكنه فوجئ بأن الرجل ليس في هذا الوارد، وهو عمد فور تسلمه مهامه إلى تقريب العقيد جوني عبده، ضابط المخابرات الذي امتهن السياسة، وكان يتملكه هاجس الوصول بالرئيس الراحل رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة.. سرعان ما صارت المهمة هدفاً مشتركاً بينه وبين هراوي. لترئيس الحريري كان لا بد من إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي، فجأة شهد الوضع النقدي هزة تدحرجت نحو إنهيار، هبط سعر الليرة إلى قاع غير مسبوق، حتى صار الدولار الأميركي يساوي ثلاثة آلاف ليرة.. يقول فرزلي: “لم يكن رئيس الجمهورية الياس هراوي، وصديقه رفيق الحريري، و”القوَّات اللبنانية”، وبعض المصارف، بعيدين من التورُّط في تسارع الانهيار والدخول في لعبة المضاربة المالية. حينذاك استدعى الياس هراوي حاكم مصرف لبنان ميشال خوري، وطلب منه وقف تدخُّل مصرف لبنان لدعم الليرة، وكان قد تبقَّى في احتياطيه نحو 600 مليون دولار. غادر ميشال خوري المقرَّ المؤقت للرئاسة في “الرملة البيضاء” في طريقه إلى مصرف لبنان في منطقة القنطاري – شارع الحمراء لإصدار بيان بوقف حماية العملة الوطنية، وظل رئيس الجمهورية يلاحقه بمكالمات هاتفية يحثَّه ويستعجله إرسال البيان إلى الوكالة الوطنية للإعلام.

بعد ساعات قليلة على”ثورة الدواليب”، تقدَّم الرئيس عمر كرامي في 6 أيَّار/مايو 1992 باستقالة حكومته، فقُبلت في 21 منه وكُلِّف الرئيس رشيد الصلح تأليف حكومة جديدة استمرت حتى 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1992 حين كلف الحريري بتشكيل الحكومة.

عن علاقته بالحريري، يسرد الراوي تفاصيل كثيرة، بينها أن رئيس الحكومة الأسبق عرض عليه يوماً الإكتتاب باسهم شركة “سوليدير”، فاعتذر فرزلي لعدم توافر النقود لديه، أعاد الحريري العرض أكثر من مرة وكان يتلقى الإجابة نفسها في كل مرة، لاحقاً اتصل بفرزلي رئيس مجلس إدارة “بنك المتوسط” الذي يملكه الحريري طالباً اللقاء معه، التقاه فجدد العرض ذاته، وعندما أبدى فرزلي العذر نفسه، أوضح له محدثه أن بإمكانه الإستدانة من البنك لشراء الأسهم. وافق الرجل على العرض، واشترى ألف سهم بقيمة مئة ألف دولار، يقول أنه في العام 2011 عندما بدأت قيمة السهم بالتراجع باع حصته، وذهب إلى البنك ليسدد الدين فأخبروه هناك أن الرئيس رفيق الحريري قد أصدر توجيهاته بشطب الدين.

ثمة حكاية أخرى يرويها فرزلي يسعها أن تضيء على نمط الآداء السياسي الذي كان سائداً في لبنان. وهي تتصل بمواجهة بينه وبين الحريري حول مشروع قانون الإعلام عام 1994 ويوضح أنه بعد شرائه 49% من أسهم تلفزيون لبنان، سعى رئيس الحكومة لتكريس أحادية التلفزيون الرسمي، ومنع التلفزيونات الخاصة من بث الأخبار السياسية، اعترض فرزلي على مشروع الحريري متبنياً شعار:”إذا كانت فوضى الإعلام مصيبة فإن وحدانيته كارثة”.

كان الحريري قد استعان بحلفائه في سوريا، ومنهم عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، لإقناع النواب بمشروعه وتمريره في البرلمان، بعد أن أمكنه الحصول على موافقة مجلس الوزراء، تحالف فرزلي مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، واستعان بالعميد غازي كنعان للحؤول دون تمرير وقف البث السياسي للتلفزيونات الخاصة في مجلس النواب، ليثار جدل على مستوى عال بين رأيين، ينحاز أحدهما للحرية الإعلامية، في حين يحذر الثاني من فوضى البث..

في جلسة لمجلس النواب عقدت في 13 يوليو/تموز 1994 أقر المجلس قانوناً معجلاً مكرراً يجيز للإعلام المرئي والمسموع العودة إلى بث الأخبار والبرامج السياسية.. وذلك خلافاً لرأي رئيس الحكومة الذي كان نجح قبل يوم واحد في تعطيل نصاب الجلسة البرلمانية.

هنا يكشف فرزلي عن سلوك يعكس دهاءه السياسي، حيث رتب عشية انعقاد الجلسة النيابية لقاء له مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في دمشق، دون أن يخوض معه  في موضوع الإعلام، وتعمد تسريب خبر اللقاء إلى الصحف صباح اليوم المقرر للجلسة النيابية، مما أوحى أن وجهة نظره المتعارضة مع مثيلتها للحريري تحظى بتأييد دمشق.

لم يكن بوسع الحريري أن يفهم كسر قراره في المجلس النيابي إلا تنفيذاً لكلمة سر سورية حملها فرزلي إلى نبيه بري، خاصة أن الإجراء تزامن مع لقاء فرزلي بخدام، فاتصل برئيس الجمهورية معلناً عزمه على الإستقالة، استنجد الياس هراوي بعبد الحليم خدام الذي اتصل بالحريري فتلقى منه معاتبة على التخلي عنه.. أكد خدام للحريري أنه لم يتطرق مع فرزلي لموضوع الإعلام لا من قريب ولا من بعيد. فكان أن أبدى الحريري تريثاً وحول قراره بالإستقالة إلى إعتكاف. ملتزماً منزله لأسبوع كامل لم يمارس خلاله أي نشاط سياسي. في ظل تقاطر وفود شعبية إلى قريطم معلنة التضامن معه.

اتصل غازي كنعان بفرزلي، ليطلب منه بلهجة مستاءة أن يذهب إلى الحريري ويبلغه بضرورة العودة عن اعتكافه، لأن سوريا لا توافق على المنحى الذي بدأت تأخذه تصرفاته السلبية.

يقول ايلي فرزلي أنه ما كاد ينهي ما كلفه كنعان قوله على مسامع الحريري حتى تغيرت ملامح الأخير، أمسك سبحته بإنفعال وغضب ورماها بقوة على الأرض لتتناثر حباتها فوق السجادة. ثم قال لمن حوله: “افتحوا الأبواب”.

لاحقاً، عاد الحريري من دمشق بعد لقائه الرئيس حافظ الأسد ليصرح من قصر بعبدا أن ما حدث كان “سحابة صيف وانقشعت”.

(*) ينشر موقع 180 إعتباراً من اليوم، عدداً من فصول كتاب “أجمل التاريخ كان غداً”، لإيلي فرزلي، والصادر عن دار “سائر المشرق”.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "الغاز" و"عُقَد" العَقد المصري.. استجرار "التطبيع"!