يعود رونين بيرغمان بالأحداث إلى ما قبل تنفيذ العملية، فيشير إلى أن أول ثلاثة أعضاء من فريق “شاشة البلازما” حطّ في دبي عند الساعة 6:45 صباح يوم 18 يناير/كانون الثاني عام 2010، وعلى مدى 19 ساعة وصل تباعا باقي الفريق – أي ما مجموعه 27 عضواً – على متن رحلات جوية قادمة من زيوريخ وروما وباريس وفرانكفورت. حمل هؤلاء اثني عشر جوازا بريطانيا وستة جوازات سفر إيرلندية وأربعة فرنسية وأربعة أسترالية وواحد ألماني، وكل هذه الجوازات كانت أصلية، ولكن لا تمت بصلة إلى حامليها. بعضها تمت استعارته من أصحابها الذين كانوا مقيمين في “إسرائيل” بجنسية مزدوجة، وبعضها الآخر تم الاستحصال عليها بناء على هويات مزورة، والبعض الثالث كان مسروقاً أو لأشخاص متوفين.
يتابع بيرغمان، “عند الساعة 2:09 فجر التاسع عشر من يناير/كانون الثاني وصل كل من “جيل فوليارد” و”كيفين ديفرون” المفترض أن يكونا العنصرين الأساسيين في العملية (يتوليان إدارة غرفة العمليات المتقدمة ووسائل اتصال العناصر والحراسة والمراقبة). وقد حجزا غرفتين منفصلتين في فندق الجُميرة بدبي، وكلاهما دفع نقداً، مع العلم ان العديد من أعضاء الفريق دفعوا ببطاقات (كارد) صادرة عن شركة تدعى “بايونير” (Payoneer) مديرها العام ضابط سابق في الجيش “الإسرائيلي”. أخذ عامل الاستقبال “سري راهايو” النقود وأعطى مفتاح الغرفة رقم 1102 للمدعو “فوليارد” ومفتاح الغرفة 3308 لزميله “ديفرون”. وقبل الخلود للنوم طلب الأول وجبة خفيفة من خدمة الغرفة فيما أخذ الثاني مشروباً مرطباً من براد الغرفة.
حطّ قائد المهمة “بيتر ايلفينجر” في المطار بعد عشرين دقيقة من “فوليارد” و”ديفرون”، وهو يحمل جواز سفر فرنسي، وبعد عبوره قسم الجوازات، قام “ايلفينجر” بمناورة هدفها كشف الملاحقة المتبعة في مثل هذه الحالات (اسمها باللغة العبرية مسلول Maslul) اذ خرج من باب المطار وانتظر لمدة ثلاث دقائق ومن ثم عاد الى الداخل للقاء عنصر آخر من الفريق، وفق اتفاق مسبق على هذا اللقاء، وهذا الأخير كان قد وصل الى المطار في وقت مبكر. كل أعضاء فريق الاغتيال يتبعون بصورة دائمة آلية (مسلول) موحدة لكشف الملاحقة، وغالبا ما يُغيّرون ملابسهم ويتنكرون مستخدمين الشوارب الوهمية والشعر المستعار وذلك ليتأكد واحدهم انه غير ملاحق وليكون قادرا على الانتقال الى هوية أخرى خلال مراحل تنفيذ العملية. تحادث “ايلفينجر” مع الشخص الذي التقى به لمدة تقل عن دقيقة قبل ان يتوجه الى فندقه بسيارة أجرة.
بعد ظهر اليوم نفسه، “كان كامل أعضاء الفريق ينتظرون بفارغ الصبر وصول محمود المبحوح”، يقول بيرغمان، “كان من المتوقع ان يصل عند الساعة الثالثة (عصراً) ولكن كان لا يزال هناك بعض الثغرات في المعلومات الاستخبارية، ففريق “شاشة البلازما” لم يكن على بينة عن المكان الذي سيبيت فيه المبحوح ولا زمان ومكان اللقاءات التي سيعقدها، كما انه لم يكن باستطاعة الفريق ان يغطي كل ارجاء المدينة، ما يعني انه يمكن ان يُضيّعه، كما كان من المستحيل ان يتم التخطيط مسبقا للطريقة التي سيتم الاقتراب منه لقتله، وبحسب ما يقول احد العملاء التنفيذيين “هذا نوع من عمليات الاغتيال التي يملي فيها الهدف نفسه على المنفذين كيف وأين سيجعلونه ميتاً”. وهكذا، فقد انتشر بعض أعضاء الفريق في ثلاثة فنادق كان سبق للمبحوح ان ارتادها في زيارات سابقة، كما انتشرت مجموعة أخرى في ارجاء المطار وراح عناصرها يمرّرون الوقت بما كان يبدو على انه محادثات هاتفية يجرونها، أما باقي أعضاء الفريق، وهم سبعة اشخاص، فقد بقوا مع “ايلفينجر” في فندق آخر.
وصل المبحوح في الساعة 3:35 فتبعه فريق من منفذي العملية الى فندق البستان روتانا وتم ارسال رسالة هاتفية الى باقي العملاء في الفنادق الأخرى تدعوهم إلى اخلاء مواقعهم. يقول بيرغمان إن أعضاء الفريق “استخدموا هواتفهم الخليوية بصورة مكثفة، ولكن لتجنب الربط المباشر بين أرقامهم فقد كانوا يطلبون رقما في النمسا حيث كان قد تم مسبقا تحميل لوحة تبديل تقوم بتحويل الرقم الى هاتف في دبي او الى مقر القيادة في “إسرائيل”. وكان أعضاء الفريق الموجودين في بهو فندق البستان روتانا يرتدون ملابس التنس ويحملون المضارب، وذلك من دون الغطاء المرافق المعتاد لهم. وبعد ان حصل المبحوح على مفتاح الغرفة، لحق به إلى المصعد اثنان من أعضاء الفريق، وعندما بلغ الطابق الثاني تبعوه من مسافة مموهة ليلاحظوا أنه كان يقيم في الغرفة 230. وقام أحدهم بإبلاغ الآخرين بذلك عبر مكالمة بالهاتف الخليوي مربوطة بالنمسا وذلك قبل ان يعودا الى بهو الفندق”.
ويكمل بيرغمان روايته قائلاً: “ما ان عرف “ايلفينجر” برقم غرفة المبحوح حتى أجرى مكالمتين هاتفيتين، الأولى مع فندق البستان روتانا لحجز غرفة طالباً أن تكون رقم 237 وهي تقع مباشرة عبر الممر من الغرفة 230 والثانية مع شركة طيران طالباً حجز مقعد على رحلة الى ميونيخ عبر الدوحة في وقت لاحق من المساء. وبعد وقت قليل من الساعة الرابعة من بعد الظهر غادر المبحوح الفندق، ولاحظ الفريق الذي يلاحقه انه كان يتخذ تدابير احترازية متبعا مناورة “مسلول” الخاصة به، اذ كان لديه سبب كاف ليفعل ذلك فتقريبا كل رفاقه في حركة حماس منذ أواخر الثمانينيات ماتوا ميتة غير طبيعية. ولكن تحركاته كانت بسيطة وغير معقدة ولم يكن لدى الفريق اي مشكلة بإبقائه قيد الرصد”.
انتظر “كيفين ديفرون” في بهو فندق البستان زميله “ايلفينجر” الذي وصل عند الساعة 4:25 وسلم “ديفرون” حقيبة من دون تبادل اي كلمة بينهما. توجه “ايلفينجر” الى مكتب الاستقبال، وقد أظهرت كاميرات المراقبة بشكل واضح جواز سفره الأوروبي الأحمر اللون، وبعد ان سجل دخوله للغرفة 237، اعطى مفتاح الغرفة لـ”ديفرون” أيضا من دون التفوه بأي كلمة وغادر الفندق من دون حقيبته. بعد ساعتين من ذلك، اتى الى الفندق أربعة رجال، على دفعتين، كلهم كانون يلبسون قبعات البيسبول تغطي وجوههم وكانوا يحملون حقيبتين كبيرتين، ثلاثة من هؤلاء كانوا من القتلة المحترفين في وحدة “قيساريا” اما الرابع فكان خبير فك الاقفال. توجهوا على الفور الى المصاعد ثم الى الغرفة 237، بعد ذلك بساعة، وتحديداً عند الساعة 7:43 طُلبَ من فريق المراقبة في بهو الفندق اخلاء مواقعه ليحل محله فريق آخر بعيون غير تعبة. عند الساعة العاشرة، افاد الفريق الذي كان يلاحق المبحوح ان الاخير يتوجه عائدا الى الفندق. تولى “فوليارد” و”ديفرون” مراقبة الممر المؤدي الى الغرفة 230 فيما كان خبير الاقفال يتعامل مع قفل الغرفة، وكانت الفكرة ان يتم إعادة برمجته ليتمكن المفتاح الرئيس لدى “الموساد” (Master key) من فتح الباب من دون ان يسجل الدخول وأيضا من دون عرقلة عمل المفتاح الأصلي لدى نزيل الغرفة. فجأة خرج سائح من المصعد فتولى “ديفرون” تشتيت انتباهه بمحادثة بريئة، فلم يرَ السائح شيئا، وتم حل موضوع القفل ودخل الفريق الى الغرفة وبقي هناك بالانتظار.
يمضي بيرغمان في روايته: “حاول المبحوح العودة الى الممر، ولكن رجلين بأذرع قوية أطبقا عليه فيما تولى رجل ثالث كم فاهه بيد وضغط على عنقه بأداة تستخدم فيها الأمواج الفوق صوتية لتضخ نوعا من الدواء من دون ان تترك اثر وخز في الجلد. كانت الأداة محملة بمادة سوكساميثونيوم كلورايد (Suxamethonium Chloride)، وهو نوع من المخدر يعرف تجاريا باسم سكولين (Scoline) ويستخدم بعد مزجه بمخدر اخر في العمليات الجراحية. استخدام هذا المخدر وحده يتسبب بالشلل لأنه يوقف عمل العضلات التي تستخدم للتنفس ما يؤدي الى الاختناق. أبقى الرجال قبضاتهم مطبقة على فم المبحوح حتى توقف عن الحراك، وعندما انتشر الشلل في كل انحاء الجسد ألقوه أرضاً فيما كان لا يزال صاحياً، يفكر بوضوح ويرى ويسمع كل شيء لكن لم يكن باستطاعته التحرك، وخرجت الرغوة من زاوية فمه في حركة قرقرة. فقد كان هناك ثلاثة غرباء يحدقون به بنظرات غير ودودة فيما لا يزالوا يمسكون بذراعيه، هكذا كانت حالته وهذا كان آخر شيء رآه”.
تفقد القتلة المحترفون نبضه من مكانين مختلفين بحسب التعليمات التي أعطاها إليهم طبيب “الموساد” للتأكد انه قد مات حقا هذه المرة. نزعوا حذاءه وقميصه وبنطاله ووضعوهم بطريقة مرتبة في خزانة الملابس ووضعوا الجثة في السرير تحت الغطاء. احتاجت العملية كلها حوالي العشرين دقيقة، وقد اغلق الفريق الباب خلفه بعد مغادرة الغرفة مستخدما تقنية طورها “الموساد” بحيث يبدو معها قفل الباب وكأنه اغلق من الداخل والسلسلة التي تُعزّز القفل كانت مقفلة أيضا، وعلقوا على يد الباب إشارة “الرجاء عدم الازعاج” ومن ثم توجهوا الى الغرفة 237 حيث قرعوا الباب مرتين كإشارة الى ان المهمة قد أنجزت ليختفوا بعدها في المصاعد. غادر “فوليارد” بعد دقيقة من ذلك فيما غادر “ديفرون” بعد أربع دقائق، وغادر بعدهما فريق المراقبة الذي كان في بهو الفندق. وخلال أربع ساعات كان معظم أعضاء الفريق قد أصبح خارج دبي، وبعد أربع وعشرين ساعة لم يكن قد بقي من أعضاء الفريق أحد في المدينة.
سيطر شعور من الارتياح والرضا عن الذات في تل أبيب، وهو مناخ وصف لاحقا بـ”نشوة النجاح التاريخي”. فكل من كان له علاقة بالعملية – لا سيما مائير داغان وفريق الاغتيال – اعتقدوا بان مهمة أخرى قد أنجزت بحرفية عالية. وقام داغان بإبلاغ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بنجاح عملية القتل قائلاً “لن يزعجنا المبحوح أبداً”.
عثر أمن الفندق على الجثة بعد ظهر اليوم التالي، ولم يكن هناك أي شيء يوحي بان هناك ما يشير الى انذار ما، فالواقع كما كان يبدو هو ان تاجرا ما بمنتصف العمر مات في السرير في غرفة مغلقة من دون أي إشارة على نزاع او صدمة ما يعني أنه قد تعرض لنوبة قلبية او جلطة دماغية. نقلت جثة المبحوح الى المشرحة وسجل اسمه وفقا للاسم المزيف الذي كان يحمله على جواز السفر، فلم يعط الامر انتباهاً او أهمية أكبر او أصغر من حالة وفاة في دبي لرجل أجنبي من الطبقة الوسطى.
في دمشق، بدأ القلق يساور مسؤولي حركة “حماس” لاستغرابهم ان الرجل الذي ارسلوه للتوسط في صفقات أسلحة لم يظهر وفق ما هو مخطط له. في 21 يناير/كانون الثاني قام مبعوث محلي بجولة على مراكز الشرطة والمشارح للبحث عن المبحوح الى ان وجد جثة رجل لم يطالب بها احد في جارور براد في مشرحة. فقام مسؤول في حماس بالاتصال برئيس شرطة دبي اللواء ضاحي الخلفان وأخبره ان الرجل الميت والذي يحمل جواز سفر فلسطيني كان في الحقيقة عضوا بارزا في منظمتهم، واخبر الخلفان أيضا انه من شبه المؤكد ان ميتة الرجل لم تكن لأسباب طبيعية، ومن المؤكد اكثر ان جهاز “الموساد” يقف وراءها.
كان الخلفان، 59 عاما (حينذاك)، الحامل للكثير من الأوسمة قد جعل مهمته الشخصية تخليص بلاده من المجرمين والعملاء الأجانب الذين يستخدمون دبي كقاعدة لتنفيذ نشاطات غير قانونية، وقد صرخ على الهاتف بمحادثه الفلسطيني قائلا “خذوا أنفسكم وحساباتكم المصرفية واسلحتكم وجوازات سفركم المزورة واخرجوا من بلادي”. وفي الوقت نفسه، لم يتحمل الخلفان فكرة ان يقوم “الموساد” بالتجول في بلاده وقتل الناس، فسحب الجثة من المشرحة وطلب تشريحها. لم تكن نتيجة التشريح حاسمة كما لم يكن بالإمكان تحديد ما اذا كان المبحوح قد قتل، ولكن تقدير الخلفان الأساسي كان ان مسؤول “حماس” الذي خاطبه كان محقاً، أي أن المبحوح قتل على يد “الموساد”، فكيف تصرف الإماراتيون بعد ذلك؟