يتأوّل عنوان صفحات من ذكريات منير شفيق “من جمر إلى جمر” معانٍ ودلالات: في العمق النضالي لمسيرته الممتدة والكثيفة، كما في الجمالية الشاعرية للكلمة الواحدة المتثنّية “جمر”، وكأنها عبارة عن تولُّهٍ تصوفي، (مع ابتعاده أو عدم رغبته حتى الآن – كما ذكر – بالإفراج عن ديوانه الشعري) ولكنه في آن، احتفظ بالكثير من الجمرات فلم يرْمها، وهذا يعود لشفافية سلوكه التربوي والأخلاقي، كما يستخلص قارئ الكتاب.
تتواءم مسيرة المفكر منير شفيق (منير شفيق عسل؛ مواليد القدس عام 1936) مع حقبات تدحرجت منذ نكبة فلسطين، صعوداً ونزولاً، فكراً وممارسة، ثورة وسياسة، قداسة وشيطنة. وما يُميّز مسيرة شفيق النضالية ابتعاده عن “التخبيص” وسوء التقدير، كالذي مارسته معظم القيادة السياسية الفلسطينية في الكثير من محطاتها، والمقصود هنا مرحلة حركة فتح وقيادتها، وإن لم يرمها بجمراته الحارقة، بل غلّب ـ كعادته ـ لغة النقد المهذّب، رافضاً تهمة التقلّب، ودليله هذا التصالح مع الذات في قراءة كل مرحلة ومقتضياتها، وفي نقدها دونما إساءة لأن هدفه الأول والأخير، كان وما يزال، تحرير فلسطين كاملة وإن بتحالف مع أي طرف يحمل تناقضات فكرية.
منير شفيق (87 سنة) هو ابن حركة فتح، بمبادئها ومنطلقاتها، لذا يستمر ناقداً لممارساتها من داخلها، رافضاً أي انشقاق عنها، وهو ما نلحظه في بضعة سطور تخفيفية لسلوكيات القيادة (سوء ممارسات جرت في الأردن ولبنان، وسوء تقدير في التحالفات، وعقدة السجادة الحمراء، والهدر والتبذير والرشاوى لكسب الولاءات، وطبعاً نقده لاتفاقية أوسلو ونتائجها الكارثية).
عن اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، يقول منير شفيق في كتابه إنه حصل “عندما رفعت أميركا وأوروبا وحسني مبارك والسعودية أيديهم عن حمايته” (تفاصيل صفحة 483)، ويورد كيف “ساهم عرفات في آخر أيامه في تشجيع كتائب شهداء الأقصى والعمليات الاستشهادية، وهذا ما تأكد منه العدو الصهيوني من خلال عدد من الاعترافات والأدلة، ومن بينها تلك الباخرة التي كانت محملة بالصواريخ التي أرسلها حزب الله إلى أبو عمار”.. (تفاصيل ص 480).
ومن بين محطات كثيرة، متنوعة، وتاريخية، يُضيء شفيق بإسهاب وشروحات أعطت لهذه الصفحات من الذكريات أسلوباً سردياً، معزّزاً بمحاججته لكل واقعة، أو حادثة، وبعضها تقود القارئ إلى أن يستنتج ما خلف السطور (اغتيال القادة الثلاثة في انتفاضة الحجارة حمدي وأبو حسن ومروان كيالي في قبرص في العام 1988)، وبعضها الآخر يحتاج إلى توضيحات من آخرين كانوا شركاء في هذه التجربة، ذلك أن تدوين الأحداث مهمة تتجاوز مسيرة شخص واحد مهما اتسعت معلوماته.
ينبغي هنا التوقف عند ما ذكره الكاتب عن دعم ياسر عرفات لانتفاضة الحجارة عام 1987، لأشير بدوري إلى ما ورد في كتاب “انتفاضة 1987: تحول شعب”، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ويتضمن أوراق مؤتمر تمثّلت فيه كل الأطراف التي شاركت في تلك الانتفاضة، وفي كلامهم نفي لأي دور خارجي داعم، بل على العكس، فيها ما يؤكد سعي “أبو عمار” إلى مصادرة انتفاضة الحجارة كي لا تخرج عن نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية وأهداف قيادتها. ويتحدث الكتاب أيضاً عن الأموال الطائلة التي دفعتها القيادة الفلسطينية، فكان انطفاء الانتفاضة قرباناً على مذبح مؤتمر مدريد للسلام في أعقاب “حرب تحرير الكويت”..
الحكاية تبقى لصاحبها، ولسيرته الشخصية كمناضل ومفكر ورب عائلة يعترف بالتقصير تجاهها نظراً لتفرغه للعمل النضالي، وللكثير من لغة الاحترام والود تجاه من رافقوه ورافقهم في محطاته الماركسية النشوء، والناصرية العشق لعبد الناصر، ولحركة فتح “وما هتفت لغيرها”، وللتوجه الإسلامي الحضاري وللثورة الإسلامية في إيران
لم يهمل منير شفيق تصويب نقده لمسيرة بعض الأحزاب الشيوعية العربية ولا سيما عندما كانت تتناقض برامجها مع طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني وحُماته في الغرب وخاصة بريطانيا ثم أميركا. أشار إلى سوء تقدير هذه الأحزاب، وكيف كانت تُنفّذ حرْفياً تعليمات الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي كان يُوقِعَ هذه الأحزاب في تناقضات وتبدلات وانتكاسات. يذكر، على سبيل المثال، أن تظاهرة انطلقت في القدس في العام 1954 ضد جمال عبد الناصر وضمت الشيوعيين والبعثيين وحزب التحرير الإسلامي، وأن الأخير (التحرير) رفض قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس وإدانة حلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. ويشير إلى وقوف الشيوعيين إلى جانب قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين في العام 1947، ثم التراجع عنه لأن الاتحاد السوفياتي تراجع عن تأييد القرار “بين ليلة وضحاها”، ومثلها في الموقف من الوحدة العربية، وبناء السد العالي، مما يدل على إخفاق هذه الأحزاب في استقلالية إدارة الصراع وازدراء شخصية المجتمع العربي وثقافته وتاريخه ومصالحه.
وعن التواجد الفلسطيني في لبنان بعد خروج الثورة الفلسطينية من الأردن في العام 1970، لم يتردد أيضاً منير شفيق في النقد وإبداء الملاحظات، ولكن تحت سقف حركة فتح السياسي، ومناورات أبو عمار بالرغم من إدانة شفيق لاتفاقية أوسلو لكن “لم أخوّن عرفات”، لأنه كان يجمع بين المناورة السياسية ومتابعة الكفاح المسلح كما يذكر. (ثمة وقائع ـ برأيي – تحتاج إلى تقييم جريء لا تعتوره القداسة وتقديس الشخصيات والمراحل، لأن ما دون النقد الذاتي والموضوعي يجعل قابليتنا مفتوحة لتكرار الخطأ)..
يذكر شفيق واقعة تتعلق بقرار الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية في العام 1976 القاضي بعزل حزب الكتائب (وقف منير شفيق ضده)، ومفاده، حسب المؤلف، أن عرفات كان خارج لبنان عندما سعى كمال جنبلاط لاصدار هذا القرار بضغط من القياديين الفتحاويين أبو أياد وأبو صالح، ولدى مجيء عرفات توجه إلى جنبلاط بالقول: “يا جماعة لماذا قرار العزل”؟ فأجابه جنبلاط: “أنا لست ألعوبة عندكم! عليك أن تقبل وأنت راضٍ”.
يستفيض شفيق بالحديث عن تجربة ما عرفت بـ”السرية الطلابية” و”كتيبة الجرمق”، وقيادتهما من الشباب الأفذاذ بالعمل العسكري والانضباط الأخلاقي خاصة حمدي وأبو حسن، وعن دوره الفكري في قيادة التيار المواكب لهذا الجانب العسكري، من دون أن يتخطّى ما قام به سواه، وهذا التواضع، يُحسب لمنير شفيق كقيمة أخلاقية.
وكلما توغلت في قراءة فصول ممتعة من كتاب “من جمر إلى جمر”، كنت أحسب نفسي في حضرة الرواية، والسرد الِسيَري، ففيها الكثير من الوقائع، وإن غاب بعضها، وهذا ليس من العيوب لأن ما من شخص يمتلك الحقيقة كاملة. أما هنا، فالحكاية تبقى لصاحبها، ولسيرته الشخصية كمناضل ومفكر ورب عائلة يعترف بالتقصير تجاهها نظراً لتفرغه للعمل النضالي، وللكثير من لغة الاحترام والود تجاه من رافقوه ورافقهم في محطاته الماركسية النشوء، والناصرية العشق لعبد الناصر، ولحركة فتح “وما هتفت لغيرها”، وللتوجه الإسلامي الحضاري وللثورة الإسلامية في إيران و”إنزال علم إسرائيل ورفع علم فلسطين مكانه” وللمقاومة الإسلامية التي مرّغت أنف العدو الصهيوني، وهو حلم منير شفيق الذي نال بعد صدور “من جمر إلى جمر”، جائزة فلسطين للآداب العالمية وذلك في حفل تكريمي أقيم في مجمع “رسالات” أواخر العام الفائت.