كان رفاق عمرك من قادة النضال القومي والتقدمي قد سبقوك جميعاً إلى حيث افترضوا انها الدنيا التي يمكنهم أن يحققوا فيها آمالهم بل احلامهم التي اعجزهم ضعفهم الانساني ومطامحهم الدنيوية عن تحققها.. هنا!
وحين فتحتُ باب غرفتك في المستشفى، قبل أيام، وجدتك وقد ادرت ظهرك عن دنيانا وذهبت في رحلة طويلة مع مسيرتك التي حاولت خلالها أن تتغلب على التحولات التي التهمت حياتنا بأحلام الوحدة والتحرير والتقدم.
هل قتلتك الخيبة، التي قتلت جمال عبد الناصر، ثم كمال جنبلاط، ثم جورج حاوي قبلك، وتركتك وحيداً، فدخلت دهليز الصمت ولم تخرج منه الا إلى العالم الآخر الذي افترضت – بظرفك – انه قد يكون الأجمل ممن ومما عرفت.
يا أبا خالد: لقد ادخلتني إلى مجلتك “الحرية”، واستغرب بعض مسؤوليها أن ادخلها بذريعة “انني صحافي”، ورددت عليهم بأن الحاجة اليّ – كصحافي – تفرض ان اعوّضها بالحيوية.. ومع الايام وقعت عليّ “الحرية” بغلافها الاول ونصف صفحاتها وصفحتها الاخيرة.
ومع هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967، انقلبت الدنيا رأساً على عقب… وأذكر انك اتيت فأخذتني في سيارتك “الفولكس – فاكين” الحمراء إلى ما بعد الاوزاعي في اتجاه خلدة، وأخذت تشرح مبررات التحول الفكري والسياسي، خصوصا وان “رفاقكم” في اليمن الجنوبي قد سبقوكم في الخروج من العروبة وعليها مستبدلين بها الاتحاد السوفياتي وعسكره لدرء محاولات الضم التي كانت تسعى اليها صنعاء، ومحاولات الاحتواء التي كانت تبذلها السعودية.
***
يا أبا خالد،
… ورحل جمال عبد الناصر، في ذكرى الانفصال وانهيار الوحدة بين مصر عبد الناصر وسوريا… وكانت قوات الملك حسين في الاردن تطارد ثم تطرد المقاومة الفلسطينية من الاردن لتأتي إلى لبنان، مستظلة بإسمك.. وكان قد احتضنكم عبد الناصر، قبل حوالي السنة، فأبرم الاتفاق الثلاثي بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية برعايته.
… وسرعان ما اصبحت المستشار الاول لياسر عرفات في الشؤون اللبنانية ومهدت لعلاقة وثيقة بينه وبين كمال جنبلاط، وسائر اركان الحركة الوطنية، مشَّكِلاً مع جورج حاوي ثنائي الظرف وابتداع الحلول للمشكلات والاشكالات المختلفة.
… وكنت تحضر اللقاءات المشتركة بين قيادة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وقد اعددت البيان متشاغلاً عن النقاشات الفارغة حتى يفرغ منها المتحاورون فتُخرج من جيب قمصيك البيان المكتوب وتختم اللقاء.
***
… ولقد اسعدك قدوم رفيق الحريري من السعودية إلى لبنان، وهو الذي كان تحت قيادتك في “حركة القوميين العرب”، فرحبت به مفترضاً انه سيعمل على تفريج الازمة الاقتصادية في لبنان.. ثم ابتعدت عنه وابتعد عنك نتيجة التناقض الحتمي بين التوجهين.. وحين قرر الحريري وقف “السفير” عن الصدور، لسبب تافه وذلك بعد نشرها وثيقة عن المفاوضات اللبنانية -الإسرائيلية. لم تتردد لحظة قبل أن تأتي الينا بامتياز “بيروت المساء”، لتصدر بها “السفير”، لأيام عدة، متجاوزة قرار التعطيل مكملة رحلتها في خدمة اهلها وناسها ممن يمثلهم شعارها “صوت الذين لا صوت لهم”.
لقد كنت آخر الكبار في جيلنا. وكان صمتك في السنوات الاخيرة يدوي بالخيبة والقهر من العجز عن القبض على الاحلام بالنواجذ، وتركها تهرب منا لتتركنا للكوابيس وعجائز السياسيين ورؤساء الخيبات التي دمرت حاضرنا ومستقبل الأمة
… وبعد كمال جنبلاط، جاء اليك وليد جنبلاط طالباً مساعدته على اعادة فتح ابواب اللقاء مع دمشق، واعادة تنظيم الحركة الوطنية، فقمت بالمهمتين مبتسماً، كعادتك.. وكانت لكما مع حافظ الاسد لقاءات عديدة كثيرا ما تدخلت في سياقها للتهدئة او لإعادة الحوار إلى السياق في ظل ابتسامة عريضة يطالعك بها حافظ الاسد وهو يقول: من الوالد إلى الابن.. وانت ترد ضاحكاً: لقد اشترطت على وليد أن يتولى نجله تيمور غيري ممن هم اقرب إلى عمره وافكاره ومزاجه الخاص.
***
يا ابا خالد،
لدي الكثير من حالات الاحباط والخيبة، بل المآسي الوطنية والقومية التي كنت اريد أن احدثك عنها، لو أنك في تمام صحوك وظرفك والرد بما تبدعه جعبتك من النكات المرتجلة وحسن تقديرك للموقف، في كل حال وأوان..
ولقد كنت اقرأ في صمتك التي تضيئه ابتسامتك الناطقة الكثير من صفحات أيامك الغنية بالذكريات عن الانتصارات والخيبات والانتكاسات، من 5 حزيران/يونيو 1967 إلى خروج المقاومة الفلسطينية من الاردن 1970- 1971، إلى استقرارها في لبنان بكل ما ألحقته من اذى بتنظيماتها كما بالأحزاب والتنظيمات السياسية التي انشأتها لتكون بوقها وخط الدفاع الاول عن وجودها في لبنان… لكنها انهارت جميعا مع دخول قوات الاحتلال الاسرائيلي بقيادة شارون ومساندة “القوات اللبنانية”، فهتكت حرمة المخيمات وقتلت من وجدت من الشباب والفتيات واعتقلت كل من اشتبهت بهم، تاركة الطريق إلى البحر مفتوحا، حيث كنت قد وقفت، قبل أسابيع قليلة، إلى جانب وليد جنبلاط لوداع الراحلين.. و”ابو تيمور” يطلق الرصاص من رشاشه ايذانا بانتهاء مرحلة من وهم الانتصار وعودة الحقيقة لتفرض نفسها على الارض والوقع معلنة انتهاء حقبة عظيمة من تاريخ العمل الوطني والقومي في لبنان.
***
يا ابا خالد،
يا آخر نجوم حقبة الانتصارات وإقتراب ايدينا من قطاف الاحلام.
لقد كنت آخر الكبار في جيلنا. وكان صمتك في السنوات الاخيرة يدوي بالخيبة والقهر من العجز عن القبض على الاحلام بالنواجذ، وتركها تهرب منا لتتركنا للكوابيس وعجائز السياسيين ورؤساء الخيبات التي دمرت حاضرنا ومستقبل الأمة.
ربما لهذا وألف سبب آخر نكاد نحسدك على رحيلك وقد طويت خلفك آخر أحلامك وأدرت ظهرك لدنيانا التي تنتظر فجراً لا يجيء بينما نحن نسبح في بحر الظلمات.
لقد ذهب “ابو خالد” الاصيل وها هو “ابو خالد” البديل يدير ظهره لنا ويرحل ملتحقاً بالقائد الذي تخلى عنه، ذات يوم، طالباً غفرانه مع التوبة وبعدها.