مواجهة الامبريالية الأميركية؛ ما معناها، كيف نخوضها؟

مواجهة أميركا. كثيراً ما يطرح السؤال أمامك. لا بدّ من تعليق برغم أن السؤال أصبح خارج الموضة.

واقع الأمر هو أن العالم ذو قطب واحد هو الولايات المتحدة التى توزع جيوشها على قواعد (معترف وغير معترف بها) حول الكرة الأرضية. عملتها هي العملة الصعبة في كل العالم. بها تقاس كل القيم. هي البلد الوحيد الذي يطبع عملته ويوزعها على العالم كأنها قدره. لا يحمي العملة الاقتصاد بل القوة العسكرية. عالم العولمة أشبه بفيدرالية لها جيشها وعملتها ومجلسها الرئاسي (الأمم المتحدة) ومؤسساتها البيروقراطية (أهمها منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي). ولها شرطتها في الجيوش المحلية. وفي حكام الدول رؤساء الولايات المحلية.

جمهورية غير رسمية. الدول أعضاء في هذه الجمهورية غير الرسمية وحتى ولو حافظت على بعض السلطات المحلية. بالتأكيد، السيادة والاستقلال هما في خبر كان. تؤدي الولايات الدولية ما عليها. تتقيّد بالقانون الدولي، وإلا تكون النتائج مما لا تحمد عقباه. من يخالف (كبر أو صغر، أكان فرداً أو مؤسسة أو دولة) تنزل به عقوبة. العقوبة تقررها رئاسة العالم. يديرها جهاز في وزارة المالية. الكونفدرالية الأميركية هي نظام العالم. هي التي تضع القوانين له. وهي تطبق هذه القوانين. بالطبع تطبق القانون لصالحها. وإذا كان رئيسها مزاجياً متقلّباً في أهدافه مثل ترامب، وليس بعيداً عن عنصرية موروثة، فإنه سوف يطبق القوانين بعشوائية. في حالته هي عشوائية غير مسبوقة، مما يبعث على الحيرة لدى حكام الولايات الأوروبية وغيرها في العالم. الوزارة الحقيقية من أصحاب الثروات تجتمع سنوياً أو دورياً في مكان ما في الولايات المتحدة. دافوس لم تعد إلا للمشهدية.

مقابل ذلك ليس هناك اتحاد سوفياتي ينافس الولايات المتحدة على قيادة العالم. لا خوف لديها من قوى خارجية، ولا خوف من قوى داخلية يمكن أن ترتبط سياسيا بقوة خارجية. لا قوة خارجية تنافس الولايات المتحدة، والإجراءات التي تتخذها حيال العالم هي بمجموعها ما يُسمى القانون الدولي. المجموعة الدولية هي الولايات المتحدة والولايات الأوروبية التي تتلقى تعليماتها من الولايات المتحدة. ربما سُمح لها ببعض الاجتهاد في التطبيق.

ليس أكيداً أن كمية الدولارات في العالم تعبر عن قوة إنتاجية في الولايات المتحدة، بل عن قوة عسكرية حول العالم. ليس نمط الإنتاج الأميركي هو مصدر القوة الأميركية بل الجيش

الدول الكبرى (الصين، الاتحاد الروسي، بعض الدول الأوروبية) أيضاً تخضع وتنفّذ وتُهدّد بالعقوبات. الدول الكبرى محلياً في المناطق (تركيا، ايران) لا قدرة لها على الحركة. تركيا في ليبيا بإيعاز أميركي، وايران في لبنان وسوريا والعراق واليمن دون إيعاز أميركي. لذلك تكون العقوبات أقسى.

هذا النظام العالمي (معوّلم أحياناً، وعولمة ناقصة أحياناً أخرى) هو نظام العالم. عملته الدولار. أمّنه الجيش الأميركي بقواعده حول العالم. اقتصاده موزع حول العالم. عملته يحميها الجيش. قيمتها (العملة) الاقتصادية مشكوك فيها. ليس أكيداً أن كمية الدولارات في العالم تعبر عن قوة إنتاجية في الولايات المتحدة، بل عن قوة عسكرية حول العالم. ليس نمط الإنتاج الأميركي هو مصدر القوة الأميركية بل الجيش. ربما صعدت قوة اقتصادية في بلدان حول العالم، لكن الأميركيين سرعان ما يتخذون إجراءات ومنها القوة العسكرية الى جانب القوة المالية كي يضع هذا النظام الصاعد في أي مكان في العالم رجليه على الأرض، ويأخذ حجمه الطبيعي المرسوم له.

هي قوة غاشمة ليس لديها أصدقاء دائمين (عدا اسرائيل)، بل شركاء يتبدلون بين فينة وأخرى، حسب الظروف، وحسب المهام المطلوبة منهم. لم يعد أمراً عادياً أن تنزل الجيوش الأميركية على الأرض لمقاتلة بلد معادٍ. استخدام الطيارات دون طيار جاهزة لقتل الأفراد. الدول المشاكسة تُثار المشاكل ضدها في الداخل ( تفجير منشآت، اغتيالات لشخصيات بارزة، الخ…).

في المقابل، لم يعد القتال على طريقة حروب التحرر الوطني مثل فيتنام أمراً ممكناً. على العالم أن ينتظم في ولايات ذات عساكر مدربة منتظمة وحكومات تنقل التعليمات. حروب الغوريلا صارت من الماضي. وإذا ظهرت تنظيمات مثل داعش، فإنها تتعامل وكأن مقاتليها أشبه بالجيوش. غالباً ما يكون هؤلاء مرتزقة محليون أو مؤدلجون من حول العالم للمجيء وتأدية مهامهم لقاء أجر. يستخدمون حيث تريد الولايات المتحدة حروباً اهلية. أما التنظيمات المعادية كحزب الله، فإن هذه تُنزل عقوبات بشعوبها، وعليها أن تواجه شعوبها لحل مشاكلها. أو تُثار مشاكل داخلية لدى بلد المنشأ كإيران مثلاً.

القوى المعادية لسياسة الولايات المتحدة تواجه وضعاً جديداً في العالم. هم ليسوا مقاتلين يضربون ويهربون. هم مرتبطون ببلدان ترزح تحت العقوبات وتعاني صعوبات اقتصادية ومالية واجتماعية، مفتعلة وغير مفتعلة، لكن غالباً ما يُستفاد منها امبريالياً. يعاني بلد المنشأ صعوبات مع أذرعه لناحية الدعم والتمويل. عملية أجاكس لإسقاط مصدّق عام 1953 جرى تطويرها وتوسيع مجال عملها. عمليات الاغتيال والتدمير والتخريب تدار بواسطة طيارات دون طيار. تُدار لتصيب أهدافها. موجهة من فلوريدا أو نيفادا. أساطيل تجوب العالم لإرهاب كل شعوب الأرض. لا لزوم للنزول الى الأرض إلا في الحالات القصوى. كأن الجيوش البرية لا لزوم لها إلا حين الاحتلال. وهذا نادراً ما يحدث.

الصين وروسيا تضطران الى التنسيق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. مدخرات الصين في الولايات المتحدة مرتبطة بأسهم الخزينة. وروسيا تصعد وتهبط حسب سعر النفط الذي تتلاعب به الولايات المتحدة

في عام 1997، ذابت اقتصادات شرق آسيا عندما انسحبت الرساميل وتدفقت منها الى الخارج. اضطرت هذه الدول (تايلاند، كمبوديا، كوريا الجنوبية، إلخ…) الى الانصياع لبرنامج صندوق النقد الدولي، وتراجع نموها، وأحنت رأسها. الولايات المتحدة لا تخوض صراعاً اقتصادياً في أي مكان في العالم. تخوض صراعات عدة بالدولار كقوة محمية بالعسكر، والعسكر الأميركي يجوب أنحاء الأرض للتأكد من أن كل شيء يجري على ما يرام، خاصة الصناعات الأميركية في الخارج. لا مانع من أن تكلّف الولايات المتحدة هذا البلد الأوروبي للقيام بمهام معينة في هذا القطر أو ذاك. حتى الصين وروسيا تضطران الى التنسيق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. مدخرات الصين في الولايات المتحدة مرتبطة بأسهم الخزينة. وروسيا تصعد وتهبط حسب سعر النفط الذي تتلاعب به الولايات المتحدة.

إقرأ على موقع 180  إيطاليا تتعرض للخيانة.. لماذا لا يساعدها بوتين؟

عالم يخضع للمراقبة. هناك المركبات الفضائية تتجسس. وهناك الأنف الذكي يتجسس. دفق المعلومات عبر الانترنت يعيد تشكيل وعي الناس، وثقافة العالم. حتى البلدان المعادية للولايات المتحدة تخضع للمراقبة التفصيلية من الأجهزة “الذكية” للولايات المتحدة.

عندما تريد الولايات المتحدة حرباً في منطقة معينة، تثير المتحمسين من دين أو مذهب معيّن ضد أندادهم من دين أو مذهب آخر. والخلافات الضاربة بالتاريخ جاهزة لإشعال الحروب الأهلية. تدخل جيوش أخرى من بلدان أوروبية أو بلدان كبرى في المنطقة للتعمية. عدد الجيوش العالمية والمحلية في سوريا كبير. سوريا مستباحة بالطيران الاسرائيلي. لا أحد من جيوش أعداء أو أصدقاء اسرائيل في سوريا يرفع رأسه أو يحتج، ناهيك عن المواجهة. اجتماعات لرؤساء تعقد خارج سوريا ليس فيها الرئيس السوري، ليُقرَّر مصير سوريا بدونه.

الثقافات المحلية تُدْرس وتوضب. هذه ضرورة علمية. معرفتها ضرورية إذا أن فيها أديان جاهزة للاشتعال ضد بعضها في أية لحظة. متى هدأت تكون وسائل التواصل الاجتماعي جاهزة لشتم المقدسات لإثارة النعرات. مفيد للنظام العالمي إبقاء النار تحت الرماد، وصب الزيت للاشتعال في أية لحظة. للأنثروبولوجيا والعلوم الانسانية دور كبير في ذلك. الذين يقدسون الحسين أو السيدة عائشة لا يعرفون أن هذا التقديس مادة من مواد الحرب الأميركية في منطقتنا. مقدساتنا ليست لنا. هي لنا ولهم في آن واحد. هي أدوات دينية لنا وأدوات قتالية لهم.

لم تتعلم شعوبنا أن الانغلاق الثقافي يؤدي الى حروب تنقرض بسببها شعوبنا ومقدساتها في آن واحد؛ وأن الانفتاح الثقافي يحافظ على شعوبنا وهي تحافظ على مقدساتها. في عالم معولم لم يعد بالإمكان الانغلاق الثقافي مهما كانت الأمور.  تعيش شعوبنا على منتجات الغرب التكنولوجية. وتعادي ثقافة الغرب وتقدس ثقافاتها المحلية. هل عاد ذلك ممكناً؟ أم الضروري إحالة ثقافاتنا الى الماضي لتصير موضوعاً للتاريخ؟ الانفتاح على تكنولوجيا الغرب يستدعي انفتاحاً ثقافياً. لا خوف على الدين. ألم تحافظ شعوب الغرب على أديانها برغم التطوّر التكنولوجي؟. ثقافاتنا التقليدية ما عادت تنفع في هذا العصر. بل ربما كان الأجدر إهمال ثقافاتنا للحفاظ على أدياننا. عندها نحافظ عليها مع حريات تضمن عدم نشوب الحروب الأهلية بينها (كأن لا نغضب لشتم هذا الرمز الديني أو ذاك). مواجهة الامبريالية الأميركية لن تكون ناجعة إذا كانت عسكرية أو مالية أو حتى اقتصادية. الأمر يستدعي مواجهة بيننا وبين أنفسنا، وذلك لإنتاج المجتمعات والأفراد القادرين على تحمل المواجهات. يكون ذلك بالعمل والحرية والإنتاج والتسامح والإيمان الفردي وإزاحة الطقوس الدينية وإنزال المقدسات من عليائها. الثقافة الجديدة ليس صعباً تحقيقها. ما يستدعيه الأمر هو رفع القبضة الايديولوجية عن الناس. الصين حققت ذلك في بضع سنوات من الصعود العظيم، برغم بقاء الاستبداد السياسي.

إنهاء الحروب الأهلية ضرورة قصوى وإلا يعتبر كل شريك فيها يعمل على إضعاف قدرة الشعوب على المواجهة؛ إن لم نقل أكثر من ذلك

تبنّي ثقافة الغرب لا يستدعي التخلي عن الدين. ربما كانت الولايات المتحدة (رأس الغرب) هي البلد الأكثر تديناً في العالم. ثقافة الغرب هي ثقافة العالم. ثقافاتنا المحلية فولكلورية في معظم الأحيان. الانغلاق الثقافي باسم الدين (وعدم الفصل بينهما ) هو مصدر ضعفنا في مواجهة الامبريالية، وهو مصدر اتجاهنا الى حروب أهلية لقتل وتدمير بعضنا البعض. لن يكون الانفتاح الثقافي ممكناً دون تقليص الدين الجماعي (الطقوس) وإعلاء شأن الإيمان الفردي. لن يزول الدين بزوال الطقوس، يزول بزوال الإيمان. وهذا لا يمكن أن يمسه أمر. طغيان الطقوس إضعاف للدين وجعل الاستبداد قيماً عليه. الاستبداد الثقافي (الديني) أشد هولاً من الاستبداد السياسي. حصر الثقافة بالدين مشكلة كبرى لدينا. يتوسع اطار الثقافة وإمكان تطورها وتجاوزها بفصلها عن الدين. الحرية الدينية (الاختبار الفردي) تصير أساسية لكل الحريات الأخرى.

السيطرة الثقافية طابعها جماعي؛ تسيطر الجماعة على الفرد وخياراته. الحرية لا تكون إلا فردية، تنبع من الضمير. استبداد الجماعة يقابله حرية الفرد؛ ويلغيه. المجتمع المتماسك هو مجتمع الأفراد الاحرار لا الجماعات. مجتمع المواجهة هو المجتمع المتماسك. يتماسك المجتمع بالحرية. الحرية فردية، التحرر جماعي. يمكن أن يقود التحرر الوطني مثلا الى الاستبداد.

يتماسك المجتمع من داخله بالسياسة أي بالحوار والنقاش والانفتاح. الانفتاح على العالم وتجنب أن يكون المجتمع مغلقاً. لا بد لكل ذلك من دولة تقود عملية الانفتاح مؤمنة بأن شعبها، وشعوب الأرض كافة، على عداء طبيعي مع الامبريالية الأميركية وليبراليتها الجديدة؛ دولة لا تخاف من الامبريالية. المجتمعات، خاصة الطبقات الفقيرة، هي التي تكتوي بنار الامبريالية أكثر من غيرها. وهي التي تجد ضرورياً مواجهة سياساتها التي تريد إفقارها وتهميشها. حكومات تواجه الامبريالية كتعبير عن أوجاع شعوبها. مواجهة الامبريالية ليست ايديولوجيا تفرض من فوق وتكبل المجتمع. تعري الحكومات نفسها عندما تواجه دون دعم شعبي يمنحها الشرعية التي يهددها الاستبداد بالإلغاء. الانفتاح الداخلي والخارجي على الناس وعلى العالم لا يضعف المناعة لدى الشعب بل يعززها.

مواجهة في عالم حديث غير ممكنة بوسائل قديمة، ولا بأساليب قديمة. هذه تجر الى حروب أهلية. حالياً يدفع العرب ثمن هذه الحروب قتلاً وتدميراً. امبريالية الرأسمالية العالمية، ورأسها الولايات المتحدة، تواجهها أممية الشعوب التي تُدْفع نحو الهاوية. إنهاء الحروب الأهلية ضرورة قصوى وإلا يعتبر كل شريك فيها يعمل على إضعاف قدرة الشعوب على المواجهة؛ إن لم نقل أكثر من ذلك.

حتى البلد (تركيا) الذي انتقل الى الحداثة في أواخر الربع الأول من القرن العشرين يعيد إحياء ماضٍ لا يمكن استعادته. المواجهة غير ممكنة ونحن نعيش في الماضي.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الثورات تنتكس ولا تموت.. مصر نموذجاً