لم ينجح لبنان على مدى المئة العام الفائتة في أن يكون دولة أو أن تكون لديه مؤسسات تضمن استمرارية الدولة واستقرارها.
لم يكن لبنان يوماً سوى مكانٍ تعيش فيه مجموعات متعددة من طوائف ومذاهب ومشارب مختلفة. يسعى كل منها لانتزاع حصته من السلطة التي تسمح له بتحقيق المغانم والمكاسب على حساب الآخرين، حتى ولو استعان لتحقيق ذلك بجهات خارجية، مر العديد منها على لبنان، تناوباً أحياناً وتزامناً أحياناً أخرى. ويبدو لبنان في ذلك أشبه بشركة مساهمة، يملك فيها كل من الأطراف الخارجية عددا من الأسهم، فإذا توافقت مصالح أصحاب الأسهم، تقدمت الشركة وازدهرت وإلا فإن الشركة (لبنان) سيكون مصيرها التراجع والفشل والتقاتل.
وقد شهدنا العديد من الحروب الأهلية والطائفية والمذهبية وحتى حروباً داخل المذهب والطائفة ذاتها بحثا عن نفوذ وسلطة أو خدمة لمصالح أصحاب الأسهم.
وإذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فإن الفشل ليس في إنشاء الدولة والمؤسسات فقط، بل يمتد إلى حقيقة لبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه. هؤلاء الأبناء يفتقرون لرؤية موحدة لمعنى الوطن في مصالحه وأهداف وجوده والمخاطر التي تتهدده ومن هم أعداؤه ومن هم اصدقاؤه، لا بل من هم أبناؤه حتى، وما هو دوره الإقليمي والدولي، هذه المفاهيم البسيطة التي تبنى عليها فكرة الوطن هي الأساس المشترك المفقود بين اللبنانيين، الذين لم يتفقوا منذ قيام لبنان على نظرة موحدة للتاريخ، فلكل مجموعة نظرتها المختلفة عمن هم الأبطال والخونة ومن هم الشرفاء ومن هم اللصوص والفاسدون حتى في العصر المعاش. بل إن روح الانتماء لوطن واحد غير موجودة أصلا لدى الجماعات المتعددة، لذا رأينا أن الحروب والأزمات التي مر ويمر بها لبنان كانت تعني دائما المناطق التي تمسها بشكل مباشر. وبكلام آخر كان لكل منطقة أو طائفة حروبها الخاصة التي لم تكن تعني الآخرين، حيث أن المناطق التي لا تطالها المعارك أو الاضطرابات بشكل مباشر، تبدو وكأنها موجودة على كوكب آخر لا يعنيها ما يحدث في جزء مما يفترض أنه وطنها أيضا.
من هنا يمكن القول ان أياً من الجماعات المتعددة في لبنان لم تقاتل يوما من أجل لبنان الوطن، بل كانت كل فئة تشن حروبها الخاصة للدفاع عن وجودها ومناطقها أو مناطق وجود جماعتها. ويعود السبب في ذلك إلى غياب فكرة الدولة المؤسسة الجامعة التي ينخرط فيها الجميع للدفاع عن وجود الجميع.
دائماً يأتي المذهب في المرتبة الأولى وبعده يأتي الوطن، وبهذا يصبح زعيم المذهب وحزبه المدخل الحتمي لحجز مقعد في الشركة المساهمة (الوطن)، لتبدأ عملية تبادل منافع بين زعيم الطائفة وأبنائها. هو يكبر بدمهم ودمائهم وحتى بدموعهم وهم يعيشون في فيء زعامته
حتى الأجهزة الأمنية، التي يجب أن تناط بها مهام الدفاع عن الوطن الواحد وحماية الأمن، لم تبن كمؤسسات وإنما هي أيضا خاضعة للمناصفة والمحاصصة والتوزيع الطائفي والمذهبي، فتسيطر كل جماعة على أحد الأجهزة، ولا تثق بالأجهزة الأمنية الأخرى.
وبالتالي يصبح الجيش مثلا مجرد وظيفة يسعى أبناء القرى للظفر بها، لعلها تؤمن لهم عيشا كريماً وطبابة وراتباً تقاعدياً لا توفره الكثير من المهن الأخرى. أما الضباط فيدخلون الكلية الحربية بناء على توصيات من زعماء الطوائف والقوى السياسية، ويعودون بعد خروجهم من السلك العسكري للانضواء تحت عباءة طوائفهم وجماعاتهم، وهذا ما تؤكده الإطلالات التلفزيونية للضباط المتقاعدين، الذين نرى انحيازهم لانتماءاتهم الطائفية أو الحزبية (وجهان لعملة واحدة) والمواجهات الكلامية التي يخوضونها في ما بينهم وكأنه لم يجمعهم جيش واحد في يوم من الايام. لا بل ان البعض من كبار الضباط يجاهر بانتمائه لجهة سياسية او حزبية حتى خلال وجوده في الخدمة الفعلية.
ولا يقتصر التوزيع الطائفي والمحاصصة المذهبية على الأجهزة الأمنية وحدها بل ينسحب على كل الوظائف في الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، من وظائف الدرجة الأولى والسلك الديبلوماسي والمصرف المركزي مرورا بالقضاة وعضوية المجلس العدلي وحتى أسفل السلم الوظيفي.
ولا يخفى على أحد أن الجماعات المختلفة كافة، متفقة على ضرورة الحفاظ على الانقسام، فعبره يتعزز حضور الجماعة وزعمائها. وبما أن لبنان يعتمد المحاكم الشرعية الدينية في قضايا الأمور الشخصية، بما يجعل الانتماء لمذهب ما شرطا للانتماء للوطن. لذلك، تصبح المعادلة أنت بلا مذهب، أنت بلا هوية وبلا جنسية وبلا وظيفة وبلا حتى عقد زواج. دائماً يأتي المذهب في المرتبة الأولى وبعده يأتي الوطن، وبهذا يصبح زعيم المذهب وحزبه المدخل الحتمي لحجز مقعد في الشركة المساهمة (الوطن)، لتبدأ عملية تبادل منافع بين زعيم الطائفة وأبنائها. هو يكبر بدمهم ودمائهم وحتى بدموعهم وهم يعيشون في فيء زعامته فتطالهم مكارمه على شكل وظيفة أو حماية أو سبيلا من سبل الاسترزاق.
ومن البديهي أن يؤدي الفشل في بناء الوطن إلى فشل في إعداد المواطن، وأن يؤدي غياب المؤسسات إلى عدم احترامها واحترام القوانين والتعليمات الصادرة عنها، كونها لا تسري على الجميع، ولأن الجميع ليسوا سواسية امام القانون. فمن يحظى بدعم طائفته أو مرجعيته السياسية لا يتعرض للمساءلة أو المحاسبة مهما كان جرمه، مستغلا التحريض المذهبي والطائفي للإفلات من العقاب، وهذا ما يجعل من مخالفة القانون مظهرا من مظاهر النفوذ والقوة وسببا للتباهي.
وفي ظل العجز عن المحاسبة يستسهل كل حسب موقعه وقدرته الاختلاس واستغلال النفوذ والسرقة وتلقي الرشى والتهرب الضريبي وحتى مخالفة قوانين السير وصولا للاستهتار بتعليمات الأمن والسلامة العامة. هذه الأخيرة قد تكون سبب الكارثة التي ضربت بيروت يوم الثلاثاء الماضي. هل تستغربون أن يقع ما قد وقع وأن يتكرر مستقبلاً؟