يقول ونستون تشرشل “ان الكمال قد يتوفر عند رجل الكنيسة ولكن حتماً ليس عند وزير او رئيس وزراء”، ويقول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون “ان على الرئيس ان يختار الوزير الصالح للبلاد وليس الذي يكون عبداً عنده”، د. غازي وزني الذي تولى وزارة المال في حكومة حسان دياب، لا يدّعي الكمال، ولا يقبل أن يكون عبداً عند أحد. سيرته الأكاديمية والمالية والأخلاقية، لم تتلطخ طيلة حياته بشيء، لكنه حتما فوجئ حين دخل الى قلب السلطة، ان لا مكان للأخلاق في مغارة علي بابا اللبنانية، وان القابضين على زمام البلاد، اما يدفعون الوزير الى الخضوع، او القبول برشوة، او الاستقالة.
تقول المعلومات، ان غازي وزني كان قد حمل استقالته الى الرئيس نبيه بري منذ فترة طويلة، قبل أن يفكر أي شخص آخر من حكومة حسان دياب بالاستقالة. علّل آنذاك الاستقالة بإنسداد الأفق الإقتصادي والمالي وضرورة إحداث صدمة. شكا أيضا من عقم البقاء في منصب لن يحقق شيئاً في ظل الظروف السياسية الراهنة. فكان رد الرئيس بري أن يتريث لان لبنان لا يحتمل الآن خضة حكومية بغياب أي بديل ونظرا للظروف الإقليمية والدولية القاتمة. لم يكن وزني قادراً على مخالفة رأي بري ليس فقط لأنه صاحب القرار بتعيينه ولكن لأنه اعتبر ان الاستقالة دون موافقة بري هي شيء من خيانة الأمانة، وهذه ليست من طباعه.
تعرّفنا، نحن مجموعة اعلاميين، على غازي وزني منذ سنوات بفضل زوجته الزميلة والصديقة المحترفة والمحترمة نجاة شرف الدين. كان قليل الكلام، لكن حين يتحدث يقول ما ينبغي قوله، من دون زياة ولا نقصان. لا يُشبه صوتُه الخفيض سوى تواضعه، وهذه صفات نادرة عند أمثاله ممن حققت عائلاتهم ثروات في افريقيا، فيعرضون مظاهر الثروة على طاولات المقاهي والمطاعم والسيارات، وفي كل مناسبة. لعلّ معظمنا لم يكن متحمساً لقبول وزني الوزارة، فلا الظرف مناسباً ولا إمكانية النجاح متوفرة، ولا الحكومة جاءت أصلاً لكي تحكم وتنجح، وانما كان المطلوب منها تقطيع الوقت بإنتظار ظروف محلية ودولية وإقليمية تعيد القابضين على السلطة الى السلطة التنفيذية من خلال رجل يتفقون عليه. لكن غازي وزني اعتقد أنه يستطيع ان يوظف خبرة سنواته الطويلة في عالم الاقتصاد والمال لأجل انقاذ ما يمكن إنقاذه. ولعله دفع من جيبه على بعض تكاليف الوزارة بدلا من استغلال المنصب كما فعل كثير من الوزراء في خلال مسيرة لبنان الطويلة منذ الاستقلال حتى الآن.
ربما الكتابة عن غازي وزني، وهو في الوزارة، كانت ستبدو نمطاً من التملّق، لكن الآن وقد عاد الينا معافى من براثن حيتان المغارة اللبنانية المترامية الأطراف، نستطيع القول ان هذا الصديق الوطني العروبي الصادق والذي درس في الغرب ونال شهاداته العليا في المال والاقتصاد من ارقى الجامعات الفرنسية (دوفين)، حاول فعلاً ان يحقق شيئاً وسط غابة الذئاب. او لعلّ طيبة القلب حجبت العقل عن الواقع المرير.
ماذا حقق؟
يقول وزني “ان الازمة اللبنانية متعددة الأوجه؛ اقتصادية، اجتماعية، مالية، نقدية، مصرفية ودين عام”، ويضيف ان الحكومة ووزارة المال وضعت خارطة طريق عبر خطة للتصحيح المالي دخلت بموجبها في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، واي حكومة ومهما كان لونها ستكون مجبرة على سلوك المسار نفسه مع بعض التعديلات التي كان يتم العمل عليها مع وزارة المالية”.
وحين نسأل غازي وزني، هل فعلاً كنتم تشعرون بضغوط أميركية في ما يتعلق بروزنامة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي او شروطه، خصوصاً ان ثمة من نصحكم بالاتفاق مع واشنطن او مع مخابراتها كما جرى مثلا مع الأردن او العراق لرفع قيمة القرض من أقل من ٣ مليار الى ضعف هذا المبلغ، يجيب أن العلاقة مع صندوق النقد الدولي “كانت تقنية بحتة وشروطها واضحة، وترتكز على الاصلاح ولم نلمس اي بند سياسي او تأثير سياسي في المحادثات، وقد كنا في المرحلة الاولى التي امتدت على مدى ١٧ جلسة وفي المرحلة الثانية كان يفترض ان يقدم الصندوق برنامجه وفي المرحلة الثالثة يكون البحث في المساعدات والدعم وحجمه. نعم كنا ما نزال في المرحلة الاولى وكانت الاجواء ايجابية وتقنية بحتة”.
لكن الليرة انهارت في زمن وزارتكم، الا تتحملون مسؤولية ذلك؟
بالنسبة لليرة اللبنانية، يضيف غازي وزني، فإن مقوماتها “كانت منهارة قبل حكومة حسان دياب، حيث توقفت التدفقات المالية من الخارج وحتى من المغتربين اللبنانيين نتيجة عدم الثقة بالمصارف التي احتجزت اموال المودعين. كما ان خوف اللبنانيين من المستقبل بعد ثورة ١٧ تشرين/أكتوبر والتوتر السياسي والتهافت على الدولار لتأمينه كضمانة وملاذ للمستقبل، كلها عوامل لعبت دورا جذريا في ما حصل، فهناك اكثر من ٤ مليارات دولار في المنازل نتيجة الخوف والقلق وعدم الثقة”.
كما ان المقاطعة الخليجية والدولية وانحسار المساعدات الى لبنان “أثرا بشكل كبير على سعر الصرف”. يستتدرك وزني ويقول “ان سوء ادارة الازمة المالية ايضا كانت من العوامل التي ساهمت بالأزمة”.
يضاف الى ما تقدم جائحة كورونا التي شلّت الوضع الاقتصادي في لبنان والعالم وأثرت بالعمق على القطاع الاقتصادي مما ادى الى انكماش بنسبة ١٣ في المئة. يعني ازمة المصارف وحجز اموال المودعين ووقف التحويلات وفقدان الثقة وتراجع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية حيث لم يعد لديه القدرة للتدخل لحماية الليرة وعدم ثقة المواطن بالسلطة واستمرار التوتر السياسي والتهريب والحاجة للعملة الصعبة، كلها عوامل ادت الى انهيار سعر صرف الليرة. ولا يمكن معالجة سعر الصرف قبل معالجة كل هذه العوامل لإعادة الثقة بالليرة، على حد تعبير وزير المال اللبناني في حكومة تصريف الأعمال حالياً.
حتى في اجاباته بعد الاستقالة، يبقى غازي وزني متسلحاً بدماثة الاخلاق، فيتجنب الخصام والصدام مع أحد، برغم ان العارفين بكواليس الحكومة يدركون أن شخصية رئيسها د. حسان دياب كانت أيضا أحد أسباب المشكلة، ذلك ان التمسك بالكرسي وضع دياب والوزراء التقنيين المحايدين، أمام معضلة التنازلات التي وافق عليها رئيس الحكومة لكي يستمر بأي ثمن، ناهيك عن إختصاص هدر الوقت بإجتماعات مارتونية، فيما كان الإنتاج شبه معدوم.
فشلت الحكومة في بلسمة جراح الناس، وحلّت كل الكوارث على عهدها (جائحة كورونا، انهيار الليرة، غلاء فاحش، ثم تفجير المرفأ)، بعض هذه الازمات كانت بفعل القدر وبعضها بسبب الإهمال أو بسبب سوء الإدارة والفساد، ولعلّ خطأ رئيسها الذي شنّف آذان الناس بالوعود عن الاستقلالية والحياد هو انه فضّل الكرسي على الاستقالة عند تعرّضه لأول محاولة لفرض المحاصصة، وخطأ غازي وزني أنه لم يرم الاستقالة في وجه الجميع ويرحل قبل شهرين مهما كانت النتائج. هذا بالضبط ما نلومه عليه. فوزير الدفاع الفرنسي السابق واليساري العتيق الشجاع جان بيار شوفنمان، قال حين اجتاحت اميركا وبريطانيا العراق ان الوزير “اما يغلق فمه او يستقيل”.. واستقال.