أبادر سريعاً إلى تسجيل ملاحظة شخصية: من أشق الأمور على كاتب هذه السطور، وفي الواقع على أي إنسان لا يزال يتمسك بقدر من القيم العليا ومسائل الضمير والأخلاق التي باتت عملة نادرة في عصر العولمة التكنو-رأسمالية، أن ينتقد سياسة بلد احتضنه هو وعائلته طيلة سنوات سبع (1987-1994) إبان الحروب اللبنانية، وكان له فيها صداقات وهموم ومعارك مشتركة مع شخصيات إماراتية نقيّة وفذّة كتريم عمران وعبد الله عمران، ومن خلالهما تثمين رفيع لمواقف وإديولوجيا حاكم الشارقة الشيخ سلطان، دفاعاً عن الهوية العربية الحضارية، وفلسطين، والنهوض العربي، والقيم المشرقية.
أكثر من ذلك: في هذا النقد خوف على هذه الدولة، وعلى بقية شعوب الخليج، أكثر منه مجرد تعبير عن خلافات: خوف من أن يؤدي التطبيع إلى جملة معقّدة وفي غاية الخطورة من الأزمات التي قد تنفجر كالبركان كلها دفعة واحدة: اهتزاز الاستقرار الأمني الذي سمح بنهضة اقتصادية وثقافية وفكرية ملموسة دفعت العديدين إلى الحديث عن “لحظة خليجية” في التاريخ العربي؛ تفاقم مخاطر التركيبة السكانية المُختلة أصلاً بشكل مخيف بفعل احتمال تمدد الأزمات الإقليمية (من اليمن إلى ليبيا مروراً بالحروب مع تيارات الإسلام السياسي، والآن مضاعفات ومخاطر التطبيع السريع مع إسرائيل) إلى أرض الإمارات والخليج؛ والأهم: التشوّه “النهائي” الذي قد يضرب الهوية المشرقية العربية الإسلامية في الخليج على يد تحالف العولمة الرأسمالية واليهودية الصهيونية العالمية.
عبد الخالق عبد الله في كتابه “لحظة الخليج”: تعاني معظم دول الخليج من خلل سكاني كبير وتتّجه إلى مرحلة حرجة من اقتلاع الجذور
هذه الهموم والمخاوف الكبرى كانت موجودة قبل خطوة “السلام مقابل السلام” مع إسرائيل. وقد لخّصها المفكّر الإماراتي د. عبد الخالق عبد الله (في كتابه “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر”) كالآتي:
– “لحظة الخليج”، التي تمثّل انتقال مركز الثقل العربي إلى الجزء الخليجي، لا تنم عن أي استعلاء أو غرور. إذ لا يود الجزء الخليجي من الكل العربي أن يخترع لنفسه مكانة لا تليق به، وليس في وارد دُوله تقمّصَ ريادة لا تناسبه، كما ليست لدى المواطن الخليجي رغبة في تقمّص شخصية وهوية غير هويته العربية.
– أمام “لحظة الخليج” تحديات جسام أهمها التحدي الأمني، والسكاني، والديمقراطي، والإصلاح السياسي، والتوفيق بين ما هو محلي وما هو عالمي. وهذا ما يجعل الجزء الخليجي قاصراً عن تقديم نموذج إديولوجي وسياسي وفكري مقنع يصلح لبقية المنطقة العربية.
– تعاني معظم دول الخليج من خلل سكاني كبير وتتّجه إلى مرحلة حرجة من اقتلاع الجذور. فقد تراجعت نسبة المواطنين في كل من قطر والإمارات إلى نحو 10 في المئة فقط من إجمالي السكان، وقد تصل فيهما إلى أقل من 5 في المئة العام 2027 وربما 1 في المئة سنة 2035 وصفر بعد ذلك. وهذا وضع كارثي سائد في بقية دول الخليج ولا سابق له تاريخيا.
– حسنات العولمة كثيرة وفوائدها الاستثمارية والتقنية والمعرفية ملموسة. لكن، كلما تمدّد الكل العالمي شبراً انكمش المكوّن المحلي والوطني متراً على كل مستوى من المستويات الحياتية والفكرية والسلوكية. وفي ظل الصعود المتواصل على سلّم العولمة، بدأت مجتمعات الخليج تفقد أموراً جوهرية وعزيزة، لها علاقة بالتراث واللغة والعادات والهوية والعروبة والعقيدة. وبالتالي، من دون حسم الجدل بين المكوّنين المحلي والعالمي، ستعاني دول الخليج من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي يفاقم بدوره عدم الاستقرار الأمني.
إذا كان الوضع على هذا النحو من الخطورة قبل السلام التطبيعي مع إسرائيل، فكيف سيكون بعده؟
أقل ما يمكن أن يحدث هو أن المواطن الإماراتي والخليجي سيشعر بغربة كاملة عن بيئته المشرقية والعربية والإسلامية، وهو محاط بهذا القدر من التغريب بين عولمة تكنو- رأسمالية كانت لا تني منذ سنوات تقتلعه من جذوره الثقافية والتاريخية، وبين صهيونية ستدفعه الآن، شاء أم أبى، إلى القطيعة الفعلية مع كل الحضارة المشرقية العربية والإسلامية.
في حال أقدمت الشعوب والنخب العربية الأخرى على عزل شعوب الخليج، وإدانتها، والدعوة إلى قطع روابطها بالحضارة المشرقية، ستقدّم بذلك خدمة جلى لتحالف الصهيونية- العولمة، بدل مساندة العرب الخليجيين
لقد حذّر عبد الرحمن منيف، في “مدن الملح”، قبل سنوات عدة من أن ترك الحبل على الغارب لحداثة منفلتة من عقالها، سيؤدي إلى جعل المواطن في شبه الجزيرة العربية أشبه بالضفدع في مرحلة نموه الوسيطة، حيث لا تكون له علاقة بماضيه ولن تكون له علاقة بمستقبله.
بيد أن الصورة ستكون أخطر الآن بما لا يقاس، لأنه سيضاف إلى تغريب الحداثة، تسليم الهوية الحضارية المشرقية العربية والإسلامية إلى حركة صهيونية عنصرية شوفينية كان أرنولد تويني أكد أنها لن تستطيع البقاء والاستمرار، إلا إذا قضت أولاً على الحضارة العربية الإسلامية. أحد هذين النقيضين يجب أن ينتصر. فهل سيكون المواطن الخليجي مستعداً لمشاركة إسرائيل في عملية تدمير حضارته نفسها، وتاريخه نفسه، وقيمه نفسها؟
هذا هو الزلزال الحضاري الخطير الذي قصدناه، حين قلنا أن صفقة “السلام مقابل السلام” بين الإمارات وإسرائيل، لن تقتصر فقط على البعد الجيو- سياسي أو الاقتصادي أو التقني، بل ستضرب بمعاولها معنى وجود الإنسان الخليجي وشخصيته وتوازناته النفسية والحضارية.
وإذا كان من الصعب معرفة ردود الفعل الشعبية الخليجية على هذه القفزات الخطرة في الهواء، على رغم أن تجربة أسامة بن لادن، الذي شكّل هو الآخر رد فعل على تحديات الهوية، حاضرة وجاهزة، إلا أنه يجب القول أنه في حال أقدمت الشعوب والنخب العربية الأخرى على عزل شعوب الخليج، وإدانتها، والدعوة إلى قطع روابطها بالحضارة المشرقية، ستقدّم بذلك خدمة جلى لتحالف الصهيونية- العولمة، بدل مساندة العرب الخليجيين لمواجهة التسوناميات المخيفة التي تجتاح الآن كل شبر من أرضهم وكل بئر وواحة حضرية وحضارية فيها.
حقاً كان الله في عون أشقاءنا العرب الخليجيين.
***
ماذا الآن عن طبيعة الصراع الإقليمي الجديد في المشرق المتوسطي غداة “السلام مقابل السلام” الخليجي؟
راجع للكاتب:
(1) السلام الإماراتي – الإسرائيلي: زلزال جيو- سياسي أم حضاري؟
https://180post.com/archives/12267
(2) الزلزال الإماراتي – الإسرائيلي: تهويد المشرق والخليج
https://180post.com/archives/12285