سعد محيو15/08/2020
لم يكن توماس فريدمان، الكاتب في "نيويورك تايمز" والخبير بشؤون المشرق المتوسطي، مبالغاً حين قال إن "إتفاق إبراهيم" أو صفقة السلام الإماراتية - الإسرائيلية هو "زلزال جيو- سياسي، ستشعر به كل المنطقة... لأن هذه هي المرة الأولى التي يُقايض فيها السلام مقابل السلام، وليس الأرض مقابل السلام".
صح. إنه فعلاً زلزال جيو- سياسي. فهو زلزل الأرض التي كان يقف عليها قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242، الذي استند (وفق رغبة الولايات المتحدة) إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، والذي كان ركيزة كل السياسات الأميركية والدولية في المشرق طيلة نيف وخمسين سنة. القرار أيضاً هو الصرح الذي أُشيدت فوقه اتفاقات السلام المصرية والأردنية والفلسطينية مع إسرائيل، وتم بموجبه الاعتراف بوجود إسرائيل كدولة “عادية” في المنطقة، وكُرِّست في سياقه (وهنا الأهم) منظومة “الدول – الأمم” التي أقيمت بإشراف الغرب غداة الحربين العالميتين الأولى والثانية.
والآن، ومع تبخّر هذا القرار رسمياً، ومعه بالاستتباع، كل قرارات الأمم المتحدة والمواثيق والشرعات الدولية، ستكون كل الخرائط والحدود والكيانات عُرضة إلى التبديل والتغيير في المنطقة، وفق معادلة دولية – إقليمية ضمنية جديدة هي “الأرض لمن غَلَبْ، والسلام لمن يقبل الغُلَبْ”. وهذا بالطبع لن ينطبق فقط على فلسطين، بل سيطال كل دول ودويلات وكيانات الإقليم بلا استثناء. إنها ستكون حرب الجميع ضد الجميع مُغلّفة بشعار “السلام مقابل السلام”. وهذا سيكون تطوراً بديهيا، لأنه إذا كان مُجازاً شطبُ أرض مقدّسة كأرض فلسطين من المعادلات والمفاوضات، فهل سيكون من المستبعد بعد ذلك تمدد المعادلة إلى أراضٍ “غير مقدسة”، مثلاً بين الامارات والسعودية، أو إيران والبحرين، أو تركيا وسوريا، أو المغرب وموريتانيا، أو العراق والكويت، إلخ؟
تعبير الزلزال الجيو- سياسي، إذاً، صحيح ودقيق. لكنه مع ذلك، غيرُ كافٍ لفهم الابعاد الحقيقية للسلام الإماراتي، وقريباً الخليجي، مع إسرائيل. في الميزان هنا ما يتخطى بشكل كبير وخطير حتى هذا الزلزال الجيو- سياسي الكبير والخطير. إنه الزلزال الحضاري الذي سيتسبّب هذا السلام.
السلام الخليجي المُقبل لن ينطلق من الجيو- سياسة ليصل إلى الجيو- تطبيع فكري وثقافي وإديولوجي، كما فعلت مصر والأردن، بل هو يبدأ مع هذا التطبيع الأخير، إلى درجة أن الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية ستأتي بالنسبة إليه في الدرجة الثانية
ماذا؟ زلزال حضاري؟ كيف، لماذا؟
للأسباب التالية:
أولاً، السلام الخليجي المُقبل لن ينطلق من الجيو- سياسة ليصل إلى الجيو- تطبيع فكري وثقافي وإديولوجي، كما فعلت مصر والأردن، بل هو يبدأ مع هذا التطبيع الأخير، إلى درجة أن الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية ستأتي بالنسبة إليه في الدرجة الثانية.
ثانياً، في 2 نيسان/إبريل 2018، أجرت “ذي اتلانتيك” مقابلة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قال فيها رداً على سؤال ما نصه حرفيا:”اعتقد أن كل شعب، أينما كان، له الحق في العيش في أمّته المسالمة. أعتقد أن للفلسطينيين والإسرائيليين الحق في أن تكون لهم أرضهم الخاصة”. وقد علّق مفاوض السلام الأميركي السابق ديفيد روس على هذا الموقف بقوله:”كان العرب المعتدلون يتحدثون عن حقيقة وجود إسرائيل، لكن الاعتراف بـ”حق” أرض الأسلاف اليهود كان خطّاً أحمر لم يعبره أي قائد حتى الآن”.
ثالثاً، قبل أشهر قليلة، كان لكاتب هذه السطور لقاء عاصف مع شخصية فكرية كويتية بارزة، تحدّث فيه بطلاقة عن “الحق التاريخي لليهود في فلسطين” بوصفه أمراً يجب الاعتراف به كـ”حقيقة تاريخية”. أخطر ما في الأمر هنا أن هذه الشخصية التي كانت تنتمي إلى تيار تقدمي وعروبي، كانت لها المواقف الإضافية التالية حول القضايا الرئيسة الأخرى المرتبطة بالحق التاريخي:
– حين قلنا له إن دولة إسرائيل ويهودا السامرة لم تستمر أكثر من 200 سنة من تاريخ مشرقي عمره سبعة آلاف سنة، ردّ بأن النص على أرض إسرائيل ورد في التوراة.
– وحين ذكّرناه بأن البدو العبرانيين هم الذين اغتصبوا أرض فلسطين من الكنعانيين الحضريين ومارسوا بحقهم وبحق المصريين الإبادات والقتل بالجملة، قال إن العبرانيين بقوا في العالم والكنعانيين انقرضوا.
– ثم حين لفتنا نظره إلى أنه إذا كان صحيحاً أن لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين، فسيكون لهم أيضاً حق في شبه الجزيرة العربية، لأن المؤرخ الكبير الراحل كمال الصليبي أثبت بالقرائن والوقائع والأسماء أن “التوراة جاءت من شبه الجزيرة العربية” (وهذا اسم كتابه)، إكتفى برسم إبتسامة غريبة على وجهه.
– أخيراً، وعندما قلنا له: هل من الحق والعدل أن نكرّس طرد 7 ملايين عربي فلسطيني من أرضهم التي عاشوا فيها على الأقل 1400 عام ونجلب مكانهم 15 مليون يهودي من كل أنحاء العالم قد لا يعرفون لا تاريخ ولاجغرافيا فلسطين، أجاب فوراً وبحماسة بالغة: يجب أن نوطّن الفلسطينيين حيث هم، ويجب أن نمنح اليهود حق التجوّل بسلام في بيروت والقاهرة وكل الدول العربية كي يشعروا بالأمن والأمان.
نقلنا هذا الحوار بأمانة وحرفاً بحرف، ليس بهدف التعريض بأحد أو إطلاق الإدانات، بل للقول بأن ما جاء على لسان ولي العهد السعودي وفي توجهات المفكر الكويتي سيكونان من الآن فصاعداً نقاط إرتكاز الخطاب الخليجي في التعاطي مع مسألة السلام مع إسرائيل. أي: الانطلاق من/والتشديد على مسألة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، والذي يعني فوراً أن الفلسطينيين كانوا هم المُحتلين والغزاة وليس الحركة اليهودية الصهيونية.
قد يعتقد البعض أن مثل هذا المنطق هو مجرد أداة فكرية لتحقيق غرض سياسي أو أمني، مثله مثل تبرير مصر والأردن للسلام مع إسرائيل وإن على نحو معكوس: من الواقعية السياسية إلى وعد التطبيع الفكري – الإديولوجي لاحقاً.
لكن الأمر ليس على هذا النحو على الإطلاق. ففي تضاعيف جعبة السلام الخليجي ما ألمحنا إليه في البداية: زلزال حضاري كبير.
كيف؟ (للحديث صلة)