عن سيرة اللبناني جورج عبدالله و”الفصائل الثورية”

Avatar18001/09/2020
"وراء العدو في كل مكان" هو الشعار الذي رفعته "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية"، التي شكّلت على مدى سنوات لغزاً محيراً ضلّل المخابرات العالمية لا سيما الفرنسية، فعجزت لسنوات عن تفكيك أحرف تنظيم لطالما إرتبط إسمه بإسم احد قادته جورج عبدالله المعتقل في السجون الفرنسية منذ 36 عاماً برغم إنتهاء محكوميته.

ولدت “الفصائل الثورية” التي ضمت مجموعة من المناضلين العقائديين، من رحم الأحزاب اللبنانية والتنظيمات الفلسطينية المقاومة. لم تنحرف بندقية أفرادها الى زواريب الحرب الأهلية كما فعل الآخرون.

قامت “الفصائل الثورية” على أساس بنية تنظيمية حديدية معقدة،  أحيطت بجدار سميك من السرية التي اقتضتها متطلبات العمل السري، أي وفق نموذج العلاقات العامودية (العنقودية) فيما الجامع بينهم هو “الإيمان المطلق بالبندقية المقاومة ومقاتلة الأعداء على امتداد العالم”، على حد تعبير أحد من كانوا جزءاً من هذه “الخلايا”..

عملت قيادة “الفصائل”  على تشكيل مجموعة من الخلايا العسكرية للعمل الخارجي (نقل المعركة مع العدو إلى الخارج) والتي تضم بدورها عددا من الأفراد الذين يتمتعون بمهارات عسكرية عالية جدا سواء بالعمل السري أو في مجال “حرب العصابات” التي كانت ركنا أساسيا من أركان عقيدتها العسكرية.. إذا أن لكل واحد من الأفراد عمله واختصاصه المتقن.

آثرت المنظمة أن يكون توقيت الإعلان عن انطلاقتها تقليدياً، إذ أن بيانها الأول حمل خبر الهجوم الذي إستهدف رئيس البعثة الأميركية في فرنسا كريستيان تشابمان في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1981، الذي نجا من محاول لاغتياله في منطقةChamp de Mars ، بعدما لاحظ أن شاباً ذو ملامح شرق أوسطية يتجه نحوه، فسارع الى الانبطاح أرضاً والاختباء تحت سيارته متفادياً الرصاصات التي أطلقت عليه. وأعلنت المنظمة ان “مجموعة صالح المصري” هي التي نفذت العملية، موضحة في بيان صادر عنها في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1981 ان الهجوم “هو رسالتنا الأولى الموجهة الى الرئيس الأميركي (رونالد) ريغان وزعامته الامبريالية التي تقوم بعملية تدمير منظمة للبنان والتي أعلنت بمناورتها الأخيرة حربا مكشوفة ضد جميع حركات التحرر في العالم”.

 لم تتأخر المنظمة كثيرا في توجيه رسالتها الثانية، فلم يكد يمض شهر على محاولة اغتيال تشابمان، حتى سدّدت ضربتها الثانية  بعدما انتقت هذه المرة تشارلز راي، الضابط في الاستخبارات العسكرية الأميركية، والذي كان يشغل منصب مساعد الملحق العسكري الأميركي في باريس. ففي 19 كانون الثاني/يناير 1982 انتظر شاب من المنظمة راي خارج شقته في بولفار اميل أوجييه في الدائرة الـ16 من باريس. وعندما همّ بركوب سيارته، أطلق عليه الشاب رصاصة واحدة  من مسدس من طراز 7.65 ملم استقرت في صدره، فقتل على الفور. وقد تبنت “الفصائل الثورية” الهجوم.

أما “الصيد الاثمن” للمنظمة، فكان احد قادة جهاز “الموساد” الاسرائيلي في أوروبا ياكوف بارسيمانتوف، الذي كان يتولى مهمة السكرتير الثاني في السفارة الإسرائيلية في باريس، وكان يعرف في الأوساط الصحافية الغربية بـأنه “حذر جدا”، وحاز على ثقة شخصيات فرنسية كبيرة.

في نيسان/أبريل 1982 تمكنت شابة سمراء في العشرين من عمرها من إطلاق النار على ارسيمانتوف، أمام مدخل المبنى الذي كان يقطنه، وأصابته بخمس رصاصات من مسدسها في عنقه ورأسه، ثم لاذت بالفرار.

ومع حلول 22 آب/أغسطس 1982، فُجعت الأجهزة الأمنية الفرنسية بنبأ مقتل اثنين من خبرائها اثناء محاولاتهما تعطيل طرد ملغوم أرسلته “الفصائل” الى المحلق التجاري في السفارة الأميركية في باريس ردوريك غرانت.

في 15 أيلول/سبتمبر 1982، تلقت إسرائيل التي كانت ما تزال تحت تأثير صدمة ارسيمانتوف، ضربة جديدة من “الفصائل” التي زرعت إحدى خلاياها عبوة ناسفة في محفظة دراجة نارية استهدفت سيارة الديبلوماسي الإسرائيلي اموس مانيل في احد الأحياء الباريسية. وقد كان يعمل في مكتب المشتريات الإسرائيلي في فرنسا وهو تابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، الأمر الذي أدى الى مقتله مع اثنين من الموظفين التابعين للمكتب المذكور. وقد وضعت المنظمة هذه العملية في “سياق الرد الطبيعي على الاجتياح الإسرائيلي للبنان” (1982).

ومع الاستنفار العالمي لأجهزة الاستخبارات  الفرنسية والأميركية والإسرائيلية،  لجأت المنظمة الى تغيير تكتيكها الميداني،  فوجهت نشاطها نحو مدن فرنسية أخرى وخصوصاً مرسيليا، وذلك عبر تفجير الجناح الأميركي في معرض تجاري في محاولة لاستهداف القنصل الأميركي.

وفي محاولة لتشتيت أنظار الشرطة الفرنسية، اختارت “الفصائل الثورية” مدينة ستراسبورغ، أما الهدف فهو القنصل الأميركي في المدينة ربورت هوم، الذي كتبت له الحياة من جديد بعد تلقيه عدة رصاصات في رأسه وعنقه أثناء توجهه الى عمله في الثامنة صباحا، وذلك على يد شاب ينتمي لـ”الفصائل” نجح على إثرها في التواري عن الأنظار.

لاحقا، أعلنت المنظمة في بيان مسؤوليتها عن هذه العملية، ووصفت هوم بأنه “معروف جيدا بنشاطه كعضو في وكالة الاستخبارات الأميركية”، مشيرة الى “المناورات الامبريالية الفرنسية التي تحاول تغطية التدخل الفرنسي في لبنان”.

ولم تكد تمض فترة وجيزة على اغتيال هوم، حتى وقع خبر محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في باريس مائير روزين، كالصاعقة على المخابرات الفرنسية، خصوصا وان “الفصائل” استخدمت أسلوبا تضليلياً، تمثل بتفخيخ دراجة هوائية وركنها بمحاذاة مفترق طرق يضطر السفير التوقف عنده عادة من أجل تأمين سيره. فحالت أجهزة التشويش التي كانت داخل سيارة السفير دون انفجار العبوة.

إقرأ على موقع 180  "أوراسيا ريفيو": إخفاق دبلوماسي أمريكي كبير

 إلا ان نجم هذه المنظمة بدأ بالأفول مع نجاح السلطات الفرنسية في اعتقال جورج عبد الله في 24 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1984، في مدينة ليون الفرنسية، وذلك بتهمة استخدام جوازي سفر مزورين (إيطالي ومالطي) واستخدامه إسماً مستعاراً هو “عبد القادر السعدي”.

سبق ذلك إلقاء القبض على عبدالله محمد المنصوري في مدينة تريست الايطالية في آب/أغسطس من العام نفسه، وذلك بينما كان ينقل ما بين 7 إلى 8 كيلوغرامات من مادة “سمتكس” الشديدة الانفجار من جمهورية يوغسلافيا السابقة. كما وقعت جوزفين سركيس، في شباك الشرطة الايطالية في مطار ليوناردو دافينشي في روما في كانون الاول/دسيمبر من العام نفسه أيضا.

وبعد حوالي السنة على اعتقال عبدالله ورفاقه، وتحديدا في نيسان/أبريل 1985، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية، ان “الاستخبارات (الفرنسية) أغارت على مخبأ اسلحة عبارة عن شقة كان يستأجرها شخص لبناني “ثائر” قرب الشانزليزيه”. وقد عثرت فيه على 20 كيلوغراما من المتفجرات وقاذفي صواريخ ومجموعة مختلفة من الأسلحة، بينها مسدس تشيكي من عيار 7  ملم”. وأوضح الناطق باسم الوزارة ان الشرطة التي كانت تستجوب جورج عبدالله اكتشفت بالصدفة مخبأ الأسلحة هذا وذلك بعد أن علمت ان عبدالله كان يدفع إيجار شقة في باريس عبر حساب في بنك سويسري.

وفي محاولة للضغط على فرنسا، أقدمت “الفصائل” على اختطاف مدير المركز الثقافي في بيروت جيل سيدني بيرول، في 24 آذار/مارس 1985 في مدينة طرابلس، وطالبت بإطلاق الثلاثة المعتقلين. ثم ما لبث ان أطلق سراح بيرول بعد أن تمكن “تنظيم محلي” من تحريره بعد 10 أيام على احتجازه، في أثناء نقله الى قرية في شمال البقاع.

من القبيات.. البدايات

في حي الضهر في بلدة القبيات، عاش جورج عبدالله طفولته بعد أن إنتقل مع عائلته من طرابلس الى مسقط راس العائلة في القبيات، فجورج من مواليد القبة طرابلس في العام 1951، شأنه شأن كل أبناء أفراد المؤسسة العسكرية اللبنانية حيث كانت تنتقل العائلة مع رب الأسرة الى مكان قريب من مركز الخدمة العسكرية.

عاش جورج مع إخوته الثمانية حياة بسيطة، في منزل متواضع، تميزوا بصدقهم وبأخلاقهم العالية فورثوا عن والدهم حب الأرض والوطن وعن والدتهم العزة والعنفوان، لم يطلبوا يوما المساعدة من أحد ولم يتزلموا لأحد، ولم يشتك أحد منهم في كل القبيات والجوار.

وآل عبدالله هم جب من عائلة عبدو وهي من أكبر وأعرق العائلات في القبيات، غالبية أفراد العائلة نزحوا الى بيروت منذ سنوات، حتى أن غالبيتهم لم يعد يملك أرضا في القبيات، وذلك بإستثاء عائلة جورج التي ما زالت تقطن في القبيات.

حصل جورج وشقيقه جوزيف على البروفيه الفرنسية في الوقت الذي كان فيه قلة من أهالي القبيات متعلمين، حيث كان العلم حكرا على أبناء الطبقة الثرية، فغلبوا أقرانهم من أبناء الجاه والمال، وثاروا على الاقطاع والموروث السياسي.

ويقول جورج معيكي إبن بلدة القبيات، عن جورج عبدالله إنه ككل إخوته “كان صادقا وصاحب شخصية قوية ورثوها جميعا عن والدتهم. لم يكن يتأفف من أي شيء بالرغم من ضيق الحالة المعيشية، ولم يكن يكترث لكيفية تأمين الطعام والشراب، بل يفكر بكيفية تأمين ثمن كتاب يقرأه، هو إبن عائلة “قديسة” أنجبت أحرارا نفتقد مثيلهم في زمننا هذا”.

ويعود المدرس المتقاعد إبراهيم زمتر في الذاكرة الى الوراء، ويقول “أنا شقيق جورج الذي لم تلده أمه، فنحن درسنا سويا في مدرسة الذوق الرسمية وتخرّجنا سويا من دار المعلمين في الأشرفية في العام 1971، وجرى تعييننا سويا في بلدة شليفا في البقاع وسكنا المنزل نفسه وتقاسمنا كل شيء، الطعام والمال والحزن والسعادة”.

يفتخر إبراهيم كونه كان رفيق درب جورج، “فمن عايش جورج لا يمكن أن ينساه، لقد كان ذكيا جدا، وصادقا، يحب الرياضة، والصيد وكنا نسبح سويا في نهر الجب في البلدة، ونشتري الكتب سويا، فلقد كان لدى جورج شراهة قوية على القراءة فنذهب بإستمرار الى إحدى المكتبات في بيروت للاطلاع على الكتب الجديدة وإستكشاف مضمونها، وكان جورج يقلب جميع الكتب وينتقي العديد منها”.

يضحك إبراهيم قليلا ويتردد في الكلام من ثم يتابع سأخبرك فهي قصة جميلة، “عندما كان يعجز جورج عن شراء الكتب بسبب ضيق الأحوال المادية كان يأخذ الكتاب خلسة عن صاحب المكتبة يقرأه بسرعة من ثم يعيده من دون أن يشعر أحدا، لم يكن يعتبر ذلك محرما بل هي إستعارة بهدف المعرفة وهي مبررة عند الرب” (المصدر: جريدة “السفير”، بتصرف من مقالتين لكل من علي دربج ونجلا حمود بتاريخ 24/10/2016)

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  بيروت.. قصة موت مدينة