حتى الآن، تعطي معظم إستطلاعات الرأي فوزاً للمرشح الديموقراطي جو بايدن، بإستثناء مكاتب المراهنات والقمار التي يراهن معظمها على فوز دونالد ترامب، لكن مع إحتدام المنافسة في ربع الساعة الأخير، يواصل ترامب جر الولايات المتحدة نحو مناخ عنصري لا مثيل له في العقود الأخيرة، فهو يؤجج الموقف الإنتخابي ويثير قضايا خلافية ويطرح أسئلة حول آليات الإنتخاب وإحتساب النتائج ويحرّض مناصريه ويطلب إنزال الشرطة الفدرالية ضد المتظاهرين في المدن.
في هذه وغيرها، مضمون رسالة ترامب واحد. تهديد الأميركيين. تحذيرهم من التصويت لليسار. لكأنه يقولها بالفم الملآن: بإنتخابكم بايدن، أنتم تنتخبون الفوضى والتخريب وتهدّمون بلادكم. حتى العسكر الأميركي لم ينج من سهامه، بوصفه مشاة البحرية الأميركية المدفونين في مقبرة قرب باريس بأنهم “خاسرون”، قبل أن يتنصل لاحقاً من تصريحاته التي لاقت ردود فعل عنيفة.
زدْ على ذلك أن جائحة “كوفيدـ19” التي تعتبر من بين أهم الأسلحة الإنتخابية بسبب إرتفاع الأرقام وركود الإقتصاد ومؤشراته التي تزداد سلبية. فمن جهة، يجاهد ترامب لإيجاد اللقاح وفتح الإقتصاد، ومن جهة أخرى، لا يفوت خصمه بايدن مناسبة إنتخابية إلا ويطلق النار على الإدارة الجمهورية ويحملها مسؤولية تفاقم المرض وإزدياد الوفيات وركود الإقتصاد بسبب عدم إمتلاكها خطة مكتملة الملامح. حتماً سيكون للإقتصاد كلمته في ضوء إنخفاض التوظيف وزيادة البطالة.
الإحتدام الإنتخابي يبلغ ذروته مع المناظرات الرئاسية الثلاث بين ترامب وبايدن، الأولى في كليفلاند، بولاية أوهايو، في 29 أيلول/سبتمبر، والثانية في ميامي، بولاية فلوريدا، في 15 تشرين الأول/أكتوبر، والثالثة في ناشفيل، بولاية تينيسي، في 22 تشرين الأول/أكتوبر، علما أن ترامب تحدى خصمه بدعوته إلى عقد مناظرات إضافية، لكن لجنة المناظرات الرئاسية رفضت طلبا تقدمت به حملته. أما بايدن، فلا مطلب له إلا وضع ضوابط لأكاذيب ترامب، أثناء المناظرة نفسها، خاصة وأن الرئيس الحالي يعتمد قاعدة “إكذب ثم إكذب حتى تصدق نفسك”.
هذا الاصطفاف العامودي يجعل البيت الأميركي الواحد منقسماً على نفسه، إلى درجة أن الأبناء أو الاخوة لا يتحدثون مع بعضهم البعض
ما هي العناوين التي يحاول ترامب التركيز عليها؟
أولا، القضايا الشخصية؛ يريد ترامب التركيز على مسألة العمر والقدرات عند بايدن، لذلك، طلب إخضاعه هو (74 عاما) ومنافسه الديموقراطي (77 عاما) لاختبار تعاطي عقاقير منشطة قبل المناظرة الأولى بينهما لكي يدلل على قوته البدنية وضعف خصمه. لن يترك ترامب مفردة إلا ويستنجد بها (بايدن “غبي” و”عجوز” و”خرف” و”ضعيف” و”نعسان” و”يفتقر لمواصفات القيادة” إلخ…)
ثانياً، الخطاب العنصري؛ ثمة مناخ سيجعل ترامب يجنح نحو أقصى اليمين العنصري ولن يتردد في التحريض ليس ضد بايدن والديموقراطيين بل ضد كل من لا يشاطره الرأي، بمن فيهم الجمهوريون المحافظون والمعتدلون، وبعض هؤلاء قرر مقاطعة مؤتمر ترشيحه الأخير. وخير دليل على ذلك، تأييده المرشحة ماغوري غرين للكونغرس عن ولاية جورجيا التي ربحت ضد كل منافسيها الجمهوريين بدعم من ترامب، وهي تملك فرصة كبيرة جدا في ربح المقعد الذي يمثل تلك المقاطعة المحافظة جدا، بما تمثل من مجموعات أصحاب الفكر المؤامراتي مثل مجموعة QAnon التي تؤمن بأن العالم محكوم من جماعة “الالوميناتي” التي تعمل ضد ترامب بوصفه “مخلص البشرية”!
يصبح السؤال: أمام “حفلة الجنون” التي يقودها ترامب، هل يمكن أن ينجح بايدن في إعادة الولايات المتحدة إلى رشدها؟
في جلسة نقاش مع صديق، وهو طبيب في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الشمالية، لفت إنتباهي إلى نقطة هامة. كنت قد سألته هل تعتقد أن هناك من لم يقرر من سينتخب في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل فأجاب: “في ظل هكذا إنقسام عامودي في الولايات المتحدة، من الصعب جدا أن تجد الكثير من المحايدين الذين لم يقرروا بعد من سينتخبون، خاصة بعد أن إختار بايدن نائبته كاميلا هاريس (56 سنة) لتكون إلى جانبه. وإذا كان هناك من لم يقرر من سينتخب بعد، فهؤلاء لا يريدون أن يعلنوا أنهم مع ترامب أو أنهم سينتخبونه أو أنهم لن يصوتوا بسبب الانقسامات الحادة جدا في البلاد”.
هذا الاصطفاف العامودي يجعل البيت الأميركي الواحد منقسماً على نفسه، إلى درجة أن الأبناء أو الاخوة لا يتحدثون مع بعضهم البعض (يذكرنا ذلك بلبنان وإنقساماته العامودية بين 8 و14 آذار/مارس منذ 15 سنة).
من الواضح أن اليمين الجمهوري المتطرف يتغذى من صحن خطابات ترامب اليومية التحريضية ضد تحركات الشارع اليومية واتهامه تلك الحركات بأنها “إرهابية” و”يسارية” و”فاشية”، خاصة في المدن الأكثر ليبرالية مثل سان فرانسيسكو وسياتل ونيويورك.
الصراع في الحزب الجمهوري تحديداً ضد الترامبية قد وحّد العديد من القوى، فهناك تكتلات منها “اللنكولن بروجكت” الذين جعلوا عبارة “ترامب، الرئيس الكذاب” عنوان دعاية لهم على “تويتر”
في المقابل، وبرغم أن الحزب الديموقراطي يقدّم نفسه بوصفه قادراً على جمع كافة أطياف المجتمع الأميركي من البيض الشباب إلى السود مرورا بكافة الأقليات، لكن الملاحظ أن جزءاً منه ينعطف نحو مواقع أكثر ليبرالية وحتى إشتراكية بقيادة بيرني ساندرز، وذلك في إطار التحولات التي يشهدها المجتمع الأميركي، وبعضها رداً على تطرف ترامب، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن شخصاً مثل أدولف ريد الأستاذ الماركسي المتقاعد من جامعة بنسلفانيا (73 عاما)، الشخصية المحترمة جداً في أوساط التقدميين في الولايات المتحدة، لم يكن مرغوبا به في الأوساط السوداء وبين التقدميين السود، ولذلك أُلغيت محاضرته أمام أكبر تجمع ديموقراطي في نيويورك في شهر أيار/مايو الماضي، وفي المقابل، برزت شعبية عضو الكونغرس الشابة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز (29 عاما). تلك المجموعات الأفروـ إشتراكية (ومعها كورتيز) قد تختلف نظريا مع ساندرز لكنها تشدد على وجوب تحقيق المساواة وأولوية الخلاص من العنصرية قبل أي شيء آخر. اما ريد وبيرني ساندرز فيركزان على فكرة الصراع الطبقي بشكله الكلاسيكي. هذا لب الاختلاف بين الفريقين الديموقراطيين، ولكن قيمة الحزب الديموقراطي في هذه الإنتخابات أنه قرر أن يلتف بكل أطيافه حول جو بايدن.
من ناحية أخرى، فإن الصراع في الحزب الجمهوري تحديداً ضد الترامبية قد وحّد العديد من القوى، فهناك تكتلات منها “اللنكولن بروجكت” الذين جعلوا عبارة “ترامب، الرئيس الكذاب” عنوان دعاية لهم على “تويتر”. هكذا تكبر كرة الثلج وتتدحرج بتسارع أكبر بين البعض من الأغنياء الكبار المؤيدين عادة لسياسة الحزب الجمهوري وبينهم وريثة ثروة أكبر موظف في العالم وهو الول مارت حيث تشارك مع غيرها ضمن “اللنكولن بروجكت”، وهم مجموعة من السياسيين المحافظين من أمثال جورج دبليو بوش الرئيس السابق للولايات المتحدة ورجال أعمال مؤيدين للحزب الجمهوري جمعوا أكثر من عشرين مليون دولار حتى أواخر تموز/يوليو، أي قبل مئة يوم من الإنتخابات، وهذا مبلغ زهيد مقابل ما يجمعه دونالد ترامب في حملته الإنتخابية حيث خصص مبلغ 55 مليون دولار لمحاربة “اللنكولن بروجكت”.
طبعاً، لقد اثبت ترامب انه أقوى من كل تلك المجموعات بقدرته على جمع التبرعات لأجل حملته، فهو قد جمع مليار ومئة مليون دولار وبقي معه حوالي الاربعمئة مليون، ولكن بايدن يقترب من نفس مستوى ترامب، فهو جمع أقل بقليل، ولكن بعد أن إختار هاريس لكي تكون شريكته في الرئاسة، اعطته هذه الخطوة زخما كبيرا وحماسة زائدة فقد جمع له باراك أوباما في يوم واحد 48 مليون دولار.
ثمة معركة لا يتورع فيها ترامب عن كسر المحرمات؛ كأن يقف إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهجومه الدائم على أجهزة استخبارات الدولة الأميركية في سابقة لا مثيل لها
ولو عدنا إلى إنتخابات العام 2016، لوجدنا أن هيلاري كلينتون فازت شعبيا على ترامب بأكثر من ثلاثة ملايين صوت، ولكن ترامب ربح المعركة عليها بأصوات المجمع الانتخابي حيث ربح 302 وهي جمعت 232 صوتا فقط. النتيجة الأهم هي ربح أصوات المجمع الانتخابي حيث الهدف هو ربح اكثر من 270 صوتا، وهذا ما يمثل عدد أصوات الولايات. وحتى يربح ترامب هذه المرة، عليه على الأقل أن يعيد ربحه الذي حققه في ست ولايات وهي: أوهايو، فلوريدا، بنسلفانيا، ميشيغين، ويسكونسن وكارولينا الشمالية. (يقول الديموقراطيون إنه لا تجوز المقارنة بين بايدن وهيلاري لأن الأخيرة جاءت إلى المعركة محملة بإرث زوجها رئيساً لثماني سنوات، وبإرثها الشخصي السياسي الحافل بالطلعات والنزلات، بينما تكاد تكون صفحة بايدن السياسية والأخلاقية بيضاء سلباً وإيجاباً).
أما خط الدفاع الأخير الذي أوصل ترامب فعلياً إلى سدة الرئاسة، فهو حصوله على 75 الف صوت في ثلاث ولايات هي ويسكونوسن، بنسلفانيا، وميشيغين. وهذه المرة تدل كافة استطلاعات الرأي أكانت من اليمين أو اليسار، ومن دون مفاجآت، أن تحقيق تلك النتيجة ما زال بعيد المنال، خاصة في ميشيغين حيث الصوت العربي فيها قوي ومؤثر، فضلا عن الحضور العمالي الذي يميل تاريخياً للديموقراطيين، علما أن ترامب خسر الكثير في ميشيغين على مدى سني ولايته الأولى، سياساته المعادية للمسلمين، حيث أصدر في اليوم الأول لولايته أمرا بمنع عدد من الدول ذات الأكثرية المسلمة من السفر إلى الولايات المتحدة.
وفي ويسكونسن، فإن حظوظ جو بايدن كبيرة هذه المرة خاصة وأن مؤتمر الحزب الديموقراطي قد إنعقد فيها، وهذا ما أعطي دفعا كبيرا ضد ترامب. وكذلك يبدو أن ولاية أوهايو الحيوية جدا لن تكون مضمونة لترمب، برغم أنها منذ العام 1976 كانت تميل إلى حيث تكون الرئاسة في البيت الأبيض، أما هذه السنة، فقد كانت كلمة حاكم ولاية أوهايو السابق الجمهوري جون كايسيك من أهم الكلمات في مؤتمر الحزب الديموقراطي، وأعلن فيها، كما جورج بوش وميت رومني، تأييده لبايدن.. ورسالة هؤلاء واضحة: إذا تعقّلت الولايات المتحدة يعود العالم إلى رشده ويصحو من كابوس الزعماء وجنون العظمة. لذلك، لا بد من التخلص من ترامب.
ثمة معركة لا يتورع فيها ترامب عن كسر المحرمات؛ كأن يقف إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهجومه الدائم على أجهزة استخبارات الدولة الأميركية في سابقة لا مثيل لها؛ فهكذا اتهام يصدر عادة عن رؤساء دول تختلف مع أميركا، وليس عن الرئيس الأميركي نفسه. يسري ذلك على هجومه على جنود المارينز الأميركيين برغم تنصله منه. هذه العناوين وغيرها تطرح في الوقت نفسه موقف الدولة العميقة من المرشحين الإثنين.
لذلك، يصبح الحديث عن خسارة أو ربح كلا المرشحين ترامب ام بايدن سابقاً لاوانه.
هناك “مفاجأة تشرين”، كما يقولون في السياسة الأميركية. فهل سيكون ترامب نفسه “مفاجأة تشرينية”؟