أسفرت نتائج الانتخابات النيابية في الكويت عن تغيير في الوجوه بنسبة 62 في المائة، في دلالة على رغبة عميقة لدى الناخبين بتغيير جذري في التوجهات، بعد غضب عارم تفاقم خلال السنتين الماضيتين على أداء مجلس الأمة السابق، لا سيما في محطات مفصلية مثل قضية العفو عن بعض رموز المعارضة المنفيين في اسطنبول بعد صدور أحكام بسجنهم على خلفية اقتحام مجلس الأمة في 2011 احتجاجاً على رشى تلقاها 11 نائباً من الحكومة آنذاك.
عقدت الانتخابات هذه السنة في ظل معطيات جديدة أبرزها غياب الأمير صباح الأحمد الصباح الذي حكم الكويت منذ 2006 حتى 2020 ليتوفاه الله بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر الماضي، وفي ظل تفشي وباء كورونا الذي لم يمنع الناخبين من الإقبال بكثافة للإدلاء بأصواتهم الاعتراضية لأن الكيل قد طفح بالنسبة لشرائح واسعة منهم.
وللأمير الجديد الشيخ نواف الأحمد الصباح توجهات مختلفة عن سلفه، خصوصاً في ما يتعلق بحل خلافات الأسرة الحاكمة والتي تقاقمت بعد 2011 أثر تفجير جريدة “القبس” قضية الإيداعات المليونية التي وجدت في حسابات نواب، وتبين ان مصدرها اطراف في السلطة تحارب اطرافاً أخرى بسلاح شراء ذمم نواب لزوم استجوابات يهين فيها الراشي خصمه من أبناء الاسرة الواحدة ليقضي على طموحاته بالتطلع الى فوق. وابرز تلك الخلافات ما انفجر بين رئيس الحكومة آنذاك الشيخ ناصر المحمد الصباح (ابن أخ الأمير) والشيخ أحمد الفهد الصباح (ابن اخ آخر للأمير ايضا). وكانا نجمين صاعدين على سلم السلطة فاذا بحربهما تورط النظام وتغير وجهته في التعاقب على المواقع السيادية.
كما أن الانتخابات جرت في ظل هبوط أسعار النفط، وتسجيل الموازنة عجوزات تاريخية متتالية منذ 2014 جففت الاحتياطي العام واقتربت من أموال صندوق الاجيال المقبلة، في وقت ترفض فيه المعارضة التسليم بأرقام ذلك العجز لانها ترمي كرة المسؤولية في ملعب الحكومات المتعاقبة المتهمة بالفساد والهدر، فضلا عن اتهام الحكومة الحالية بأنها لا تقوى الا على ترشيد الانفاق الاجتماعي، مقابل عجزها عن تخفيض الانفاق الاستثماري الذي يفيد طبقة التجار الأقوياء سياسياً.
الى ذلك، انفجرت في العامين الماضيين قضايا فساد جديدة تقدر بنحو 10 مليارات دولار في صندوق للجيش وتعاملات مليارية مشبوهة مع رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق، اضافة الى فساد في وزارات الداخلية والدفاع والنفط والزراعة والبلدية والطيران المدني وغيرها من المرافق العامة التي على رأسها بعض النافذين المحميين.
وبعض تلك القضايا متورط فيها، وفقاً لصحف محلية وأجنبية ودعاوى قضائية أسماء مثل رئيس الحكومة السابق الشيخ جابر المبارك الصباح وأولاده، الوزير السابق الشيخ خالد الجراح الصباح، اضافة الى اتهامات طالت محمد الخالد الصباح شقيق رئيس الحكومة الحالية صباح الخالد الصباح.
كما ان الانتخابات هذه السنة تأثرت بفضيحة التنصت الذي تمارسه وزارة الداخلية على هواتف المواطنين وحساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدت الى عزل مدير جهاز أمن الدولة طلال الصقر، واتهام وزير الداخلية أنس الصالح بالتغطية عليه لأسباب متعلقة بموقع الصالح ومن يمثل في تحالف السلطة وطبقة التجار وعلى رأس هؤلاء محمد الصقر رئيس غرفة التجارة والصناعة.
فقدت السلطة ومعها رئيس مجلس الأمة عدداً من النواب المحسوبين على الحكومة أو مرزوق الغانم، بشكل مباشر أو غير مباشر
وبالعودة الى نتائج الانتخابات يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولاً، فقدت السلطة ومعها رئيس مجلس الأمة عدداً من النواب المحسوبين على الحكومة أو مرزوق الغانم، بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل أحمد الفضل وصفاء الهاشم ورياض العدساني وفيصل الكندري وعلي الدقباسي وعمر الطبطبائي وسعدون حماد وصالح عاشور وعسكر العنزي وخلف الدميثير وسعد الخنفور والحميدي السبيعي وغيرهم من النواب الذين تقول المعارضة ان الحكومة والغانم جعلا منهم مطية ضد الخصوم لتجيير اصواتهم ومواقفهم في معركة ضرب المعارضة والحؤول دون تأثيرها في المجريات السياسية للبلاد.
ثانياً، فاز عدد كبير من الأشخاص المحسوبين على المعارضة، حتى أن بعض الاطراف ترى في الوجوه الجديدة خطراً على صيرورة المجلس الجديد نفسه المهدد دائما بالحل في الكويت اذا تعاظم حضوره بوجه السلطة وحلفائها. وصدرت اليوم (الأحد) اصوات كثيرة بين الفائزين تنادي بعدم اعادة انتخاب مرزوق الغانم لرئاسة المجلس، وانتخاب شخص اكثر حيادية في مسافة ضرورية يجب أن يأخذها رئيس المجلس مع الحكومة والأسرة الحاكمة، لأن التماهي بين رئاستي الحكومة والمجلس “يولّد أوضاعاً شاذة”، برأي المعارضين.
ثالثاً، غابت المرأة عن المجلس الجديد بعدما خسرت صفاء الهاشم مقعدها الذي عززته بالتحالف مع مرزوق الغانم من جهة، وبمواقفها المهاجمة للوافدين الذين تتهمهم بأنهم جزء أساسي من مشاكل البلاد من جهة أخرى، ورفعت لواء تعديل التركيبة السكانية وطلبت ترحيل مئات آلاف الوافدين العرب لا سيما المصريين منهم، وهذا ما لا تقوى عليه الكويت بوجه الحليف العربي الأقوى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويذكر انه يوجد في الكويت نحو 600 ألف مصري!
رابعاً، تكرست خسارة الشيعة بعض نفوذهم ولم يستطيعوا العودة الى سابق عهدهم الذهبي في ايصال 9 نواب الى المجلس، ولم يحصلوا الا على 6 مقاعد مع تغيير جزئي في الوجوه لا سيما تلك المتحالفة مع مرزوق الغانم ومن ورائه السلطة. وما فوز المعارض حسن جوهر بمقعد نيابي شيعي هذه المرة الا مجرد تعبير عن المسافة الجديدة التي يأخذها بعض الشيعة مع السلطة، وتوجههم لملاقاة شرائح أخرى من السكان لا سيما ابناء القبائل والبدو الممتعضين مما آلت اليه الأمور. كما أن تراجع عدد أصوات النائب الشيعي السيد عدنان عبد الصمد دلالة على رغبة في تغيير التوجهات الشيعية. وفقد اشهر النواب الشيعة النائب السيد عبد الصمد كثيراً من تأثيره بعدما خفف لهجة معارضته التي تميز بها سابقاً ثم اقلع عنها بعدما اتهم باقامة مجلس تأبيني بعد اغتيال عماد مغنية في 2008 وانقذته السلطة من ورطة طائفية وقضائية وأمنية كبيرة آنذاك لأن مغنية بنظر الكويتتين متهم بأعمال أمنية وخطف طائرة كويتية في العام 1988.
نتائج الانتخابات الجديدة تشير الى ان مرحلة مختلفة بدأت تتشكل تريد منها المعارضة الحد من نفوذ التجار والحؤول دون تغولهم في الاقتصاد والمواقع الاستثمارية الاساسية على حساب بقية الطبقات الاجتماعية لا سيما القبائل والبدو
خامساَ، غاب التمثيل السلفي عن التركيبة الجديدة للمجلس المنتخب لأسباب منها تحالفه مع السلطة. واصبح لحركة الاخوان المسلمين المسماة الحركة الدستورية الاسلامية “حدس” في الكويت 3 مقاعد. وهذه الحركة متجذرة في المجتمع الكويتي برغم محاولات الشيطنة السعودية والإماراتية لها، وبرغم المحاولات المحمومة لاقصائها عن المشهد السياسي الكويتي، الا انها اعتمدت سياسة مرنة بين الموالاة والمعارضة للحفاظ على توازنها، مقابل هجمة شرسة عليها، علما بان التمثيل التاريخي للحركة لا يستهان به في الإدارة العامة ومفاصل أساسية أخرى في البلاد لا سيما في الجامعات وبين العائلات المحافظة.
سادساً، كان الهدف من اعتماد الصوت الواحد في الانتخابات منذ العام 2012 تفتيت المعارضة التي تعاظم خطرها آنذاك واسقطت حكومة الشيخ ناصر المحمد الصباح. لكن نتائج الانتخابات التي جرت أمس (السبت) اظهرت ان ذلك النظام الانتخابي لا يحول تماما دون تشكل المعارضة بشكل او بآخر ليس بتحالفات مسبقة بل بشعارات وطنية عابرة للدوائر الانتخابية وجامعة للمتنافسين في نهاية المطاف تحت قبة البرلمان.
سابعاً، في الكويت حلف تاريخي بين طبقة التجار الحضر وأسرة الصباح. وتجذر ذلك التحالف بين الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح ورئيس مجلس الأمة الراحل جاسم الخرافي ومن بعده مرزوق الغانم ابن الرئيس السابق لغرفة التجارة علي الغانم وابن اخت الخرافي. وتجذير ذلك التحالف صمد نسبياً بوجه المعارضة الشعبية والاسلامية والقبلية، لكن نتائج الانتخابات الجديدة تشير الى ان مرحلة مختلفة بدأت تتشكل تريد منها المعارضة الحد من نفوذ التجار والحؤول دون تغولهم في الاقتصاد والمواقع الاستثمارية الاساسية على حساب بقية الطبقات الاجتماعية لا سيما القبائل والبدو.
ثامناً، نشوة المعارضة واضحة جدا في تعليقات بعض رموزها على نتائج الانتخابات. فالنائب الاسلامي السابق فيصل المسلم والمنفي في اسطنبول اكد اليوم (الأحد) ان النتائج تعبر عن غضب الناس من المجلس السابق، وشكر الناخبين لانهم لبّوا النداء وتوجه للسلطة بالقول: تعالوا الى كلمة سواء بيننا. وطالب الاسلامي والمنظر الشهير عبدالله النفيسي بحكومة انقاذ وطني برئيس جديد ووزراء جدد، واللافت للإنتباه انه طالب ايضا بتحقيق وطني بالوضع المالي للدولة على خلفية قضايا الفساد بالمليارات التي اثيرت مؤخرا.
تاسعاً، في الارقام الاولية هناك 23 نائبا معارضا بشكل واضح (في الشعارات المعلنة على الاقل) اضافة الى 11 نائباً معارضا “على القطعة” وبينهم نواب الاخوان المسلمين (حدس)، أي ان المعارضة باتت تشكل حاليا 68 % من مجمل البرلمان. في المقابل، هناك 16 نائبا حكوميا ومتحالفا مع مرزوق الغانم، وفي ذلك معضلة عصية على التجاوز تبدأ في انتخابات رئاسة المجلس التي ترشح لها مرزوق الغانم وينافسه نائب جديد هو بدر الحميدي الذي يطرح نفسه بديلاً.
عاشراً، لن يصمد المجلس الجديد حتى الصيف المقبل باعتقاد بعض المراقبين، لأن اي استجواب سيلقى صدى واسعاً جداً بين النواب المعارضين اذا لم يصدر عفو عن المعارضة المنفية، واذا لم يجر تحييد انس الصالح عن وزارة الداخلية واي موقع حساس آخر، واذا اصرت الحكومة على اقرار قانون جديد للدين العام يطلق يدها في الانفاق كما السابق، واذا لم تلجم توجهات الفساد ويحاكم الفاسدون، واذا امعنت السلطة في حبس المغردين والتنصت عليهم، واذا تجدد التحالف بين التجار والسلطة، واذا لم يعد رموز من آل الصباح الى المشهد مثل الشيخ احمد الفهد الصباح والشيخ محمد صباح السالم الصباح لأنهما غير بعيدين عن بعض اجنحة المعارضة، واذا امعنت الحكومة الجديدة في تسويق سياسات التقشف التي تطال التقديمات الاجتماعية، واذا لم يعدل القانون الانتخابي لدفن نظام الصوت الواحد الذي اريد منه دفن المعارضة فاذا بسخرية القدر تعيد تلك المعارضة اقوى مما كانت لتشكل التحدي الأول والأكبر للأمير الجديد بعد اشهر قليلة جداً على توليه مسند الإمارة العتيدة.